المباهلة في الخلافات على الأراضي

منذ 2013-02-14
السؤال:

هل يجوز شرعاً اللجوء إلى المباهلة في حالة حصول خلافٍ شديدٍ بين شخصين على قطعة أرض، وقد طال أمد الخلاف وفشلت جهود المصلحين في حله، أفيدونا؟

الإجابة:

المباهلة هي الملاعنة، والمقصود منها أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء، فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا. كما قال ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 1/439.

وقد وردت المباهلة في الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] ،قال ابن كثير في تفسير الآية الكريمة: "ثم قال تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ} أي: نحضرهم في حال المباهلة: {ثمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} أي: نلتعن {فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} أي:منا أو منكم. وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران، أن النصارى حين قدموا فجعلوا يحاجُّون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية، فأنزل الله صدر هذه السورة رداً عليهم، كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار وغيره" تفسير ابن كثير 2/49-50.

وقال الإمام البخاري في صحيحه: باب قصة أهل نجران، ثم روى بإسناده عن حذيفة قال "جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال فقال أحدهما لصاحبه لا تفعل، فوالله لئن كان نبياً فلاعنا، لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. قالا إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلاً أميناً، ولا تبعث معنا إلا أميناً. فقال: لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين. فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح. فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أمين هذه الأمة".

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني:"قوله: (يريدان أن يلاعناه) أي يباهلاه... وفي قصة أهل نجران من الفوائد، وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة. وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعي، ووقع ذلك لجماعة من العلماء. ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلاً لا تمضي عليه سنةٌ من يوم المباهلة. ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة فلم يقم بعدها غير شهرين" فتح الباري 12/195.

وقد وردت آيات أخرى في المباهلة مع أهل الكتاب ومع المشركين، قال ابن كثير عند قوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً} [مريم:75] وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدىً فيما هم فيه، كما ذكر تعالى مباهلة اليهود في قوله {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة:6]، أي: ادعوا على المبطل منا ومنكم بالموت،إن كنتم تدَّعون أنكم على الحق" تفسير ابن كثير 5/258.

وقرر أهل العلم أن المباهلة ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما آية "المباهلة" فليست من الخصائص، بل دعا علياً وفاطمة وابنيهما ولم يكن ذلك لأنهم أفضل الأمة بل لأنهم أخص أهل بيته كما في حديث الكساء "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" فدعا لهم وخصهم" مجموع فتاوى ابن تيمية 1/383.

والمباهلة مشروعة في قضايا العقيدة على وجه الخصوص، وعند المحاجة مع الكفار والملاحدة والمبطلين، قال العلامة ابن القيم: "إن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله، ولم يرجعوا، بل أصروا على العناد، أن يدعوهم إلى المباهلة، وقد أمر الله سبحانه، بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يقُل: إن ذلك ليس لأمتك من بعدك. ودعا إليها ابنُ عمه عبد الله بن عباس، من أنكر عليه بعض مسائل الفروع،ولم يُنكر عليه الصحابة، ودعا إليه الأوزاعيُ سفيانُ الثوري في مسألة رفع اليدين، ولم يُنكَر عليه ذلك، وهذا من تمام الحجة" زاد المعاد3/643.

وقال ابن عابدين: "...المباهلة مشروعة في زماننا وهي الملاعنة، كانوا يقولون إذا اختلفوا في شيئ بهلة الله على الكاذب منا" حاشية ابن عابدين 3/537.

وقد ورد في بعض الآثار عن السلف المباهلة في مسائل الفروع، فمن ذلك ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "من شاء باهَلتُه أنَّه ليس للأمَةِ ظِهارٌ" رواه الدارقطني البيهقي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً قال: "مَن شاء باهَلتُه أنَّ المسائل لا تعول" أي مسائل الميراث.

