العمل في مطعم يقدم الخمور - وحكم التداوي بالخمر
نعيشُ في دولة يهوديَّة غير إسلاميَّة، والَّتي بالتالي تُحلُّ استِعْمال الخَمر وتناوُله في طعامٍ وشراب، وحتَّى في المطاعم، فكيف لإنسانٍ مُسلم أن يَعمَل في مطعم أو مكان يستعمل به الخَمر ولا نَستطيعُ العَمَلَ بِمكانٍ آخَر أو حتَّى التَّهرُّب من نقل أو تقديم الخَمر، فما رأْيُ الشَّرع في ذلك؟
- ملامسة الخَمر أثناء التَّجارب العلمية، ما رأي الشَّرع بها؟
- كثيرٌ من النَّاس يَستعْمِلون الخَمر كعامل مُساعد في الشِّفاء، وخصوصًا في الأمراض المزمنة مقدح المعدة وغيرها، فما رأي الشَّرع في ذلك مقابِلَ الشِّفاء المضمون منِ استِعْمال الكحول؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فإن حُرمةَ الخمرِ من المعلوم من دِينِ الإسلام بالضرورة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ . وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 90 - 92].
وروى أبو داود والحاكم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن اللهُ الخمرَ وشاربَها، وساقيَها، وبائعَها، وعاصرَها، ومُعتصِرَها، وحاملَها، والمحمولةَ إليه، وآكلَ ثمنِها".
وكما أن على المُسلِم أن يبتعدَ عن مُقارَفة هذه المحرَّماتِ، فعليه أيضًا أنْ لا يعملَ عملاً فيه إعانة من قريبٍ أو بعيدٍ عليها؛ قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وأيضًا فالمسلِم مُطالَبٌ شرعًا بالنهي عن المنكَر، وأدنى درجات الإنكار على ذلك أنْ يُنكِرَ بقلبِه، مع مُفارَقة مكان المعصية؛ لقول الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140].
فدلَّتِ الآيةُ على أنَّ الجالس في مكان المنكَر كالفاعل للمنكَر، وفي الحديث: "مَن كان يُؤمِن بالله واليوم الآخر فلا يَجلسْ على مائدةٍ يُدارُ عليها الخمرُ" (رواه الترمذي والحاكم).
وعلى المسلم أن يعلم أنَّ مَن تَركَ شيئًا من أجْلِ الله تعالى، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يُيَسِّر له أسبابَ الرزق الواسعة {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].
أمَّا عن مُلامسة الخمر؛ فقد ذَهَبَ جمهورُ الفُقهاء إلى أنَّ نَجاسةَ الخمر نجاسةٌ حسيَّة، واستدلُّوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
والرجس هو النجس، وهو شاملٌ للنَّجاسة الحسية والمعنوية؛ لأن الراجح عند الأصوليين أن اللَّفظ المشترَك يُحمَل على جميعِ معانيه إذا أمكن.
وروى أحمدُ وأبو داود واللَّفظُ له عن أبي ثعلبة رضي الله عنه أنه سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّا نجاورُ أهلَ الكتاب وهم يطبخون في قُدُورِهم الخنزيرَ، ويَشربون في آنيتِهم الخمرَ!"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنْ وجدتُم غيرَها فَكُلُوا فيها واشرَبُوا، وإنْ لم تَجِدُوا غيرَها فَارْحَضُوها -أي اغسلوها- بالماء، وكُلُوا واشربوا".
وذهب ربيعةُ بن عبدالرحمن شيخُ الإمام مالكٍ، والليثُ بن سعد، والمزني صاحب الإمام الشافعى، وبعضُ المتأخِّرين إلى أنَّ نجاسةَ الخمرِ معنويةٌ، وليستْ حسيَّةً؛ فعلى قولِهم لا يجب غسلُ ما أصابتْه الخمرُ.
وما ذهب إليه جمهورُ الفقهاء أقوى، وعليه فلا يجوز ملامسةُ الخمر، سواء في التجارِب العلمية أو غير ذلك، ومَن كان مضطرًا إلى المشاركة في مِثل هذه التجاربِ؛ فلا يلمسِ النجسَ بصورة مباشرة؛ بل عن طريق حائل؛ كالقفَّاز ونَحوه، وإن أصابه شيءٌ منها فلْيغسِلْها.
أمَّا اتِّخاذ الخمر كدواء، فلا يَجوز عند أكثر أهل العلم؛ لأنَّ الله سبحانه لم يجعلْ شفاءَ أمَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما حرَّم عليها، كما في حديث ابن مسعود عند البخاري، وروى أبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ والدَّوَاءَ، وجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فتدَاوَوْا، ولا تَدَاوَوْا بحَرَامٍ"، وروى أيضًا: "يا عِبادَ اللهِ تَداوَوْا؛ فإن اللَّه لم يجعل داءً إلا جعل له دواءً، ولا تداوَوْا بِمحرَّم".
