نقض العهد مع الله على ترك الحرام
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: الأيمان والنذور -
أنا مدخِّنة منذ فترة وأرغب في ترْك التَّدخين لوجْه الله، وعاهدتُ الله على ألاَّ أدخِّن ولكنِّي لم أستطِع، مع العِلم أني ملتزِمة دينيًّا وأصلي، ولا أفعل شيئًا يُغضب الله من الكبائر.
أرجو معرِفة حكْمِ الدِّين في نقْض العهْد، وما يَجب عليَّ فِعْلُه؛ لأني أحبُّ الله، وأخافُ من عذابه - سبحانه وتعالى.
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقد سبقَ بيان حُكْم التَّدخين في الفتوى: "حكم التدخين"، فلتراجَع.
أمَّا مَن عاهد الله عهدًا، فإنَّه يَجب عليه الوفاء به؛ كما قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل: 91]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ . فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ . فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77].
والعقودُ هي: العهود، وهي إلزام والتزام، سواء كان فيه يمين أو لم يكن؛ ولذلك فهي أشبه بالنذر أو اليمين، وقد اختلف أهل العلم في صيغة أعاهد الله على كذا، فذهب الحنفية إلى أنها من الأيمان؛ لأن اليمين هي عهد الله على تحقيق شيء أو نفيه، كما في "الاختيار لتعليل المختار"، وهو قول للمالكية، كما في "مختصر خليل"، ومذهب الحنابلة كما في "المغني" لابن قدامة، وعند الشافعية تكون يمينا بالنية كما في "تحفة المحتاج"، وذهب أبو بكر الجصاص كما في "أحكام القرآن" إلى أن العهد نذر، فقال تعليقًا على آية التوبة السابقة: "فيه الدلالة على أن من نذر نذرًا فيه قربة، لزمه الوفاء؛ لأن العهد هو النذر والإيجاب، نحو قوله: إن رزقني الله ألف درهم، فعلي أن أتصدق منها بخمسمائة، ونحو ذلك".اهـ.
وفي "المدونة": "إن قال علي عهد الله وذمته وكفالته وميثاقه؟ قال مالك: هذه أيمان كلها قال: وأخبرني ابن أبي ذئب عن ابن شهاب، أنه قال: "من عاهد الله على عهد فحنث، فليتصدق بما فرض الله في اليمين، وقاله ابن عباس وعطاء بن أبي رباح ويحيى بن سعيد، قال ابن وهب عن سفيان الثوري عن فراس عن الشعبي قال: إذا قال : علي عهد الله فهي يمين".
وقال ابن قُدامة في "المغني": "إن قال: عليَّ عهدُ الله وميثاقُه لأفعلنَّ، أو قال: وعهدِ الله وميثاقِه لأفعلنَّ - فهو يمين، وإن قال: والعهدِ والميثاقِ لأفعلنَّ - ونوى عهد الله - كان يمينًا؛ لأنَّه نوى الحلِفَ بصفةٍ من صفات الله تعالى".
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أنها تارة تكون يمينًا ونذرًا، وتارة تكون يمينًا فقط؛ فقال - رحمه الله - في "الفتاوى": "والعهودُ والعُقود مُتقاربةُ المعنَى، أو متَّفقة، فإذا قال: أُعاهِدُ اللهَ أنِّي أحجُّ العامَ، فهو نذرٌ وعهْدٌ ويَمين، وإن قال: لا أُكَلِّمُ زيدًا، فيَمينٌ وعهدٌ لا نذر، فالأيْمان تضمَّنتْ معنَى النذر، وهو أن يلتزِمَ لِلَّه قربةً، لزمه الوفاء، وهي عَقْدٌ وعهد ومعاهدة لِلَّه؛ لأنَّه التزم لله ما يطلبُه الله منه".
وعليه فمن لَم يفِ بما عاهد الله عليه، فقد نقَض العهد الَّذي بينه وبين الله، ويجب عليه التوبة، وكفارة يمين وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "الفتاوى"، قال: "إن ما وجب بالشرع إن نذره العبد، أو عاهد الله عليه، أو بايع عليه الرسول، أو الإمام، أو تحالف عليه جماعة، فإن هذه العهود والمواثيق تقتضي له وجوبًا ثانيًا، غير الوجوب الثابت بمجرد الأمر الأول، فتكون واجبة من وجهين، بحيث يستحق تاركها من العقوبة ما يستحقه ناقض العهد والميثاق، وما يستحقه عاصي الله ورسوله، هذا هو التحقيق، وهو رواية عن أحمد، وقاله طائفة من العلماء". ثم استدل – رحمه الله - على ذلك بآيات كثيرة، منها قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}، ثم قال: "فإن الله أعلن عهده الذي أمرهم به، من بعد ما أخذ عليهم الميثاق بالوفاء به، فاجتمع فيه الوجهان: العهدي، والميثاقي".
وهذا القول أقرب للصواب، وأحوط في الدين، وأبرأ للذمة، فالواجب على السائلة الكريمة، التوبة إلى الله تعالى من شرب الدخان، والتوبة من إخلاف العهد مع الله تعالى كما يجب عليها كفارة يمين؛ لخلف العهد، وهي: إطْعام عشَرة مساكينَ من أوْسط طعامك، أو كسوتُهم، أو تَحرير رقبة، فإن لَم تجدي، فصيام ثلاثة أيَّام.
وننصَح السائلة الكريمة بالاجتهاد وتقْوية العزيمة، والاستِعانة بالله تعالى على ترْك التدخين،، والله أعلم.