حكم الاستعانة بالقوات الأجنبية الكافرة في الدفاع عن بلاد المسلمين
ما حكم الاستعانة بالقوات الأجنبية الكافرة في الدفاع عن بلاد المسلمين؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقد اختلف الفقهاء فى جواز الاستعانة بغير المسلمين للدفاع عن بلاد المسلمين:
• فأجازه الجمهور مطلقًا بشرط: أن يستقيموا على أوامر الحاكم المسلم ونواهيه، وأن يضمن المسلمون عدم تدخل الكفار فى شؤونهم، وأن يأمنوا مكرهم وخيانتهم، وأن يكون من يستعان به من الكفار حسنَ الرأي في المسلمين، مأمونًا عليهم، سواءٌ أكان خروجهم بدعوة من ولي أمر المسلمين، أم بغير دعوة.
• وذهب المالكية -في المعتمد عندهم– إلى: منع الاستعانة بالمشرك؛ لكن لا يُمْنَع إذا خرج من تلقاء نفسه، واختار أصبغ منهم: أنه يُمْنع مطلقًا، وهو قولٌ للشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، وهو قول ابن المنذر، وأبي محمد بن حزم.
واستدل الجمهور بآثار كثيرة لكنها غير ثابتة؛ كما قال ابن المنذر:
منها: ما رواه أبو داود: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار دروعًا من صفوان بن أمية -وكان صفوانُ حينها كافرًا- في قتال ثقيف)). وأجيب بأنه حديث مرسل.
ومنها: حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم تُصَالحون الروم صلحًا آمنًا، ثم تقاتلون - أنتم وهم - عدوًّا من ورائكم" (رواه أبو داود وغيره).
ومنها: دخول النبي صلى الله عليه وسلم بعد عودته من الطائف في جوار المطعم بن عدي، وكذلك دخول أبي بكر في جوار ابن الدغنة. وأجيب بأنه ليس في محل النزاع.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر فى الهجرة عبد اللّه بن أريقط دليلاً، وكان مشركًا.
وهو أيضًا خارج عن موضع النزاع؛ لأنه في الإجارة، وهي جائزةٌ اتفاقًا لمن يخرج للخدمة؛ كسائق سيارة ونحوه.
قال أبو محمد بن حزم في "المحلى": "وهذا عمومٌ مانعٌ من أن يُستعان به -أي: المشرك- في ولاية, أو قتال, أو شيء من الأشياء, إلا ما صحَّ الإجماع على جواز الاستعانة به فيه: كخدمة الدابة, أو الاستئجار, أو قضاء الحاجة, ونحو ذلك مما لا يخرجون فيه عن الصَّغَار". اهـ.
ومنها: ما رواه أبو داود في "المراسيل"، والترمذيُّ عن الزهْري مرسلاً: "أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية يوم حنين، واستعان بيهود بني قينقاع، ورضخ لهم"؛ ومراسيل الزهري ضعيفة.
وأما من منع من الاستعانة بالمشركين فاستدلوا بأدلة منها: ما رواه مسلم، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر، فلمَّا كان بحرَّة الوبرة، أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رَأَوْهُ، فلمَّا أدركه، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئتُ لأتَّبِعَكَ وأُصِيبَ معك، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تؤمن بالله ورسوله؟"، قال: لا، قال: "فارجع؛ فلن أستعينَ بمشرك"، قالت: ثم مضى، حتى إذا كنا بالشجرة، أدركه الرجل، فقال له كما قال أوَّل مرة، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم كما قال أوَّلَ مرَّة، قال: "فارجعْ، فلن أستعينَ بمشرك"، قال: ثم رجع فأدركه بالبيداء، فقال له كما قال أول مرة: ((تؤمن بالله ورسوله؟))، قال: نعم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فانطلقْ"". وقوله صلى الله عليه وسلم: "لن أستعين بمشرك"- نكرة في سياق النفي؛ تُفِيد العموم.
ومنها: ما أخرجه أحمد، عن خبيب بن يساف مرفوعًا: "لا نستعينُ بالمشركين على المشركين".
ومنها: ما روى الشيخان، عن البَرَاء قال: جاء رجلٌ مُقَنَّعٌ بالحديد، فقال: يا رسول الله، أُقاتل أو أُسلم؟ قال: "أسلمْ ثم قاتلْ"، فأسلمَ، ثم قاتلَ فقُتِلَ، فقال صلى الله عليه وسلم: "عمل قليلاً، وأُجِرَ كثيرًا".
ومنها: جميع الآيات المانعة من موالاة الكفار؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52،51].
قال ابن قدامة في "المغني": "فصل: ولا يُسْتعان بمشرك، وبهذا قال ابن المنذر، والجوزجاني، وجماعة من أهل العلم، وعن أحمد ما يدل على جواز الاستعانة به، وكلام الخرقي يدل عليه أيضًا عند الحاجة، وهو مذهب الشافعي، ويشترط أن يكون من يستعان به حسنَ الرأي في المسلمين، فإن كان غيرَ مأمون عليهم، لم تُجْزِئْه الاستعانة به؛ لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يُؤْمن من المسلمين؛ مثل المُخَذِّل والمرجِف - فالكافر أولى".
ثم ذكر أدلة المانعين وقال: "ولأنه غير مأمون على المسلمين، فأشبه المُخَذِّلَ والمرجِفَ؛ قال ابن المنذر: والذي ذُكِر: أنه استعان بهم - غيرُ ثابت". اهـ، مختصرًا.
قال الشوكاني: "والحاصلُ: أن الظاهر من الأدلة عدمُ جواز الاستعانة بمن كان مشركًا مطلقًا؛ لما في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّا لا نستعين بالمشركين" من العموم؛ ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}".
وعليه؛ فلا يجوز الاستعانةُ بالمشركين للدفاع عن المسلمين مطلقًا؛ للأدلة السابقة، وهي نصوص في محل النزاع، ولأن عداوة المشركين للمسلمين أصلية راسخة في جذر قلوبهم، فتمنع من نصحهم لنا؛ والتاريخ خير شاهد على غدرهم، وفظَائعُهم مع المسلمين لا تنسى، ولله درّ الشاعر حين قال:
كُلُّ الْعَدَاوَاتِ قَدْ تُرْجَى مَوَدَّتُهَا *** إِلاّ عَدَاوَةَ مَنْ عَادَاكَ فِي الدِّينِ
ولكن إن اضْطُروا للاستعانة بهم، ولم تكن لهم حيلة غيرها، وخافوا الهلكة على أنفسهم – فجائز؛ شريطةَ ألاَّ يُؤْذُوا مسلمًا في دمٍ أو مال أو حرمة مما لا يحل؛ لقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]، وهذا عمومٌ لكل مَن اضْطُرَّ إلى محرَّمٍ مَنَعَ منه نصٌّ أو إجماع، وراجع فتوى: "كيف تجرَّأ الكفَّار على الإساءة لرسولنا؟" ،، والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: