طاعة الزوجة لوالديها في العمل
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: فقه الزواج والطلاق - الأدب مع الوالدين -
أنا زوجة وأم لطفلٍ، عمرُه سنتان ونصف، وزوجي ميسورُ الحال والحمد لله وقادرٌ على أن يعولَني، ويصرف عليَّ أنا وولدي.
ومع ذلك يرغَب أبي وأمي في أن أعمل بوظيفةٍ وكسْب المالِ؛ كنوع من الأمانِ -من وجْهة نظرِهم- ولكني لا أريد أن أعمل، وأريد أن أتفرَّغ لمُراعاة زوجي وطفلي وبيتي، ولكن أنا خائفة من أن أكونَ بِهذا قد وقعتُ في عقوق الوالدين، فماذا أفعل؟
هل يقعُ عليَّ إثمٌ، إذا لم أطِعْهما، ولم آخُذ بكلامِهِما؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فإنَّ طاعة الوالديْن في غيْر معصية الله واجبةٌ؛ لقولِه صلى الله عليْه وسلَّم: "رِضا الله في رِضا الوالدين، وسَخَطُ الله في سخطِ الوالديْن" (أخرجه التِّرمذي، وصحَّحه ابنُ حبَّان والحاكم)، كما سبق بيانه في الفتوى: "وجوب بر الوالدين وإيثارهما على من سواهما".
كما يجب على الوالديْن عدم التعسُّف في استِخْدام حقِّهما في برِّ ولدِهما لهما، بما يؤدِّي إلى الإضرار به في نفسِه وأهلِه وولده؛ فإنَّ برَّ الأبناء لآبائِهم نعمةٌ تَستوجبُ شُكر الله تعالى، وتقابَل بالطَّاعة والإحسان.
فطاعة الوالدين ليستْ مُطلقةً، وإنَّما لها حدودٌ لا يَجوز تعدِّيها، وأهمُّ هذه الحدود: أنَّ طاعةَ الوالديْن إنَّما تكون في المعروف، فإذا أمر الوالدانِ ولدَهُما بِمعصيةٍ، فلا طاعة لهما؛ قال الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15]، ويدلُّ على ذلك أيضًا قولُ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم: "إنَّما الطَّاعة في المعروف" (رواه البُخاري ومسلم)، وكذلك ممَّا تُعُورِفَ عليه: أنَّ المرأة إذا كانتْ عندَ زوجِها، فهو أوْلى بها من والدَيْها، وحقه _عند التَّعارُض- مقدَّم على حقِّهما، وليس في هذا عقوق.
قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية في "الفتاوى": "المرأةُ إذا تزوَّجتْ كان زوجُها أملكَ بِها من أبويْها، وطاعة زوْجِها عليْها أوْجب؛ قال الله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34]، وفي الحديث عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "الدنيا متاع، وخير متاعِها المرأة الصالحة؛ إذا نظرتَ إليها سرَّتْك، وإذا أمرتَها أطاعتْك، وإذا غِبْتَ عنها، حفِظَتْك في نفسِها ومالك".
وفي صحيح أبي حاتمٍ [هو: ابن حبان]، عن أبي هُريرة قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "إذا صلَّت المرأةُ خَمسَها، وصامتْ شهرَها، وحصَّنتْ فرْجَها، وأطاعتْ بعْلَها - دخلت من أيِّ أبوابِ الجنَّة شاءتْ"، وفي الترمذي، عن أمِّ سلمة قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّم: "أيما امرأةٍ ماتَتْ وزوجُها راضٍ عنْها، دخلتِ الجنَّة" (قال الترمذيُّ: حديث حسن).