وفي "صحيح مسلم" عن طَارِقِ بنِ سُوَيْدٍ الجُعْفِيِّ أنه سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ عَنِ الخَمْرِ فَنَهَاهُ، أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقال: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فقال: "إِنَّهُ لَيْسَ بدَوَاءٍ، ولَكِنَّهُ دَاءٌ".
وهذه نصوص صريحة في محلّ النزاع، وهو النَّهْيُ عنِ التَّداوي بالخمر، ومَن أباح التَّداوي بالخمر من علماء الكوفة، فقدْ قَاسَه على إباحة أكْل المَيْتة والدَّمِ للمضطر، مُستدِلِّين بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، وهو مع معارضتِه للنصِّ ولعلَّةِ التحريم، وهو قوله: "وَلَكِنَّهُ دَاءٌ" - ضعيفٌ؛ لأنه قياس مع الفارق، إذ أكْلُ الميتة والدم تَزولُ به الضرورةُ، ويُحفَظ الرَّمَقُ، أما استعمالُ الخمر للتداوي فلا يتعيَّن به إزالةُ المرض؛ بل أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه داء وليس بدواء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "التَّدَاوِي بِالخَمْرِ حَرَامٌ بِنَصِّ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ وعَلَى ذَلِكَ جَمَاهِيرُ أَهْلِ العِلْمِ، ثَبَتَ عَنْهُ في الصَّحِيحِ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الخَمْرِ تُصْنَعُ لِلدَّوَاءِ، فقال: "إنَّهَا داءٌ، ولَيْسَتْ بِدَواءٍ"، وفي السُّنَنِ عَنْهُ: أَنَّهُ نَهَى عن الدَّوَاءِ بِالخَبِيثِ... ولَيْسَ هَذَا مِثْلَ أَكْلِ المُضْطَرِّ لِلمَيْتَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِهِ المَقْصُودُ قَطْعًا، ولَيْسَ لَهُ عَنْهُ عِوَضٌ، والأَكْلُ مِنْهَا واجِبٌ، فَمَنِ اضْطُرَّ إلَى المَيْتَةِ ولَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ؛ دَخَلَ النَّارَ، وهُنَا لا يُعْلَمُ حُصُولُ الشِّفَاءِ، ولا يَتَعَيَّنُ هَذَا الدَّوَاءُ؛ بَلِ اللَّهُ تَعَالَى يُعَافِي العَبْدَ بِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ، والتَّدَاوِي لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَ جُمْهُورِ العُلَمَاءِ، ولا يُقَاسُ هَذا بِهَذا، واللَّهُ أَعْلَمُ". اهـ.
أما تصوُّرُ المريضِ أن هذا المرضَ لا يُشفَى إلا بالخمر؛ فهذا أمرٌ موهوم؛ لأن الأدوية المشروعة -فضلاً عمَّا حرَّمها الله- لا تَشفِي المرضَ بذاتها لأنها أسباب ناقصة، وإنما الشافي هو الله عز وجل، وما جُعِلَ الدواءُ إلا سببًا للشفاء وحسب، ولذلك فإنَّ تعاطي الأسباب الشرعية قد يكون مصحوبًا بالاعتماد عليها، وقد يكون مصحوبًا بجعلها سببًا مع الاعتماد على الله جل وعلا واعتقادِ أنها قد تنفع وقد لا تنفع، فهذا هو المطلوب شرعًا، أما الاعتمادُ عليها اعتمادًا كليًّا فهذا شِركٌ.
قال ابن القيم في "مدارج السالكين": "فالالتفاتُ إلى الأسباب ضَربانِ؛ أحدهما: شرك، والآخر: عبودية وتوحيد. فالشِّركُ أن يَعتمدَ عليها، ويَطمئنَّ إليها، ويعتقدَ أنها بذاتِها محصِّلةٌ للمقصود؛ فهو مُعرِض عن المُسبِّب لها، ويجعل نظرَه والتفاتَه مقصورًا عليها.
وأمَّا إنِ التفتَ إليها التفاتَ امتثالٍ وقيامٍ بها، وأداء لحق العبودية فيها، وإنزالها منازلها؛ فهذا الالتفاتُ عبوديةٌ وتوحيد، إذ لم يَشغلْه عن الالتفات إلى المسبِّب. وأمَّا محوُها أن تكون أسبابًا؛ فقَدْحٌ في العقل والحسِّ والفطرة، فإن أعرض عنها بالكلية كان ذلك قدحًا في الشرع، وإبطالاً له، وحقيقةُ التوكُّلِ القيامُ بالأسباب، والاعتمادُ بالقلب على المسبِّب، واعتقادُ أنَّها بيده؛ فإن شاء مَنَعَها اقتضاءَها، وإن شاء جعلها مقتضية لضد أحكامها، وإن شاء أقام لها موانعَ وصوارفَ تُعارِض اقتضاءها وتَدفعُه". اهـ،، والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: