اللحية
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: فقه الطهارة -
أريد أن أسأل عن حُكم تربية اللِّحية: هل هي سُنَّة، أم واجب، أم فرض؟
وأريد أيضًا أن أعرِف وجهَ أمر الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم: "أعفوا اللَّحى"، فهل هذا أمر للاستحسان، أو للوجوب، أو النَّدْب؟ وكيف أُفرِّق بين الثلاثة؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
اعلم -رعاك الله- : أن إعفاء اللِّحية من الأوامر الشَّرعيَّة الأكيدة، التي يجب على المسلم امتثالُها؛ ففي "الصحيحَيْن" وغيرهما عن ابن عمر رضيَ الله عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "خالِفوا المشركين؛ وَفِّروا اللِّحى، وأَحْفُوا الشوارب".
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: "قُصُّوا الشوارِبَ، وأعفوا اللِّحى؛ خالِفوا المُشركين" (متَّفقٌ عليه).
وقال: "جُزُّوا الشوارب، وأرخُوا اللِّحى، خالِفوا المَجوس" (رواه أحمد ومسلم).
والأحاديثُ في هذا الباب كثيرةٌ في "الصحيحَيْن" وغيرهما، والأمر يَقتضي الوجوبَ في قول جمهور الأصوليِّين والفقهاء؛ وقد اجتمع في ذلك قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وفِعْله، وهو هَدي النَّبيِّين جميعًا، وكذلك فِعْل الصَّحابة، والتَّابعين لهم بإحسان، لا يُعرَف منهم مخالِفٌ؛ ولذلك حكى أبو محمد بن حزم –رحمه الله- الإجماع على حُرْمَة حَلقها؛ حيث قال: "واتَّفقوا أن حَلق جميعِ اللِّحية لا يَجوز". اهـ. وأقرَّه شَيخ الإسلام ابنُ تيمية في "نقض مراتب الإجماع"؛ فلم يَتعقَّبه.
وقال الإمام ابن عبد البرِّ في "التمهيد": "يَحرُم حَلق اللِّحية، ولا يَفعله إلا المُخنَّثون منَ الرجال"؛ يعني بذلك: المتشبِّهين بالنِّساء.
وكان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم "كثيف شَعَر اللِّحية"؛ رواه مسلمٌ عن جابر رضيَ الله عنه وفي روايةٍ: "كثيف اللِّحية"، وفي أخرى: "كَثّ اللِّحيةِ". والمعنى واحدٌ.
أما كيفية التَّفريق بين الأمر الذي للوجوب أو للاستحباب أو الإباحة أو غيرها:
فاعلم: أن الأصل في الأمر الوجوب، وهو قول أكثر الفقهاء والأصوليين، واستَدلُّوا بأدلَّة شرعية ولُغَوية وعقليَّة، ذَكَرها عامَّة الأصوليون في كتبهم؛ ومنهم الآمِدِي، والإسنوي في "نهاية السُّول"، وابن حزم في "الإحكام" ... وغيرهم.
قال الآمِديُّ في "الأحكام": "أمَّا الشرعيَّة: فمنها ما يَرجِع إلى الكتاب، ومنها ما يَرجِع إلى السُّنة، ومنها ما يَرجع إلى الإجماع.
أما الكتاب؛ فقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 54]. ثم هدَّد عليه بقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54]، والتَّهديد على المخالَفة دليلُ الوجوب.
وأيضًا قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، ووجه الاستدلال به: ما سبق في الآية التي قبلها.
وأيضًا قوله تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]، أورَد ذلك في معرِض الذَّمِّ بالمُخالَفة، لا في مَعرِض الاستفهام، اتفاقًا، وهو دليل الوجوب الثَّابت في لغة العرب.
وأيضًا قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48]، ذمَّهم على المخالَفة، وهو دليل الوجوب.
وأيضًا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، والمُراد من قوله: {قَضَى}؛ أي: ألْزَم، ومن قوله: {أَمْرًا}؛ أي: مَأمورًا، وما لا خِيَرة فيه من المأمورات لا يكون إلاَّ واجبًا.
وأيضًا قوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93]. وقوله: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6]. وقوله: {لَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69]، وَصَفَ مُخالِف الأمر بالعِصيان، وهو اسم ذَمٍّ، وذلك لا يكون في غير الوُجوب.
وأيضًا قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء: 65]؛ أي: أَمَرت، ولولا أنَّ الأمر للوجوب؛ لما كان كذلك.
وأما السُّنة: فقوله صلَّى الله عليه وسلَّم لبَريرة رضيَ الله عنها وقد عُتِقت تحت عبد وكرِهَته: "لو راجَعتِه"، فقالت: "بأمرك يا رسول الله"، فقال: "لا، إنما أنا شافِعٌ"، فقالت: "لا حاجة لي فيه". فقد عَقِلَت أنه لو كان أمرًا لكان واجبًا، والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قرَّرها عليه.
وأيضًا قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "لولا أن أشُقَّ على أمَّتي لأمرتهم بالسِّواك عند كلِّ صلاة"، وهو دليل الوجوب، وإلا فلو كان الأمر للنَّدب فالسِّواك مندوبٌ.
وأيضًا قوله لأبي سعيد الخُدْري -حيث لم يُجِب دعاءه وهو في الصلاة-: "أما سمِعت الله تعالى يقول: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]". وبَّخَه على مُخالَفة أمره، وهو دليل الوجوب.
وأيضًا فإنه لما سأله الأقرع بن حابس: "أحِجُّنا هذا لعامنا، أم للأبد؟". قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "بل للأبد، ولو قُلت: نعم؛ لوَجَبَ". وذلك دليلٌ على أن أوامره للوجوب.
وأما الإجماع: فهو أنَّ الأمَّة في كل عصر لم تَزَل راجِعة في إيجاب العبادات إلى الأوامر من قوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، إلى غير ذلك، من غير توقُّف. وما كانوا يَعدِلون إلى غير الوجوب إلا لمُعارِض.
وأيضًا فإن أبا بكر رضيَ الله عنه استدلَّ على وجوب الزَّكاة على أهل الرِّدَّة بقوله: {وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، ولم يُنكِر عليه أحدٌ من الصحابة؛ فكان ذلك إجماعًا.
وأما من جهة اللُّغة فمن وجوه:
الأول: وصفُ أهل اللُّغة من خالَف الأمر بكونه عاصيًا، ومنه قولهم: أمرتُك، فعصَيتَني. وقوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93]. وقول الشاعر: أَمَرْتُكَ أَمْرًا حَازِمًا فَعَصَيْتَنِي. والعِصيان اسمُ ذمٍّ، وذلك في غيرِ الوُجوب مُمتَنِع.
وأيضًا: فإن السيِّد، إذا أمر عبدَه بأمر فخالفه - حَسُن الحُكمُ من أهل اللُّغة بِذَمِّه واستِحقاقِه للعِقاب، ولولا أنَّ الأمر للوجوب، لما كان كذلك.
أما من جهة العقل؛ فمن وجوه:
الأول: أن الإيجاب من المُهمَّات في مُخاطَبةِ أهل اللُّغة، فلو لم يَكن الأمر للوجوب لخَلا الوجوبُ عن لفظٍ يدُلُّ عليه، وهو مُمتَنِع مع دعوى الحاجةِ إليه ...". اهـ.
فإذا أَتت قَرينةٌ صارِفةٌ لهذا الأمر، فيكون مُقتضى الأمر في تلك الحال هو ما دلَّت عليه تلك القرينة، من استحباب أو إباحة أو توبيخ أو غير ذلك.
والله أعلم.