أريد أن أتوب!
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: التوبة - قضايا الزواج والعلاقات الأسرية -
أنا امرأة متزوّجة ولدي ابنة، تعرَّفتُ على رجُلٍ متزوّج ولديْه أطفال عن طريق أحد مواقع التَّعارف في الإنترنت، كان هدفي من ذلك وجود رجل -وليس امرأة- يستمع إليَّ؛ لعدم توفر ذلك في حياتي الزَّوجيَّة، وذلك بسبب انشِغال زوجي الدَّائم بعمله وأصحابِه، بعد ذلك تطوَّرت علاقتي به وأصبح هنالك اتّصال بيننا (بالجوال) وبعدها تطوَّرتِ العلاقة والتقَيْنا وحصلت الفاحشة (الزنا) والعياذُ بالله، مع العلم كان هذا لقائي الأوَّل والأخير به، بعد اللّقاء ندِمْت ندمًا شديدًا وأريد التوبة إلى الله وتربية أبنائي التَّربية الصالحة.
سؤالي هو: هل هُناك كفَّارة لما فعلتُه؟ وما هي شروطُ التَّوبة؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فإنَّ ما أقدمتِ عليه -من الدخول على مواقع التَّعارف ثُمَّ إقامة علاقة آثِمة مع وَغْدٍ مُنحرف متربّص للفتْك بكل من تَعْرِض له وتُوافقه غرضَه الدَّنيء- كبيرة من كبائر الذنوب.
ووقوع امرأةٍ ذات زوجٍ في فاحشة الزّنا إجرامٌ وخيانةٌ منها في حقّ الله تعالى وحقِّ زوجِها الغافل، وإساءةٌ بالغة في حقّ أُسْرَتِها وأولادها، وجريمةٌ نكراءُ في حقّ نفسِها وأهلها، ويا لله لِلعجب كيف تَسمح عاقلةٌ أو ذاتُ دين أو مروءة لنفسِها أن تَتْرُك المُباحَ الَّذي أحلَّه الله لَها وتقترف تلك القاذورات المحرَّمةَ مع فاجرٍ فاسدٍ وتَخون زوجَها وعشيرتها؟!
وحُرمة الزّنا معلومةٌ بالضَّرورة من دين الإسلام بل في جَميع الشَّرائع السَّماوية الأُخْرى؛ فقد أَجْمع أهلُ المِلَل وجَميعُ العُقلاء على تَحريمه، فلم يحلَّ في ملَّة قطّ، وذلك لما يجلب على المجتمعات سخطَ الله وعقابَه، وإشاعة البغضاء بين النَّاس واختِلاط الأنساب، وضياع العفَّة وانتِشار كثيرٍ من الجرائِم والأمراض القتَّالة كالإيدز وغيْرِه، وقد حذَّر الله من الزّنا بقوله سبحانه: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء: 32]؛ ولذا كان حدّه أشدَّ الحدود، لأنَّه جنايةٌ على الأعراض والأنساب، وهو من أعظمِ الذّنوب وأفظعها ومن أكبر الكبائر، ومرتكبُه متوعَّد بعقابٍ أليم؛ وقد قرَن الله جلَّ وعلا الوعيدَ عليْه بالوعيد على الشّرْك وقتل النَّفس، فقال سبحانه في صِفات عِباد الرَّحْمن: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان: 68، 69].
وقال صلى الله عليه وسلَّم: "لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، ولا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ" (متفق عليه).
وروى البُخاريّ في حديث المِعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم: "رأى رجالاً ونساءً عُراةً على بناءٍ شبه التنّور، أسفله واسع، وأعلاه ضيّق، يوقَد عليهم بنارٍ من تَحتِه، فإذا أوقدت النَّار ارْتَفعوا وصاحوا، فإذا خَبَتْ عادوا، فلمَّا سأل عنهم؟ أُخْبِر أنَّهم هم الزّناة والزَّواني".
وهذا عذابُهم في البَرزخ حتَّى تقومَ السَّاعة - نسأل الله العافية، فهل يُمْكِن للعاقل أن يَستهينَ بذنبٍ هذه عقوبتُه في الدنيا والآخرة.
وأمَّا انشِغال زوجِكِ الدَّائم عنكِ بعملِه وأصحابه، فلا يُبَرّر مُطلقًا خيانَتَه بإقامة علاقةٍ آثِمةٍ مع عاصٍ لله ورسولِه مُجترئٍ على حدوده، ولا غرض له إلا إشباع رغبتِه المحرَّمة مع مثيلته، إلا عند مَن خانَ الله ورسولَه وسَفِهَ نفسَه وساءتْ فِطْرَتُه، فالزّنا وإن كان ذنبًا عظيمًا وجُرمًا شنيعًا ومُحرَّمًا على كلّ حال؛ إلا أنَّه من المرأةِ أشدّ حُرمة وأعظمُ جرمًا منه من الرَّجل، وحصولُه من امرأةٍ متزوّجة -قد أغناها الله تعالى بِالحلال عن الحرام؛ عن ارتكاب الفاحشة وهي مُحصنة- أكبرُ إثمًا من امرأةٍ لا زوجَ لها.
