حكم الشَّرْع في زواج المعاق
أنا طالبُ ماجستير وأعمَلُ بَحثًا عنْ زواج المُعاق، ورَأْيِ الشَّرع في هذه المسألة، وأطلُبُ من فضيلَتِكم بيانَ ذلِكَ أيضًا: متَى يَحقُّ لزوجةٍ طلَبَ الطَّلاق والخُلع؟
وهَلْ يُوجَدُ موانعُ لزواجِ المُعاق؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فمِن المعلومِ أنَّ الإعاقة تنقَسِمُ إلى إعاقةٍ ذِهْنيَّة (الجُنُون، أوِ العته أو التَّخلُّف وغيرها) وإعاقةٍ بدنيَّة، وهي مُتفاوتةٌ؛ فهُناك إعاقاتٌ تَحول وتَمنَعُ المقصودَ من عَقد النكاح؛ وهُو الوَطْءُ؛ مثل: الجَبّ وهو قَطْعُ الذَّكَرِ أو بعضِه حتَّى لا يصلُح للوَطْءِ، والعُنَّة وهِي عدَمُ القُدرة على إتْيان النِّساء، والخِصاء: هو فقْدُ الخصْيَتَيْنِ، والرَّتق وهو انْسِدادُ فرْجِ المرْأَةِ باللَّحم، والقَرَن: وهو انسدادُ الفَرْجِ بِما يَمنَعُ الوطْءِ، والعَفَل: مِثْلُ القَرَن وهو ضيقٌ في الفَرْج، والإِفْضاء: اختلاطُ مسْلكِ النِّكاح بِمسلك البَوْل أوِ الغائط. وهذه الإعاقات في الفرج مما يجيز ردِّ النِّكاحِ بالعَيْبِ عند أكثر أهل العلم؛ إذا تعمد الإخفاء أو كان النكاح على شَرْط السلامة أو على الإطلاق.
وهُناك إعاقةٌ لا تَمنع الوَطْءَ؛ مثل الصَّمَم، والبَكَم، والعَمَى وشَلَل اليَدِ أو الرِّجل، فيَجوزُ الزَّواجُ متَى رضِيَ الطَّرف الآخَر بإعاقَتِه، أما إذا تَمَّ العَقْدُ على الغَرَر والغِشِّ وإخْفاء الإعاقة، فيجوز للطَّرف الآخَر طلبُ الفَسخ.
أمَّا الإعاقةُ الذِّهنيَّة أوِ التَّخلُّف العقليُّ فالمُصابُ بِها حُكمُه حُكْمُ المَجنون، والمَجنونُ يَجوزُ له الزَّواج مع مراعاةِ جُملةٍ من الضَّوابط منها:
1- ألاَّ يكونَ الطرفُ الآخَرُ مُعاقًا مَجنونًا مثلَه؛ لأنَّه غالبًا لا يُحَقِّق أيَّ مصلحةٍ، بَلْ على العَكْسِ يُمْكِنُ أن يُسَبِّب ضررًا بينهُمَا كما هو ظاهِرٌ.
2- أن يَكونَ الطَّرف الآخَر على عِلْمٍ بِمرضِه، وأن يَرضى بذلك مع رِضَا أولياءِ المرأة.
3- أن يكون معاقُ العقل مأمونًا شرُّه وأذاه، أمَّا الذي يتَّصِفُ بالعُدوانيَّة بالضَّرب أو الإفْساد، فلا يَجوز له الزواج؛ لأنَّ زواجَه -والحالُ كذلك- سببٌ لِحصولِ الضَّرر، والضَّرَرُ مرفوعٌ.
4وفي جَميع الأحوال مِن حقِّ وليِّ المرأة أن يَمنَعَ مثلَ هذا الزَّواج، إذا ظهرت له مصلحةٌ راجحةٌ؛ لأنَّ من وظائفِ الوليِّ الشَّرعيِّ النَّظر في مصالِح مُوليتِه.
هذا؛ وقدِ اختَلَفَ الفُقهاءُ في ردِّ النِّكاحِ بالعَيْبِ؛ فَذَهَبَ أبو حنيفةَ وأبُو يُوسفَ إلى أنَّهُ لا يُفْسَخُ إلا بالجَبِّ والعُنَّة خاصَّة، وزادَ مُحمَّدُ بنُ الحسن: الجنون.
وذهبَ الشَّافعيُّ ومالكٌ أنَّهُ يُفْسَخُ: بالجُنون والبَرَص والجِذام والقَرَن والجَبِّ والعُنَّة خاصَّة.
وزادَ الإمامُ أحْمد: الفَتْقَاء المُنْخَرِقة ما بَيْنَ السبيلَيْن.
وقال داودُ وابْنُ حزْمٍ: لا يُفْسَخُ النِّكاحُ بعَيْبٍ البتَّة.
