حكم قتل المرضى النفسيين الذين يهدّدون الناس ولا يُرجى شفائهم
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
تُطالعنا الصحف كلَّ يوم بأخبارٍ عن أناسٍ يقتلون أبويهم أو أطفالهم -آخر ما قرأتُ كان رجل ذبح أبناءه الثلاثة بالسيف: ولدان 12 و13 عامًا ورضيعة 10 شهور، ونال كل منهم 40 طعنة بالسيف، والله دمعت عيناي عندما قرأته على الفور-.
وأنا منذ 10 سنوات لَم يفارقني القلق على والديَّ وكذلك أخي بسبب أن هذا الأخ مريضٌ بالفصام -علمًا بأن كل هذه الحالات الدموية كانت من مرضى فصاميين- وأخي المريض هذا لا يفْتَأ يطلب الزَّواج وسنُّه قاربتْ على الستة وثلاثين عامًا إلاَّ أنَّه لا تكادُ تَمرُّ عليْه سنة كاملة من دون انتكاسة ومن دون أن يُودع المستشفى، وهذا يشقّ علينا بسبَب أنَّ غالبَ القائمين على هذه المستشفيات يتاجرون بوظيفَتِهم في ظلّ كثرة المَرضى وقلَّة الأماكن المتاحة فيبتزّون أهالي المرضى، وإلا فعلى الأهل أن يتعايشوا مع الحالة الخطرة الموجودة بينَهم، ولي في هذا 4 أسئلة:
الأول: هل يُجيز الإسلام قتْلَ المريض عقليًّا مِمَّن لا يُرْجى شفاؤُهم وتُمَثّل حياتُهم تَهديدًا لحياة مُخالطيهم؟
الثاني: هل يَحلّ للأهل تزويجَ ابنِهم وهو مشكوكٌ في شفائِه ودورة حياتِه هي تعاقُبات من السواء والاعتلال: 10 شهور سليم تَمامًا وشهرين أو أكثر عنيفٌ وخطير على المُحيطين بسبب المرض.
الثالث: هل يَجوزُ لإخوتِه إيداعُ مبلغ من المال في مصرِف كوقفٍ للإنفاق من فائدتِه على هذا المريض حالَ مرضه، علمًا بأنَّه ليس بِمقدورهم استِثمارُ المال بأنْفُسِهم وحفظُه لِهذا الغرض.
الرابع والأخير: هل يكون من مصارف الزَّكاة الصَّحيحة إنشاء وتَعمير المستشفيات النفسيَّة والعقليَّة والنفقة على العاملين بِها لرعاية مثل هذه الحالات، وتَجنيب المجتمع ويلاتِ مُخالطتها في دورة مرضها، وإذا كان هذا صحيحًا فلِماذا لا يعمِّق الدّعاة والفقهاءُ وعيَ المُجتمع المسلم بِهذه الأُمور بِالقَدر الذي يتعاملون به مع قضايا أقلَّ خطورة؟!
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فإنَّ الغايةَ الكُبْرى من خَلْقِ الإنسان هي ابتلاؤُه وامتحانُه بالخير والشَّرّ؛ فمن يَصبِر يعوضْه الله خيرًا؛ قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165]، وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ} [الملك: 1،2]، فهذه الحياة دار ابتلاء فيَبتلي الله عبادَه؛ ليعلم المجاهدين منهم والصابرين؛ كما قال سبحانه في الآية الأخرى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].
فمن سُنَّة الله في خلقه أن يبتلي عباده المؤمنين ليمتَحِنَ صَبْرهم وعبوديَّتهم، قال تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3].
ولذلك لا تَحْصُل سعادة المؤمن إلا بالإيمانِ بالقضاءِ والقَدَر وأنَّ ما أصابه لم يَكُنْ لِيُخْطِئه، وما أخْطَأَهُ لم يكن ليُصِيبَه وأنَّ ما قدَّرُه الله عزَّ وجلَّ في طيَّاته خيرٌ للمؤْمِن ولا شَكَّ، قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الآيةَ [البقرة: 216]، وقال: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
أمَّا قَتْل المُصاب بِالمرض العقْلي، فلا يَجوز بِحال من الأحوال، حتى وإن كان لا يُرجى برؤه وتُمثل حياته تَهديدًا لمن يُخالطونه، وهو من أكبر الكبائر؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] قال سبحانه: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: "لا يحلُّ دمُ امرئٍ مُسلمٍ يَشهَدُ أن لا إله إلا الله وأنّي رسولُ الله إلا بإحْدَى ثلاثٍ: النَّفس بالنَّفس والثيّب الزَّاني، والمارقُ من الدّين التَّارك الجماعة" (متَّفقٌ عليه عن عبدالله بن مسعود).
ومعلوم أنَّ الحامل على قَتل ذلك المريض هو اليأسُ من الشّفاء الذي هو من صفات الكفار؛ قال تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]. وقال تعالى: {وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
بل إنَّ الشرع حرَّم تمنّي الموت من جرّاء ما ينزل من ضرّ، فكيف بقتل النفس، أو سَعْيِ الأهْل لقتله! وفي الصَّحيحَيْن عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنَّينَّ أحدُكم الموتَ لضرٍّ أصابه، فإن كان لابد فاعلاً، فليقل: اللهمَّ أحيِني ما كانتِ الحياة خيرًا لي وتوفَّنِي إذا كانت الوفاة خيرًا لي".