ولْتعلمي أنَّك قد جَمعتِ بين كبيرتيْنِ: كبيرة الزّنا وحدّه للمُحْصَنة عند الله تعالى هو الرَّجمُ بالحجارة حتَّى الموت؛ قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، وقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "البِكر بالبِكر جَلْدُ مائةٍ وتَغريبُ عام، وعلى الثَّيّب الرَّجم" (رواه مسلم وأبو داود والتّرمذيّ وابْنُ ماجه، وهذا لفظُ ابن ماجه).
والكبيرة الثانية: خيانةُ زوجك الغافل الواثق بكِ وهتك عرضه؛ ففي الصحيحَيْنِ عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ فَقِيلَ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ" وفي روايةٍ عند مسلم من حديث أبي سعيد "عِنْدَ اسْتِهِ".
فالواجبُ عليكِ المبادرةُ بالتَّوبة إلى الله من هذا الجُرم العظيم الذي اقترفتِه، والنَّدمُ والعزم على عدم العَوْد؛ فإِنَّ الله يُحبّ التَّوّابين ويُحبّ المُتطهّرين؛ قال عزَّ وجلَّ بعد ذكر عقوبة الزَّاني: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان: 70].
ومن تَمام توبتِك وتَحقيقها أن تَبتعدي كلَّ البُعْدِ عن الدخول على "الإنترنت" جملةً، والمواقع المشبوهة خاصَّة؛ لأنَّ الشَّرع إذا حرَّم شيئًا حرَّم الطّرق الموصّلة إليه، فحرَّم الزّنا وما يفيء إليه من خلوةٍ بالأجنبي والنَّظر إليه والتَّحدّث معه لغير حاجة، وأمر بالحجاب وعدَم الخضوع بالقول ونحو ذلك من الأحكام الشرعيَّة التي تُحدّد علاقة الرجل بالمرأة الأجنبيَّة، والتي من تعدَّاها غالبًا ما يَقَعُ في الفاحشة لاسيما في هذه الأزمان البائس أهلها.
ولْتَبْحثي عن صُحْبة أهْل الخير، مع الحِرْص على القيام بالواجبات الشرعيَّة وشغْل النَّفس بالطَّاعات مع الإكثار من نوافل العبادات فإنَّ ذلك مما يطمئِن القلب ويصرِفُه عن دواعي الشَّرّ قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 100].
ولمعرفة شروط التوبة تراجع فتوى: "التوبة من الزنا".
ويراجَع لزامًا الفتويين: "باللهِ عليْكَ يا شيخ كُن سببًا إن شاء الله في إنقاذ شابٍّ ملتحٍ من النَّار".
أمَّا كفَّارة ما اقترفتِه فهو ما ذكرناه لكِ من التَّوبة النَّصوح مع صِدْقِ الأوبة إلى الله تعالى، والواجبُ عليكِ السّتْر على نفسكِ وعدم إخبار أحدٍ بذلك ولا زوجكِ؛ فالله تعالى ستّير يحب أن يستر على عباده، ويُحبّ من عباده أن يستر بعضُهم على بعض؛ فقدْ روى البُخاريُّ عن عُبادة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال -وحَوْلَهُ عِصابَةٌ من أَصْحَابِهِ: "تَعَالوْا بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، ولا تَسْرِقُوا، ولا تَزْنُوا، ولا تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، ولا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، ولا تَعْصُوني في مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، ومَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ في الدُّنْيَا فَهوَ لَهُ كَفَّارَة، ومَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، وإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ".
وروى الحاكم والبيهقيُّ عنِ ابن عمر مرفوعًا: "اجتنبوا هذه القاذوراتِ التي نَهى الله عنها فمن أَلَمَّ بشيء منها فَلْيَسْتَتِرْ بسِتْرِ الله ولْيَتُبْ إلى الله، فإنَّه مَن يُبْدِ لنا صفحتَه نُقِمْ عليه كتابَ الله".
قال الحافظ ابنُ حجر في "فتح الباري": "وإذا تَمحَّض حقّ الله فهُو أكرم الأكرَمينَ ورحْمَتُه سبقتْ غضبَه، فلذلك إذا ستَره في الدنيا لم يَفْضَحْهُ في الآخِرة، والذي يُجاهِر يفوته جَميع ذلك"،، والله أعلم.