الزواج بالرضيعة والتمتع بها
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: فقه الزواج والطلاق -
كنتُ في حوارٍ مع أحد الرَّوافض عنْ تفْخيذ الرضيعة -الفتوى المشهورة عن الهالك الخميني- وبيان قبْح هذا القوْل، لكنَّ الرَّافضي ذكر أنَّ أهل السنة يُجيزون الزَّواج بالرضيعة، وذكر أقوالاً عن الفُقهاء في الزَّواج من الرضيعة والصغيرة، وجواز التَّمتُّع بِهما دون الوطء، فهل هذا القوْل ثابتٌ عن أهْل السُّنَّة؟
وهل كان النبيُّ عليْه الصَّلاة والسَّلام يُباشر السيدة عائشةَ بعد العقد عليْها وقبل الدُّخول بِها؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقدِ اتَّفق الفقهاءُ على: أنَّ عقْد النِّكاح على الصغيرة صحيح، ولو كان ذلك قبْلَ بلوغِها؛ لقولِه تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]؛ يعنِي الصَّغيرات، ووجْه الدلالة هنا: أنَّ العدَّة لا تكون إلا عن نِكاح، وكذلك عدَّة اللائي لَم يحِضْن، وإنَّما يَجب على الزَّوجة الإعْداد من الطَّلاق بعد الوطء، فدلَّ على أنَّ الصَّغيرة التي لَم تَحِض يصحُّ نِكاحُها، فيجوز للأب والجدِّ أن يزوِّجها، ولا يَجوز ذلك لغيْرِهما من الأوْلياء قبل أن تبلُغ.
وقال مالكٌ وأحمد: لا يَجوز للجَدِّ، وقال أبو حنيفةَ: يَجوز للأب، والجدِّ، وسائرِ العَصَبَات، وللحاكم - إجبارُها على النِّكاح، ولكن إذا زوَّجها غيرُ الأبِ والجَدِّ، ثبتَ لها الخيارُ في فسْخ النِّكاح إذا بلغتْ.
واحتجُّوا أيضًا بِما روى هشامُ بن عرْوة، عن عائشةَ: "أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم تزوَّجها، وهي بنتُ سِتِّ سنينَ، وبنَى بِها وهي بنتُ تِسْع سنين" (متَّفق عليْه).
وروى عبد الرزاق في "مصنفه"، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة قال: "تزوج عمر بن الخطاب رضي الله عنه أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وهي جارية تلعب مع الجواري".
قال الشَّوكاني في "النيل": "قال المهلَّب: أجْمعوا أنَّه يجوزُ للأب تزويجُ ابنتِه الصَّغيرة البِكْر، ولو كانتْ لا يوطَأُ مثلُها؛ إلا أنَّ الطحاويَّ حكى عن ابن شُبْرُمة منعَه فيمَن لا توطأ، وزعم أنَّ تزوُّج النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عائشةَ، وهي بنتُ ستِّ سنين - كان من خصائصِه، وحكى في "الفتح" الإجْماع على جوازِ ذلك، قال: ولو كانتْ في المهْد، لكن لا يُمَكَّنُ منها حتَّى تصلُح للوَطْء". اهـ، مُختصرًا.
قال ابن قدامة في "المغني": "وليس هذا لغيْر الأب، يعني: ليس لغير الأبِ إجبارُ كبيرةٍ، ولا تزْويجُ صغيرة، جَدًّا كان أو غيرَه، وبِهذا قال مالك، وأبو عبيد، والثوري، وابن أبي ليلى، وبه قال الشَّافعيُّ إلا في الجَدِّ، فإنَّه جعله كالأب؛ لأنَّ وِلايتَه ولايةُ إيلاد، فَمَلك إجبارَها كالأب.
وقال الحسن، وعمر بن عبدالعزيز، وعطاء، وطاوس، وقتادة، وابن شُبْرُمة، والأوْزاعي، وأبو حنيفة: لغير الأب تزْويجُ الصَّغيرة، ولها الخيار إذا بلغَتْ.
قال أبو الخطَّاب: وقد نقل عبدالله عن أبيه، كقوْل أبي حنيفة". اهـ. مختصرًا.
هذا؛ ولا تلازُم بين مشروعيَّة العقد على الصغيرة دون بناء بها، وبين الاستِمْتاع بِها؛ فقدْ أجْمع أهل السُّنَّة على: المنْع من الاستِمْتاع بِمن لا تُطيق ذلك حتَّى تكبر؛ فضلاً عن الرَّضيعة.
وقُبح قوْلِ الروافض القائلين بالاستِمْتاع بِالرضيعة معلومُ الفساد؛ بالضَّرورة العقليَّة والبديهةِ الدينيَّة، وهو مستهْجَن طبعًا وحسًّا وعُرفًا، ومَمنوعٌ شرعًا، ومِن ثَمَّ؛ فلم يُجوِّزْ أحدٌ لأوْلياء الطِّفلة، أو الرضيعة تمكينَ زوجِها منها، ما لم تصلْ حدًّا تُطيق معه النِّكاح؛ بل ذهبَ المالكيَّة والشافعيَّة إلى: أنَّ من موانِع تَسليم الزَّوجة لزوْجِها الصِّغر، فلا تُسلَّم صغيرةٌ لا تَحتمل الوَطْء إلى زوْجِها حتَّى تكبر ويزول المانع، فإذا كانت تَحتمل الوطْء، زال مانع الصِّغر.
