ضوابط السلعة في بيع المرابحة للآمر بالشراء
حسام الدين عفانه
- التصنيفات: فقه المعاملات -
تقدمت بطلب لشراء مواد بناء مرابحةً للبنك الإسلامي، وجعلت ضمن طلبي أجور المقاول والعمال، فأجابني البنك بأن المرابحة لا تغطي أجور المقاول والعمال، فلماذا لا تشمل المرابحة الأجور، أفيدونا؟
بيع المرابحة للآمر بالشراء هو طلب شراء لسلعةٍ معينةٍ بأوصافٍ محددةٍ يقدمه المشتري للمصرف الإسلامي، وذلك مقابل التزام الطالب بشراء ما طلبه حسب السعر والربح المتفق عليهما، ويكون أداء الثمن مقسطاً، وقد دلت عموم النصوص من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على حل جميع أنواع البيع بما فيها المرابحة إلا ما استثناه الدليل الخاص، يقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
ويدل على جواز بيع المرابحة ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكسب أفضل؟ قال: عمل الرجل بيده وكل بيعٍ مبرور" (رواه الطبراني وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع).
فهذه العمومات وغيرها من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على جواز بيع المرابحة، وكذلك فإن بيع المرابحة للآمر بالشراء يدخل تحت الأصل المعتبر شرعاً وهو (الأصل في المعاملات الإباحة) وهو أصل مقرر عند فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم، وبيع المرابحة للآمر بالشراء أقرته المجامع الفقهية المعتبرة والهيئات الشرعية للمصارف الإسلامية، ووضعت له ضوابط ومعايير وخطوات عند التنفيذ حتى يكون صحيحاً، ومنها المعيار الشرعي للمرابحة رقم (8) من معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، ومنها ضوابط عقد المرابحة التي وضعتها الهيئة الشرعية لبنك البلاد -بنك إسلامي سعودي- وغير ذلك.
إ
ذا تقرر هذا فإن السلعة في بيع المرابحة للآمر بالشراء وضعت لها ضوابط لا بد من توفرها حتى يكون العقد صحيحاً وهي كما يلي:
أولاً: يجب أن تكون السلعة مما يجوز التعامل به شرعاً؛ فلا تجوز المرابحة في المحرمات كالخمور والذبائح المحرمة والخنزير والتماثيل والدخان والأدوات الموسيقية وغيرها، فقد ورد عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة؟ فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام، ثم قال: قاتل الله اليهود لما حرمت عليهم شحومها جملوه –أذابوه- ثم باعوه وأكلوا ثمنه" (رواه البخاري ومسلم).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله إذا حرَّم شيئاً حرَّم ثمنه"( رواه أبو داود وأحمد، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام 1/192).
ثانياً: لا يجوز إجراء المرابحة المؤجلة في الذهب أو الفضة أو العملات النقدية، لأن التأجيل لا يجري في بيع عملةٍ بعملةٍ أخرى، وهذا هو عقد الصرف عند الفقهاء، وقد اتفق أهل العلم على أن من شروط عقد الصرف تقابض البدلين من الجانبين في المجلس قبل اقترافهما. قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد" المغني 4/192.
ثالثاً: لا يجوز أن تجري المرابحة في الأجور المنفصلة، كأجور المقاول والعمال المذكورة في السؤال، لأن ذلك يؤول إلى الربا، حيث إن المطلوب دفع الأجور حالاً، واستيفاؤها مؤجلةً مع زيادة، وهذا هو الربا بعينه. وأما لو كانت الأجور غير منفكة عن السلعة فلا حرج في ذلك، جاء في ضوابط المرابحة لبنك البلاد ما يلي: "لا يجوز أن تكون سلعة المرابحة أجور خدمات منفصلة- كأجور العمالة والتأمين والنقل- لأنها لا تصح أن تكون مبيعاً، ويجوز ذلك إن كانت أجور الخدمات ضمن قيمة السلعة".
رابعاً: يجوز أن تجري المرابحة في الحقوق المعنوية، وهي كل حقٍ لا يتعلق بمالٍ عيني ولا بشيء من منافعه، مثل حق التأليف وحق الاختراع والاسم التجاري ونحوها، لأنها مُقومةٌ شرعاً، جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن الحقوق المعنوية ما يلي: أولًا: "الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف والاختراع أو الابتكار، هي حقوق خاصة لأصحابها، أصبح لها في العُرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتموُّل الناس لها، وهذه الحقوق يعتد بها شرعًا، فلا يجوز الاعتداء عليها. ثانيًا: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية، ونقل أيٍّ منها بِعِوَض مالي، إذا انتفى الغرر والتدليس والغش، باعتبار أن ذلك أصبح حقًّا ماليًّا. ثالثًا: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعًا، ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها" مجلة المجمع. وورد في ضوابط المرابحة لبنك البلاد: "يجوز أن يكون المبيع الموعود بشرائه حقوقاً معنوية كالاسم التجاري والعلامة التجارية وبراءة الاختراع وغيرها؛ لأن هذه الحقوق يعتد بها شرعاً، ويصح التصرف فيها ونقلها بعوض".