وذهبَ الزُّهريُّ وشيخُ الإسلامِ ابْنُ تَيمية وابْنُ قيِّم الجوزيَّة وبعْضِ أصحابِ الشَّافِعِيِّ إلى رَدِّ المرأةِ بِكُلِّ عيْبٍ تُرَدُّ به الجارية في البيع.
قال شيخ الإسلام في "الاختيارات العلميَّة": "وتُرَدُّ المرأة بكلِّ عيْبٍ ينفِّرُ عنْ كمالِ الاستِمْتاع".
وقال ابن القيِّم في "زاد المعاد": "وأمَّا الاقْتِصارُ على عيْبَيْنِ أو سِتَّة أو سَبعةٍ أو ثَمانيةٍ دون ما هو أَوْلى مِنْها أو مُساوٍ لَها، فلا وَجْهَ له، فالعَمى والخَرَسُ والطَّرَشُ وكونُها مقطوعةَ اليَدَيْنِ أوِ الرِّجْلين أو إحْداهُما أو كونُ الرَّجُل كذلك، من أعْظَمِ المُنَفِّرات، والسُّكوتُ عنْهُ من أقْبَحِ التَّدليس والغِشِّ، وهو مُنافٍ للدِّين، والإطلاقُ إنَّما ينصَرِفُ إلى السَّلامة فهو كالمشروطِ عُرْفًا، وقد قال أمير المؤمنينَ عُمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنْهُ لِمن تزوَّج امرأةً وهو لا يُولَدُ له: "أخْبِرْها أنَّك عقيمٌ وخيِّرْها"، فماذا يَقُولُ رضي الله عنْهُ في العُيوب الَّتِي هذا عِنْدَها كمالٌ لا نَقص؟ والقِياس: أنَّ كُلَّ عيْبٍ يَنفِرُ الزَّوْجُ الآخَرُ منْهُ ولا يَحصُلُ به مقصودُ النِّكاح من الرحمة والمودَّة يُوجبُ الخِيار، وهو أوْلَى من البَيْعِ، كما أنَّ الشُّروطَ المُشْتَرَطة في النِّكاح أَوْلى بالوفاء من شروطِ البَيْعِ، وما ألْزَمَ الله ورسولُه مغرورًا قطُّ ولا مَغبونًا بِما غُرَّ به وغُبِنَ به، ومَن تدبَّر مقاصِدَ الشَّرْعِ في مَصادرِه ومواردِه وعدْلِه وحِكمَتِه وما اشْتَمَل عليْهِ من المَصالح لم يَخْفَ عليْهِ رُجْحانُ هذا القول وقربُه من قواعِدِ الشَّريعة، ومَنْ تأمَّل فتاوى الصَّحابة والسَّلَفِ علِمَ أنَّهم لم يَخُصُّوا الرَّدَّ بعَيْبٍ دونَ عيْبٍ إلاَّ روايةً رُوِيَتْ عن عمر رضي الله عنه: "لا تُرَدُّ النِّساءُ إلا من العُيُوبِ الأربعة: الجُنون والجِذام والبَرَص والدَّاء في الفَرْج"، وهذه الرِّوايةُ لا نَعْلَمُ لها إسنادًا أكثرَ من أَصْبَغ عنِ ابْنِ وَهْبٍ عن عُمَرَ وعليٍّ، ورُوِيَ عنِ ابْنِ عبَّاس ذلك بإِسْنادٍ متَّصلٍ، ذكره سُفيانُ عن عمرو بن دينارٍ عنه.
هذا كلُّه إذا أطلَقَ الزَّوْجُ فبانَتْ شوْهاءَ، أو شَرَطَها شابَّةً حديثةَ السِّنِّ فبانَتْ عجوزًا شَمطاءَ، أو شَرَطَها بَيْضَاءَ فبانَتْ سوداءَ، أو بِكْرًا فبانَتْ ثيِّبًا - فله الفسخ في ذلك كله.