والضَّرر الشاقّ أو تضرّر المُخالطين للمريض لا يُبَرّر السَّعي في إزهاق روحه؛ فعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حُنينًا، فقال لرَجُل مِمَّن يُدْعى بالإسلام: "هذا من أهل النار"، فلمَّا حضرْنا القِتال قاتَلَ الرَّجُل قِتالاً شديدًا، فأصابتْه جِراحة، فقيل: يا رسول الله! الرَّجُل الَّذي قلتَ له آنفًا إنَّه من أهل النَّار، فإنَّه قاتل اليوم قتالاً شديدًا وقد مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلَّم: "إلى النار" فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هُم على ذلك إذ قيل: إنَّه لم يَمتْ، ولكنَّ به جراحًا شديدًا، فلمَّا كان من الليل لم يَصبِر على الجِراح فقَتَل نفسه، فأُخْبِر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: "الله أكبر أَشْهد أنّي عبدُ الله ورسولُه" (متفق عليه).
وفي الصحيحَيْنِ عن جندب بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان فيمَنْ كان قبلَكم رجلٌ به جرحٌ فجَزِعَ فأخذَ سكّينًا فحزَّ يدَه فما رقأَ الدَّمُ حتَّى مات، قال الله تعالى: بادَرني عبدي بنفْسِه حرَّمتُ عليه الجنة".
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح: "وفي الحديث تَحريم قتل النفس سواءٌ كانتْ نفس القاتل أم غيره، وقتل الغير يُؤخذ تَحريمه من هذا الحديث بطريق الأوْلى، وفيه الوقوفُ عند حقوق الله، ورَحْمته بخلقه حيث حرَّم عليهم قتل نفوسهم، وأنَّ الأنفس ملكُ الله".
وقال: "وفيه تَحريم تعاطي الأسباب المفضية إلى قَتل النَّفس" انتهى.
والمؤمِنُ يَعلم أنَّ المَرَض الذي أصابَه أو أصاب أقرباءه -وإن كان مُزْمِنًا لا يُرجى شفاؤه- إنَّما هو ابتلاءٌ منَ الله تعالى يُكَفِّر الله به من خطاياه؛ قال صلى الله عليه وسلَّم: "ما يُصيب المسلمَ من نصبٍ ولا وصبٍ ولا همٍّ ولا حزَنٍ ولا أذًى ولا غمّ حتَّى الشَّوكة يُشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه" (متَّفق عليه).
وروى التّرمذيّ عن أبي هُريرة رضي الله عنْه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: "ما يَزال البلاءُ بالمؤمن والمؤمنةِ في نَفْسِه وولَدِه ومالِه حتَّى يلقَى الله تعالى وما عليه خطيئة"، ولعلَّ ما يعجِزُ عنه الطّبّ يكون شفاؤه من عند الله بلا سَببٍ، أو بِسببٍ لم يعلمه مَن ذهبتُم إليه من أطبَّاء، قال صلى الله عليه وسلَّم: "ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شِفاءً" (رواه البخاري) وفي رواية "علِمَه مَن علِمه وجهِله مَن جهِله" (أخرجه البخاريُّ في "الأدب المفرد" وأبو داود والتّرمذي وابن ماجه).
أمَّا زواج صاحبِ الإعاقةِ الذِّهنيَّة على هذه الحال، فقد سبق أن بيَّنَّاه في فتوى: "رأي الشَّرْع بزواج المعاق".
أمَّا إيداع مبلغٍ من المال في مصرف كوقفٍ للإنفاق من فوائدِه على ذلك المريضِ؛ فلا يَجوز بحال؛ لأجل تعامل المصارف بالربا، وتُراجع الفتوى المنشورة بعنوان: "حكم إيداع المال في البنك بدون فائدة، والاستفادة من الفائدة في وجوه البر"، والفتوى الأخرى بعنوان: "حكم الاستثمار في البنوك".
ويمكنكم جعل ذلك في استثمار مباح ليس فيه شبهة ربا، إما في عقار يستثمر دخله في النفقة عليه، أو غير ذلك.
أمَّا استخدام أموال الزكاة في إنشاء المستشفيات النفسية والعقلية والنفقة على المرضى والعاملين، فليُعْلم أنَّ الله تعالى قد حدَّد مصارفَ الزَّكاة، وقصَر المستحقين لها على أصنافٍ ثَمانية؛ فقال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]، وبناء المستشفيات ليست من تلك الأصناف.
وعليه؛ فلا يَجوز صرفُ الزَّكاة في بناء المستشفيات، ولكن يَجوز عِلاج الفُقراء والمَساكين منها وشراء ما يحتاجون من أدوية يَحتاجونَها، فعلى أغنياءِ المسلمين التَّبرّع بِالصَّدقات والهِبات والأوقاف لِبِناء تِلك المُستشفيات والنفقة على المرضى؛ قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيه} [الحديد: 7] وقال: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} [البقرة: 272]، وقال تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19]،، والله أعلم.