خامساً: لا يجوز شرعاً أن تجري المرابحة فيما لا يمكن ضبطه بالتملك الحقيقي، كالبترول المنتقل عبر الأنابيب، والتيار الكهربائي، لأنه لا يتصور ملكية البنك الإسلامي للبترول المنتقل عبر الأنابيب ولا للطاقة الكهربائية ووقوعها في ضمانه ومن ثم بيعها للآمر بالشراء؛ لأن من شروط صحة البيع أن تكون السلعة مملوكةً ملكيةً تامةً للبائع وأن تكون السلعة في حوزة البائع (البنك) فعلاً أو حكماً.
ورد في المعيار الشرعي للمرابحة من معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ما يلي: "يحرم على المؤسسة أن تبيع سلعة بالمرابحة قبل تملكها لها، فلا يصح توقيع عقد المرابحة مع العميل قبل التعاقد مع البائع الأول لشراء السلعة موضوع المرابحة، وقبضها حقيقةً أو حكماً بالتمكين أو تسليم المستندات المخولة بالقبض... كما يعتبر بيع المرابحة غير صحيحٍ إذا كان عقدُ الشراء الأول باطلاً لا يفيد ملكاً تاماً للمؤسسة، يجب التحقق من قبض المؤسسة للسلعة قبضاً حقيقياً أو حكمياً قبل بيعها لعميلها بالمرابحة للآمر بالشراء".
سادساً: يجوز أن يكون المبيع الموعود بشرائه مرابحة أسهماً في شركة، شريطة أن تنطبق عليها ضوابط الأسهم المباحة، ضوابط المرابحة لبنك البلاد.
سابعاً: يجب أن تكون السلعة معلومةً علماً تاماً ومحددة المواصفات، لدفع أي جهالةٍ ومنع أي نزاعٍ قد يقع بين البنك وبين الآمر بالشراء.
ثامناً: السلعة محل العقد في المرابحة يجب أن تكون في ضمان البنك، وبالتالي لا يجوز تحميل الآمر بالشراء أي ضمان حتى يتسلمها من البنك البائع، ورد في معيار المرابحة من معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ما يلي: "لا يجوز تحميل العميل الآمر بالشراء ضمان ما يطرأ على السلعة من أضرار وهلاك خلال فترة الشحن أو التخزين".
تاسعاً: لا يجوز أن تكون السلعة محل العقد في المرابحة معيبةً، حتى لو حدث العيبُ بعد شراء البنك للسلعة، إلا إذا بيَّن البائع –البنك- العيب للآمر بالشراء ورضي به، لأن الأصل في المسلم أنه إذا باع سلعةً وكان فيها عيبٌ أن يُبـينه ولا يحل له كتمان العيب، لأن هذا من الغش ومن باب أكل أموال الناس بالباطل كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم: "مرَّ على صُبرة طعام -كومة- فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال صلى اللّه عليه وسلم: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، أي المطر. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشنا فليس مني" (رواه البخاري ومسلم) وفي رواية أخرى عند مسلم: "من غشنا فليس منا".
وقد اتفق الفقهاء على ثبوت خيار الرد بالعيب، فمن اشترى سلعةً ثم ظهر فيها عيبٌ وهو لا يعلم، ثبت له خيار الرد بالعيب، سواء علم البائع بالعيب أم لم يعلم. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: "متى علم بالمبيع عيباً لم يكن عالماً به، فله الخيار بين الإمساك والفسخ، سواء كان البائع علم العيب وكتمه أو لم يعلم، لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافاً، وإثبات النبي صلى الله عليه وسلم الخيار بالتصرية -وهي ربط ضرع الناقة أو البقرة أو الشاة حتى يجتمع اللبن فيه- تنبيهٌ على ثبوته بالعيب، ولأن مطلق العقد يقتضي السلامة من العيب بدليل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه اشترى مملوكاً فكتب: هذا ما اشترى محمد بن عبد الله من العداء بن خالد، اشترى منه عبداً أو أمةً لا داء به، ولا غائلة بيع المسلم المسلم" فثبت أن بيع المسلم اقتضى السلامة، ولأن الأصل السلامة، والعيب حادث أو مخالف للظاهر، فعند الإطلاق يحمل عليها فمتى فاتت فات بعض مقتضى العقد فلم يلزمه أخذه بالعوض، وكان له الرد وأخذ الثمن كاملاًً" المغني 4/109.
وخلاصة الأمر أن عقد المرابحة للآمر بالشراء من العقود المباحة، وأن علماء العصر قد وضعوا له شروطاً وضوابط معينة، ومن ضمن ذلك ضوابط السلعة محل المرابحة، بأن تكون مما يحل بيعه، ويجوز أن تجري المرابحة في الحقوق المعنوية وفي الأسهم المباحة، ويجب أن تكون السلعة معلومةً علماً تاماً ومحددة المواصفات، ويجب أن تكون في ضمان البنك، ولا تجري المرابحة المؤجلة في الذهب أو الفضة أو العملات النقدية، ولا يجوز أن تجري المرابحة في الأجور المنفصلة، كأجور المقاول والعمال المذكورة في السؤال؛ لأنها تؤول إلى الربا المحرم، ولا يجوز شرعاً أن تجري المرابحة فيما لا يمكن ضبطه بالتملك الحقيقي، ولا يجوز أن تكون السلعة محل العقد في المرابحة معيبةً.
الجمعة, 13 يناير 2012.