حكم تناوُل الطعامٍ بين الخطبتين
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: فقه الصلاة -
هل يَجوزُ تناوُل طعامٍ في الجلسة بين خطبتي الجمعة؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقدِ اختَلَفَ العُلماءُ في حُكْمِ الأكْلِ والشُّربِ حالَ الخُطْبة، وهل يُلحَقا بِحرمة الكلام أم لا؛ فَذَهَبَ الشَّافعيَّة إلى أنَّه يُكْرَهُ شُرْبُ الماء لِلمصلِّين أثناءَ الخُطْبَة للتلذُّذ، ولا بَأْسَ بِشُرْبِه للعَطَشِ، قال الإمامُ النَّوويُّ في "الروضة": "ومِنْها ( يعني سُنَن الخُطبة ) أنَّه ينبغي للقوم أن يُقْبِلوا على الخطيب مُستمِعين لا يَشتَغِلون بشيءٍ آخَر، حتَّى يُكْرَهُ الشُّرب للتلذُّذ، ولا بأسَ به للعَطَش، لا للخَطيب ولا للقَوم".
وكذلك كرِهَ الحنابلةُ العَبَثَ، وشُرْبَ الماءِ عِنْدَ سَماع الخطبة، ما لم يشتدَّ عطشُه.
أمَّا أثناءَ جلسةِ الاستِراحة، فأجازَ الشافعيَّةُ والحنابلةُ الكلامَ فيها؛ قال ابن قدامة في "المغني": "فأمَّا الكلام في الجلسة بين الخُطبتين فيحْتَمل أن يكونَ جائزًا؛ لأنَّ الإمام غيرُ خاطبٍ ولا مُتكلِّم فأشْبَهَ ما قبلَها وبعدَها، وهذا قولُ الحسن، ويحتمل أن يُمْنَع منه، ... لأنَّه سكوتٌ يسيرٌ في أثناءِ الخُطْبتَيْنِ أشبهَ السكوتَ للتنفُّس".
وقال المرداوي في "الإنصاف": "ظاهِرُ قولِه: والإمامُ يَخطب - أنَّ الكلامَ يَجوزُ بين الخُطبتَيْنِ إذا سكتَ، والصحيحُ أنَّ الكلام بينَهُما يُباحُ وهو أحَدُ الوُجوه".
قال الخطيبُ الشِّربيني -الشَّافعي-: "لا يُكْرَه الكلامُ قبل الخطبة ولا بعدَها، ولا بين الخُطْبَتين".
وذَهَبَ الحنفيَّة والمالكيَّة إلى أنَّه يَحرُم الأكلُ والشُّربُ مُطلقًا لِحاضِر الخُطبة؛ قال الكمال بْنُ الهمام -الحنفي- في "فتح القدير": "يَحرم في الخُطبة كلامٌ، وإن كان أمرًا بِمعروفٍ أوْ تَسبيحًا، والأَكْلُ والشَّرُب والكِتابة، ويُكْرَهُ تَشميتُ العاطِس ورَدُّ السلام".
وقال في "منح الجليل شرح مختصر خليل" -المالكي-: "في حال جلوسِه (بينهما) أي الخُطبتَيْنِ، والتَّرضِّي على الصحابة والدُّعاء للسُّلطان مُلحقانِ بالخطبة، فيَحْرُم الكلام حالَهما قرَّره العدويُّ لسامِعِهما بل (ولو لغير سامع) لبُعْدٍ أو صَمَمٍ إن كان بالجامِع أو رحبتِه لا خارجَهما ولو سَمِع، ومثل الكلامِ الأكلُ والشُّرب وتَحريك ما له صوتٌ كورقٍ وثوبٍ جديد وسُبَح".
ورَوَى عبدُالرَّزَّاق عن طاووس القولَ بشُرْبِ الماءِ يومَ الجُمُعة إذا عطِشَ والإمامُ يَخطب.
والقَوْلُ بجوازِ الأكل والشُّرب اليَسير في الجلسة بَيْنَ الخُطبتيْنِ -بناءً على ما سبقَ من تَجويز الكلام بَيْنَ الخُطبَتَيْنِ- هو الرَّاجح، لا سيَّما في حقِّ مَن يَحتاج إليه مِنْ باب أَولى وأحرى؛ لأنَّ الكلامَ أشدُّ منهُما لما فيه من شغل الآخَرين والتَّشويشِ عليْهِم، بِخلاف الأكْل والشرب فإنَّه لا يشغلُ غَيْرَ الآكِل، ومعلومٌ أنَّ الكلامَ أصلٌ بِالنِّسبة لكل ما يَشْغَلُ عن مُتابعة الخطبة، وأنَّ العُلماء قاسُوا غيرَه عليه من الأكْلِ والشُّرب، وردِّ السَّلام، وتشميتِ العاطس، والصلاة على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وقعقعة الأصابع وغيرِها؛ ولأنَّ الإمامَ غيْرُ خاطبٍ ولا متكلِّم، فأشْبَهَ حالَ ما قبلَ الخُطبة وما بعدَها، ولقوله صلى الله عليه وسلَّم: "إذا قُلْتَ لصاحِبِكَ يومَ الجُمُعة أنْصِتْ والإمامُ يَخطب، فَقَدْ لَغَوْتَ"، وجلسةُ الاستِراحةِ ليس فيها كلامٌ للخطيب، أشْبَهَتْ حالَ المُصلِّين بَعْدَ صعود الإمام المنبر، قبل أن يتكلَّم، وقد كان الصحابة يتكلَّمون إذا خرج الإمامُ ما لم يتكلَّم كما أخرجَهُ ابْنُ أبي شيبة في "المصنف" بإسنادٍ صحَّحه الألباني عن ثعلبة بن أبي مالك القُرظي قال: "أدركتُ عُمرَ وعُثمان، فكان الإمامُ إذا خرج يوم الجُمُعة تركْنا الصلاة، فإذا تكلَّم تركْنَا الكلام"، وأخرج أحمد وعبدالرَّزَّاق عن موسى بن طلحة قال: "رأيتُ عُثمانَ جالسًا على المنبر يوم الجُمُعة، والمؤذِّنون يؤذِّنون، وهو يسألُ النَّاس عن أسعارِهم وأخبارهم".
ومِمَّا يؤكِّد أنَّه لا يَجب الإنصاتَ حتَّى يتكلَّم الإمام ما رواهُ أحْمَدُ عن ابْنِ عبَّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: "مَنْ تكلَّم يومَ الجُمُعةِ والإمامُ يَخطُب فهُو كمَثَلِ الحِمار يَحمِلُ أسْفارًا، والذي يقول له: أنْصِتْ، ليستْ له جُمُعة"؛ قال الحافظُ ابن حجر: بإسنادٍ لا بأْسَ به، ورَوَى عبدالرَّزَّاق عن مَعْمَر عن قتادَةَ قال: "لا بَأْسَ بِالكلام يومَ الجُمُعةِ والإمام على المنبر والمؤذِّن يؤذِّن"، ورَوَى ابنُ جُرَيْج عن عطاءٍ قال: "لا بأسَ بالكلام والإمامُ جالسٌ على المنبر، والمؤذِّنون يؤذِّنون".
وحيثُ قُلنا بالجواز؛ فينْبَغِي أن يُقَيَّد بالحاجة، وبالوقْتِ الذي جوَّزناه فيه، وهو بَيْنَ الخُطبتَيْنِ حينَمَا يسكُتُ الإمام، وهذا الوقْتُ يكونُ يسيرًا عادة، فلا يكفي لكثيرِ طعامٍ أوْ شراب،، والله أعلم.