وعن أبي هُريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلَّم قال: "لو كنتُ آمِرًا أحدًا أن يسجُد لأحدٍ، لأمرتُ المرأةَ أن تَسجُد لزوْجِها" (أخرجه التِّرمذي، وقال: حديث حسن)، وأخرجه أبو داود، ولفظه: "لأمرتُ النِّساءَ أن يسجُدن لأزواجهنَّ؛ لما جعل الله لهم عليهنَّ من الحقوق"، وفي "المسنَد"، عن أنس: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "لا يصلح لبشرٍ أن يسجُد لبشرٍ، ولو صلح لبشرٍ أن يسجُد لبشرٍ، لأمرتُ المرأةَ أن تسجُد لزوْجِها؛ من عظم حقِّه عليْها، والذي نفسي بيده، لو كان من قدَمِه إلى مفرقِ رأسِه قرْحةٌ تَجري بالقيْح والصديد، ثُمَّ استقبلتْه، فلحستْه - ما أدَّت حقَّه"، وفي المسند وسُنن ابن ماجه، عن عائشةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلَّم قال: "لو أمرتُ أحدًا أن يسجُد لأحدٍ، لأمرتُ المرأة أن تسجُد لزوجِها، ولو أنَّ رجُلاً أمر امرأتَه أن تنقل من جبلٍ أحمرَ إلى جبل أسودَ، ومن جبلٍ أسودَ إلى جبلٍ أحْمر - لكان لها أن تفعل"، أي: لكان حقها أن تفعل.
وكذلك في المسنَد، وسننِ ابن ماجه، وصحيح ابن حبَّان، عن عبدالله بن أبي أوفى قال: لمَّا قدم معاذٌ من الشَّام، سجد للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: "ما هذا يا معاذ؟!" قال: أتيتُ الشَّام فوجدتُهم يسجدون لأساقِفَتِهم وبطارقتهم، فودِدتُ في نفسي أن نفعلَ ذلك بكَ يا رسول الله، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "لا تفعلوا ذلك؛ فإنِّي لو كنتُ آمِرًا أحدًا أن يسجُد لغيرِ الله، لأمرتُ المرأةَ أن تسجُدَ لزوْجِها، والَّذي نفسُ محمَّد بيدِه، لا تؤدِّي المرأة حقَّ ربِّها حتى تؤدِّي حقَّ زوجِها، ولو سألَها نفسَها وهي على قتبٍ، لَم تَمنعْه"، وعن طلق بن علي قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أيُّما رجُلٍ دعا زوْجَته لحاجتِه، فلتأْتِه، ولو كانت على التنُّور" (رواه أبو حاتم في صحيحه، والترمذي وقال: حديث حسن).
وفي الصحيح، عن أبِي هُريْرة قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: {إذا دعا الرَّجُل امرأتَه إلى فِراشه، فأبتْ أن تَجيءَ، فبات غضبانَ عليْها: لعنتْها الملائكةُ حتَّى تُصْبِح}، والأحاديث في ذلك كثيرةٌ عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقال زيدُ بن ثابت: الزَّوج سيِّد في كتاب الله، وقرأ قولَه تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا البَابِ} [يوسف: 25]، وقال عُمر بن الخطَّاب: "النكاح رقٌّ، فلينظر أحدُكم عندَ مَن يرِقُّ كريمتَه"، وفي الترمذي وغيره، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: "استوْصوا بالنِّساء خيرًا؛ فإنَّما هنَّ عندكم عَوَانٍ".
فالمرأة عند زوْجِها تُشْبِهُ الرَّقيق والأسير، فليس لها أن تَخْرُج من منزِلِه إلا بإذْنِه، سواءٌ أمرهَا أبوها أو أمُّها أو غيرُ أَبَوَيْها؛ باتِّفاق الأئمَّة، وإذا أراد الرَّجُل أن ينتقِل إلى مكانٍ آخَر، مع قيامه بِما يجب عليْه، وحفِظ حدود الله فيها، ونَهاها أبوها عن طاعته في ذلك - فعليْها أن تُطيعَ زوجَها دون أبويْها؛ فإنَّ الأبويْن هُما ظالمان، ليس لهما أن يَنْهَياها عن طاعة مثْلِ هذا الزوج". اهـ.
وممَّا سبق يتبيَّن: أنَّ خروج الزوجة للعمل يعود لزوجها وليس لوالديها، فيجوزُ لها الخروجُ للعمل، إن كان ممَّا يُباح للمرأة، ولا يشتمل على مَحذور، إن أذن زوجها، وأما إن رفض، فلا يجوز للزوجة مخالفتُه البتَّة حتى وإن أبى عليها والداها، ولتحاول برهما وتطييب خاطرهما بما هو مناسب من أوجه البر، ولا إثم عليها إن شاء الله،، والله أعلم.