وقال الحنابلة: إذا بلغتِ الصغيرة تِسْعَ سنين، دُفِعَتْ إلى الزوج، وليس لهم أن يَحبسوها بعد التِّسع، ولو كانت مهزولةَ الجسم، وقد نصَّ الإمامُ أحمد على ذلك.
قال ابن قُدامة: "إمكان الوطْء في الصغيرة مُعتَبَر بِحالها واحتمالِها لذلك، قاله القاضي، وذكَر أنَّهنَّ يَختلِفْن: فقد تكون صغيرةُ السِّنِّ تصلُح، وكبيرةٌ لا تصلُح، وحدَّه أحمدُ بتِسْع سنين، فقال في رواية أبي الحارث في الصَّغيرة يطلُبُها زوْجُها: فإن أتى عليْها تسعُ سنين دُفِعَت إليه، ليس لهم أن يَحبسوها بعد التِّسع؛ وذهب في ذلك إلى: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليْه وسلَّم بنَى بعائشةَ، وهي ابنةُ تسعٍ، قال القاضي: وهذا عندي ليس على طريقِ التَّحديد، وإنَّما ذكره؛ لأنَّ الغالب أنَّ ابنة تسعٍ يُتَمكَّن من الاستمتاع بها، فمتى كانت لا تصلُح للوَطْء، لم يجب على أهلِها تسليمُها إليه، وإن ذكر أنَّه يحضنها، ويربِّيها، وله من يَخدمها؛ لأنَّه لا يملك الاستِمْتاع بها، وليستْ له بمحلٍّ، ولا يؤْمَن شَرَهُ نفسِه إلى مُواقعتها، فيفضَّها أو يقتُلَها، وإن طلب أهلُها دَفْعَها إليه فامتنع، فله ذلك، ولا تلزَمُه نفقتُها؛ لأنَّه لا يُمَكَّن من استيفاءِ حقِّه منها".
وقال الخطيب الشربيني -شارحًا لقَوْل النَّووي في "المنْهاج": (ولا تسلَّم صغيرة ولا مريضة حتَّى يزولَ مانع وطْء)-: "ويَحرم وطْءُ مَن لا تحتمل الوطْء – لصِغَر، أو جُنون، أو مرَض، أو هُزال، أو نحو ذلك - لتضرُّرها به، وتُمهل حتَّى تُطِيق، فلو سُلِّمت له صغيرة لا تُوطأ، لم يلزَمْه تسلُّمها؛ لأنَّه نكح للاستِمْتاع لا للحضانة".
وقال ابن بطَّال في "شرْح البُخاري": واختلف العلماءُ في الوقْت الذي تدخل فيه المرأةُ على زوجِها، إذا اختلفَ الزَّوْج وأهل المرأة في ذلك، فقالت طائفةٌ: تدخُل على زوجِها وهى بنت تسع سنين؛ اتِّباعًا لحديث عائشة، هذا قولُ أحْمد بن حنبل، وأبى عبيد.
وقال أبو حنيفة: نأخُذ بالتِّسع، غيرَ أنَّا نقول: إن بلغَتْها ولم تقدِر على الجِماع، كان لأهلها منعُها، وإن لم تبلغ التِّسْع وقويت على الرِّجال، لم يكن لهم منْعُها من زوْجِها.
وكان مالك يقول: لا نفقةَ لصغيرة حتى تدرك وتُطِيق الرجال.
وقال الشَّافعيُّ: إذا قاربتِ البلوغ وكانتْ جَسِيمَةً تَحتمل الجماع، فلِزوجها أن يدخُل بها، وإن كانتْ لا تحتمل الجماع، فلأهلِها منعُها من الزَّوج حتَّى تَحتمل الجِماع.
فظهر ممَّا تقدَّم كذِبُ الرَّافضة على أهْل السنة؛ إذْ أهلُ السُّنَّة مُجمعون على جواز عقد نِكاحٍ لا وَطْء فيه على الصغيرة، ومجمعون أيضًا على عدَم جواز الاستِمْتاع بالزَّوجة الصغيرة حتَّى تُطيق الجِماع، وأن مباشرة الصغيرة معلوم قبحه من دين الإسلام بالضَّرورة والبداهة العقليَّة، ولا يفعله إلا ظالمٌ لنفسه، مُجترئ علي ربِّه، مستحقٌّ للعقوبة، عديم الحياء، صفيق الوجه، منكوس الفطرة، ولا يشتبه هذا على عاقل لم تُفْسِدِ الشَّهوات لُبَّه، ولا اتِّباعُ الهوى والبدعةُ عقلَه.
وأمَّا قوْل السائل: "وهل كان النبي عليْه الصَّلاة والسَّلام يُبَاشر السيدة عائشة بعد العقد عليْها..." فلا نعلم دليلاً يدل على هذا، والأصل أنه لم يكن يصنع ذلك، ومن ادعى خلافه فعليه الدليل، بل في الحديث ما يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم لم يصنع شيئًا من ذلك؛ لأن دخوله صلى الله عليه وسلم إنما كان بعد أن بلغت تسع سنين، ولو صنع شيئًا قبل ذلك لكان قد دخل بها، فلا يتصور أن يفعل هذا إلا بخلوة، وهذا هو الدخول، وهذا ظاهر لمن رزق الفقه والفهم،، والله أعلم.