فإن كان قبلَ الدُّخول فلا مَهْرَ لَها، وإن كان بعدَهُ فلَهَا المَهْرُ، وهو غُرْمٌ على وليِّها إن كان غرَّه، وإن كانتْ هي الغارَّة سقَطَ مهْرُها أو رجع عليْها به إن كانتْ قَبَضَتْهُ، ونصَّ على هذا أحْمَدُ في إحْدى الرِّوايتَيْنِ عنْهُ، وهو أقْيَسُهما وأولاهُما بأُصولِه فيما إذا كان الزوج هو المشتَرِط، وقال أصحابُه: إذا شَرَطَتْ فيه صفة فبان بِخلافها فلا خيارَ لها إلا في شرط الحُرِّيَّة إذا بان عبدًا فلها الخيار، وفي شَرْطِ النَّسَبِ إذا بان بِخلافِه وجهانِ، والَّذي يَقتَضيه مذهَبُه وقواعِدُه أنَّه لا فَرْقَ بيْنَ اشْتِراطِه واشتراطِها، بلْ إثباتُ الخِيارِ لَها إذا فاتَ ما اشْتَرَطَتْهُ أوْلى لأنَّها لا تتمكَّن من المُفارقة بالطلاق، فإذا جاز له الفَسْخُ مع تَمكُّنه من الفراق بغيْرِه فلأنْ يَجوزَ لَها الفَسْخُ مع عدم تَمكُّنها أوْلَى، وإذا جازَ لَها الفَسْخُ إذا ظَهَرَ الزَّوْجُ ذا صِناعةٍ دنيئةٍ لا تَشينُه في دينِه ولا في عِرْضِه وإنَّما تَمنَعُ كمالَ لذَّتِها واستِمْتاعِها به، فإذا شرطَتْهُ شابًّا جميلاً صحيحًا فبانَ شيخًا مشوَّهًا أعْمى أَطْرَش أخْرَس أسْوَد، فكيْفَ تُلْزَمُ به وتُمنَعُ من الفَسْخ؟ هذا في غايةِ الامْتِناع والتَّناقُض، والبُعْدِ عنِ القِياس وقواعِد الشرع.
وكيْفَ يُمَكَّن أحدُ الزَّوْجَيْنِ من الفَسْخِ بِقَدْرِ العَدَسةِ من البَرَصِ، ولا يُمَكَّنُ منه بِالجَرَبِ المُسْتَحكم المتمكِّن وهوَ أشدُّ إعداءً من ذلك البرَص اليسير، وكذلك غيْرُه من أنواع الدَّاء العُضال؟! وإذا كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم حرَّم على البائع كِتمانَ عيبِ سلعَتِه، وحرَّم على مَن علِمَه أن يَكتُمَه من المُشتري فَكَيْفَ بالعُيُوبِ في النِّكاح! وقد قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلَّم لفاطِمَة بنْتِ قيسٍ حين استَشَارَتْهُ في نِكاحِ مُعاويةَ أو أبي الجَهْمِ: "أمَّا مُعاويةُ فصُعْلُوكٌ لا مالَ له، وأمَّا أبو جَهمٍ فلا يَضَعُ عصاهُ عن عاتِقِه".
وقَدْ ذَهَبَ أبو مُحمَّد ابنُ حزْمٍ إلى أنَّ الزَّوجَ إذا شَرَطَ السَّلامةَ من العُيُوبِ فوَجَدَ أيَّ عيْبٍ كانَ، فالنِّكاحُ باطلٌ من أصْلِه غيْرُ منعقدٍ، ولا خِيارَ له فيه ولا إجازةَ ولا نفقةَ ولا ميراثَ، قال: لأنَّ الَّتي أُدْخِلتْ عليْهِ غيْرُ الَّتي تزوَّج؛ إذِ السَّالِمةُ غيْرُ المَعيبة بِلا شَكٍّ، فإذا لَم يتزوَّجْها فلا زوجيَّةَ بيْنَهُما". اهـ. باختصار.
وهذا القَوْلُ الأخيرُ هو الرَّاجِحُ، فيلْحَقُ كلُّ ما في معنَى ما نصُّوا عليْهِ أو زادَ عليْهِ بجامع النُفْرة وتعذر الوطء؛ كالزهيمر والفالج والإيدز وما شابَهَه.
أمَّا إن حدثَتْ تلكَ الإعاقاتُ بعد الدُّخول، فلا يثبُتُ بِها الخِيار، وإنَّما يَحِقُّ للمُتَضرِّر طَلَبُ الفِراق، لا سيَّما إذا تعذَّر الوَطْءُ لأنَّ عامَّة مصالِحِ النِّكاح يَتوقفُ حُصولُها عليه؛ لأنَّ العِفَّة عن الزِّنا والسَّكَن والوَلَد تَحصُلُ بالوَطْءِ، والعيوبُ المنفِّرة تَمنَعُ منه.
ومِمَّا سبقَ يتبيَّنُ أنَّه يَجوزُ الفسخُ لِكلا الزَّوْجَيْنِ إن دلَّس أحدُ على الآخَر؛ بأنْ كَتَمَ إعاقة لم يَعْلَمْهُ المدلَّس بها وقت العَقْدِ ولا قَبِله، أو شَرَطَ أحدُهُما في صلْبِ العَقْدِ وصفًا من صِفاتِ الكَمال فتخلَّف الشَّرطُ، وذلك بِكُلِّ إعاقة منفِّرة مِمَّا يُعِيقُ الجِماعَ، أو يُلْحِقُ الضَّرر بالآخَر لإعاقته العقليَّة وغيرها،، والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: