حكم من وقع في الربا تقليدًا لبعض المفتين

منذ 2012-12-07
السؤال:

أنه قد قام أحدُ والديَّ بعمل قَرْض لبعضِ ظروف الحياة، وكذلك لغرَض سداد بعْضِ الدُّيون، وهو لَم يقُم بفعل ذلك إلاَّ بعد سؤال لجنة الفتوى في مصر عن ذلك، إذا كان حلالاً أم حرامًا، وقالوا: إنَّه حلال.
فهل هو حلالٌ فِعلاً؟ وإذا كان حرامًا فقد قُمنا بالأكل والشُّرب من هذا القرض، فهل من كفَّارةٍ أو قضاءٍ لكي يتوبَ الله عليْنا، فكلُّ لحم نبتَ من سحتٍ فالنَّار أولى به؟

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإنْ كان الحال كما تقول: أنَّ والِدَك قد سأل لجنة الفتْوى في بلدِك عن حُكْمِ القرض، فأجابوه بأنَّه حلال، فأخذ قرضًا رِبويًّا بناءً على فتواهم فلا شيْءَ عليْه إن شاء الله تعالى – لأن الظاهر أنه من عامَّة النَّاس الذي يجوز له التقليد في مسائل الدين، وقد سأل هؤلاء، وهو يغلب على ظنّه أنَّهم الأقرب للحق، وأنه يجبُ الرُّجوع إليْهم في هذا الباب.

فالعامِّيُّ والمستفْتِي والمقلِّد معترِفٌ بعَمَى نفسِه، مدَّعي البصيرة لغيره؛ قال أبو حامد الغزالي في "المستصْفى": العامِّيُّ يَجب عليْه الاستِفْتاء واتِّباع العلماء، والإجْماع منعقدٌ على أنَّ العامِّيَّ مكلَّف بالأحكام، وتكليفه طلبَ رُتبة الاجتِهاد محال؛ لأنَّه يؤدِّي إلى أن يَنقطع الحرْث والنَّسل، وتتعطَّل الحِرَف والصنائع، ويؤدي إلى خراب الدُّنيا لو اشْتغل النَّاس بِجُملتِهم بطلب العِلْم، وذلك يردُّ العلماء إلى طلب المعايِش، ويؤدِّي إلى اندراس العلم، بل إلى إهْلاك العلماء وخراب العالم، وإذا استحال هذا، لَم يبقَ إلا سؤال العُلماء، فإن قيل: فقد أبطلتم التقليد، وهذا عين التقليد! قلنا: التَّقْليد قبول قوْلٍ بلا حجَّة، وهؤلاء وجب عليْهِم ما أفتى به المفْتِي بدليلِ الإجماع، كما وجب على الحاكم قبول الشُّهود، ووجب عليْنا قبول خبر الواحد".

وقال شيخ الإسلام: "ما زال المسلِمون يستفتُون علماء المسلمين، فيقلِّدون تارةً هذا وتارةً هذا، فإذا كان المقلِّد يقلِّد في مسألةٍ يراها أصْلَح في دينه، أو القول بِها أرْجح، أو نحو ذلك - جاز هذا باتِّفاق جَماهير علماء المسلمين، لم يُحَرِّم ذلك لا أبو حنيفة ولا مالك، ولا الشافعي ولا أحمد".

فهذا هو التَّقليد الجائز، أمَّا التَّقليد الباطل المذْموم، فمن اتَّبع دين آبائِه وأسْلافه لأجل العادة التي تعوَّدها، وترَك اتِّباع الحقِّ بعد ظهورِه له؛ كالَّذين قال الله عنْهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، وقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ . فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات: 69، 70]، ونظائر هذا في القرآن كثير.

فهذا هو المقلِّد المذْموم، والذي حالُه كحال اليهود والنَّصارى، وحال أهل البدع والأهواء، الذين اتَّبعوا شيوخَهم ورؤساءَهم في غير الحق؛ قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً . يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً . لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان: 27 - 29]، وقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة: 166]، وغيرها من الآيات الدالَّة على أنَّ مَن أطاع مخلوقًا في معصية الله، كان له نصيبُ الذَّمِّ والعقاب.

أمَّا إن كان والدُك قدِ اتَّبع تلك الفتوى لهوى في نفسه، وهو يعلم أنهم لا يتورَّعون في الفتوى، أو عُلِم فيهم التساهل وتتبع الرُّخَص، أو علم أنَّ قولَهم باطلٌ، مُخالفٌ للحق الحقيق – فقد وقع في الربا، ولا عُذْرَ له، والواجب عليْه -والحال كذلك-: التَّوبةُ النَّصوح، ورد القرض للبنك الربوي إن تيسر له؛ لأنه من تمام توبته.

قال شيخ الإسلام: "وكلُّ مَن يُخالِف الرُّسل هو مقلِّد متَّبع لمن لا يَجوز له اتِّباعه، وكذلك مَن اتَّبع الرَّسول بغير بصيرةٍ ولا تبيُّن، وهو الَّذي يسلم بظاهِرِه من غير أن يدخُل الإيمان إلى قلبِه، كالَّذي يُقال له في القبر: مَن ربك؟ وما دينك؟ وما نبيُّك؟ فيقول: "هاه هاه! لا أدري، سمعت النَّاس يقولون شيئًا فقُلْتُه" -هو مقلِّد- فيُضرب بمرزبة من حديدٍ، فيصيح صيحةً يسْمَعُها كلُّ شيءٍ إلاَّ الإنسان، ولو سمِعَها الإنسانُ لصعق -أي: لمات- وقد قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، فمَن لَم يدخُلِ الإيمان في قلبه وكان مسلمًا في الظَّاهر، فهو من المقلِّدين المذمومين، فإذا تبيَّن أنَّ المقلِّد مذموم -وهو منِ اتَّبع هوى مَن لا يجوز اتِّباعه- كالذي يتركُ طاعاتِ رسُل الله ويتَّبع ساداتِه وكبراءَه أو يتَّبع الرَّسول ظاهرًا".

هذا؛ وكنا قد أصدرنا فتاوى كثيرة على الموقع، بينا فيها أن قروض البنوك هي عين ربا الجاهلية المحرم بالقرآن والسنة، وإجماع العلماء المعتبرين قديمًا وحديثًا ومنها: "قرض ربوي"، "حكم الاقتراض من البنك لبناء بيت"،، والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 0
  • 0
  • 3,980

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً