فعل حاطب رضي الله عنه
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: الولاء والبراء -
هل فِعْلُ حاطِبِ بن أبي بَلْتَعَةَ رضي الله عنه عندما كَاتَبَ المشركين يُحَذِّرُهم قبل فتح مكة -كفرٌ مخرج من الملة أو لا، ومَنْ مِن العلماء قال: إن فعلَ حاطب كفرٌ، ومَنْ منهم قال: إن فعل حاطب ليس بكفر؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد روى قصةَ حاطبِ بنِ أبي بلتعة رضي الله عنه بتمامها الشيخان وغيرُهما، عن عليٍّ رضي الله عنه قال: "بَعَثَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبيرَ والمقدادَ، فقال: ائْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ؛ فإن بها ظَعِينةً معها كتابٌ، فخذوه منها، فانطلقْنا تَعَادى بنا خيلُنا، فإذا نحن بالمرأة، فقلنا: أَخْرِجي الكتاب، فقالت: ما معي كتابٌ، فقلنا: لَتُخْرِجِنَّ الكتاب أو لَنُلْقِيَنَّ الثيابَ، فأخرجتْه من عِقَاصِهَا، فأتينا به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطبِ بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة، يُخْبِرُهُمْ ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطبُ ، ما هذا؟!، قال: يا رسولَ الله، لا تَعْجَلْ عليَّ، إنِّي كنتُ امْرَأً مُلْصَقًا في قريش، ولم أكن من أَنْفُسِهِا، وكان مَنْ معكَ من المهاجرين لهم قَرَابَاتٌ بمكةَ، يَحْمُونَ بها أهليهم وأموالَهم، فأحببتُ إذ فاتني ذلك من النَّسَبِ فيهم أن أَتَّخِذَ عندهم يدًا، يَحْمُونَ بها قَرَابَتِي، وما فعلتُ كفرًا، ولا ارتدادًا، ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد صَدَقَكُمْ، قال عمر: يا رسولَ الله، دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هذا المنافق، قال: إنه قد شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدْرِيكَ لعلَّ اللهَ أن يكون قد اطَّلَعَ على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتُم ، فقد غفرتُ لكم"، فأنزل اللهُ السورةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}.
والظاهرُ: أن ما فعله حاطبٌ صورةٌ من صور موالاة الكفار، والتي حُكْمُها، إما الكفرُ المُخْرِجُ مِن المِلَّةِ - إن كانت الموالاةُ حُبًّا في انتصار الكفار، وَعُلُوِّ شَوْكَتِهم على المسلمين –وإما معصيةٌ كبيرةٌ- إن كانت مُصَانَعَةً للمشركين، ومُداراةً، وما أَشْبَهَ ذلكَ - فإنه لا يكفر بها، وإنما يكون من جملة عصاة المؤمنين؛ ولذلك أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على حاطبٍ فِعْلَتَهُ، ولم يرفع عنه وصف الإيمان، بل قَبِلَ عذره، وأثبت تأثير حسناته في تكفير ذنبه؛ لأنه لم يفعل ما فعل رضًا بالكفر ومحبةً له، وإنما فَعَلَه مصانعةً لكفار قريش.
والآية الكريمة وإن كانت دالةً على أن فعل حاطب نوعٌ من الموالاة، إلا أنَّ قولَه صلى الله عليه وسلم: "لقد صَدَقَكُمْ"، وفي رواية: "خَلُّوا سبيلَه"- ظاهرٌ في أنه لا يكفر بذلك، ومؤمن بالله ورسوله، غيرُ شاكٍّ ولا مرتاب، وإنما فعل ما فَعَلَ؛ لغرض دُنْيَوِيٍّ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "وَقَدْ تَحْصُلُ لِلرَّجُلِ مُوَادَّتُهُمْ لِرَحِمٍ أَوْ حَاجَةٍ، فَتَكُونُ ذَنْبًا، يَنْقُصُ بِهِ إيمَانُهُ، وَلَا يَكُونُ بِهِ كَافِرًا، كَمَا حَصَلَ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بلتعة، لَمَّا كَاتَبَ الْمُشْرِكِينَ بِبَعْضِ أَخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}".
وقال في موضع آخرَ: "وَكَذَلِكَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بلتعة كَاتَبَ الْمُشْرِكِينَ بِأَخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَرَادَ عُمَرُ قَتْلَهُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْل بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ"، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ، أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَقْتَضِي: أَنَّ السَّيِّئَاتِ مَغْفُورَةٌ بِتِلْكَ الْحَسَنَاتِ".
قال العلاَّمة ابن القيم في "زاد المعاد": "ومن فوائد هذه القصة: أن الكبيرةَ العظيمة -مما دون الشرك- قد تُكَفَّرُ بالحسنة الكبيرة الماحية، كما وقع الجَسُّ من حاطبٍ مُكَفَّراً بشهوده بدراً، فإن ما اشتملتْ عليه هذه الحسنة العظيمة من المصلحة، وتَضَمَّنته من محبة الله لها، ورضاه وفرحِه بها، ومباهاته للملائكة بفاعلها - أعظمُ مما اشتملت عليه سيئةُ الجَسِّ من المفسدة، وتَضَمُّنِه من بُغْضِ الله لها، فَغَلَبَ الأقوى على الأضعف، فأزاله وأبطل مُقْتضاه؛ وهذه حكمةُ الله في الصحة والمرض، الناشئَيْنِ من الحسنات والسيئات، المُوجِبَيْنِ لصحة القلب ومرضه؛ قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، وقال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31].
فتأملْ قوةَ إيمان حاطب، التي حملته على شهود بدر، وبَذْلِه نَفْسَه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثارِه اللهَ ورسولَه صلى الله عليه وسلم على قومِه وعشيرتِه وقرابتِه، وهم بين ظَهْرَانَيِ العَدُوِّ وفي بلدهم، ولم يُثْنِ ذلك عِنان عزمه، ولا فَلَّ من حَدِّ إيمانه، ومواجهته للقتال لِمَنْ أهلُه وعشيرتُه وأقاربُه عندهم، فلما جاء مرض الجَسِّ بَرَزَتْ إليه هذه القوة؛ فاندفع المرض، وقام المريض، كأن لم يكن به قَلْبُه، ولما رأى الطبيبُ قُوَّةَ إيمانه قد اسْتَعْلَتْ على مرض جَسِّهِ وَقَهَرَتْهُ، قال لمن أراد فَصْدَهُ: لا يحتاج هذا العارضُ إلى فَصَّادٍ، "وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". اهـ. مختصرًا
ومما سبق؛ يَتَبَيَّنُ أن: تكفير المُعَيَّنِ بموالاة المشركين يتوقَّف على وجود شروطه وانتفاء موانعه، ومن أهم شروط التكفير بالموالاة: القطعُ بأن ما فُعِلَ مُظَاهَرَةٌ للمشركين، وَتَحَالُفٌ معهم، أو تأييدٌ لهم، أو كان يَقْصِد ظهورَ الشرك على الإسلام، أو ظهورَ المشركين على المسلمين، فالقصدُ معتبَرٌ في الموالاة التي يكفر بها صاحبها، والتي لا تكون كفرًا ولا نفاقًا.
أما الموالاةُ المخرِجة من الملة، فموالاةُ الكفارِ على دينهم، ومظاهرتُهم على المسلمين؛ كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، وقوله سبحانه: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران:28].
قال الإمام أبو جعفرٍ الطبري في تفسيره: "لا تتخذوا - أيها المؤمنون - الكفارَ ظَهْرًا وأنصارًا، توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين، وتَدلُّونهم على عَوْراتهم، فإنه مَنْ يفعل ذلك {فليس من الله في شيء}، يعني بذلك: فقد برئ من الله، وبرئ الله منه؛ بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر، {إلا أن تتقوا منهم تقاة}: إلا أن تكونوا في سلطانهم، فتخافوهم على أنفسكم، فتُظْهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتُضْمروا لهم العَدَاوَةَ، ولا تُشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تُعينوهم على مُسلم بفعل"، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.