قال العلامة الألباني: "المباهلة أول مسألة عائلة حدثت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجمع الصحابة للمشورة فيها فقال العباس: أرى أن يقسم المال بينهم على قدر سهامهم فأخذ به عمر واتبعه الناس على ذلك حتى خالفهم ابن عباس فقال: من شاء باهلته أن المسائل لا تعول. إن الذي أحصى رمل عالج عدداً أعدل من أن يجعل في مالٍ نصفاً ونصفاً..." حسن أخرجه البيهقي"إرواء الغليل6/146.

وقد ورد في اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم في عدة المتوفى عنها إذا كانت حاملاً، حيث كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: "من شاء باهلته أن سورة النساء القصرى نزلت..." زاد المعاد 5/528.

وقال عكرمة:"من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم" يعني قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب:33].

إذا تقرر هذا فإن الراجح من أقوال أهل العلم أن المباهلة لا تكون في قضايا الفروع الفقهية كما في الخلافات التي تقع بين الناس في الأموال والأراضي والعقارات ونحوها، لأن الإسلام شرع طرقاً في القضاء الشرعي لحل هذه الخصومات، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدَّعي واليمين على من أنكر" (رواه الترمذي والبيهقي وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل حديث رقم 2661).

قال العلامة القاسمي عند تفسير قوله تعالى: "ثمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ" ما نصه: "استنبط من الآية جواز المحاجَّة في أمر الدين، وأن من جادل وأنكر شيئاً من الشريعة جازت مباهلته اقتداء بما أمر به صلى الله عليه وسلم. والمباهلة: الملاعنة. قال الكازروني في تفسيره: وقع البحث عند شيخنا العلامة الدواني قدس الله سره في جواز المباهلة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب رسالة في شروطها المستنبطة من الكتاب والسنة والآثار، وكلام الأئمة، وحاصل كلامه فيها: أنها لا تجوز إلا في أمر مهم شرعاً، وقع فيه اشتباهٌ وعنادٌ لا يتيسر دفعه إلا بالمباهلة، فيشترط كونها بعد إقامة الحجة والسعي في إزالة الشبهة وتقديم النصح والإنذار وعدم نفع ذلك، ومساس الضرورة إليها" تفسير القاسمي عن المكتبة الشاملة.

"وقد سئل العلامة الألبانيُّ عمَّا إذا كان من الممكن أن تشمل المباهلةُ قضايا عمليّة أو دنيويَّة بحتة، كما إذا كان لك على أخيك المسلم مالٌ فأنكره، أفيجوزُ لك أن تُباهله؟ فأجاب بأنّه لا يجوز تمديدُ الحكم بجواز المباهلة، ليشمل أموراً دنيويّةً أو مادِّيَّةً، وذلك لسببين اثنين: الأول: أنَّ المباهلة إنَّما تعلَّقت في الأصل بأمورٍ عقديَّة.
والثّاني: أنّ قضايا الخلاف الدنيويّ المادّي، وُضعت لحلّها قاعدة: البيِّنة على المدَّعي واليمين على المنكر. ثم يقول: ولكن إن كان و لا بدَّ من سحب القضيَّة إلى جانبٍ آخر، لم يُنصَّ على هذا الجانب في أثرٍ ما أو حديثٍ ما، فيُمكن سحبُها إلى خلافٍ بين طرفين من المسلمين، مختلفين في بعض الأفكار أو بعض العقائد، كالمعتزلة مثلاً وأهل السنة... يمكن سحبُ تلك القضية إلى مثل هذه؛ للمجانسة الموجودة بينهما" موقع الشيخ صالح العضيب.

ويُمكن كذلك إخراجُ قضايا الخلاف العلميِّ والفقهيِّ الَّذي لا يمسُّ أصول العقيدة، من باب المباهلة، ذلك أنّ هذه الخلافات تحكمها أصول البحث والحوار والنّظر في الأدلة، والاحتكام إلى المتخصّصين فيها، وردُّ الأمر إلى الله ورسوله، ولكن يرِد على ذلك أنَّ هناك أخباراً عن دعواتٍ للمباهلة أعلنها بعضُ الصّحابة رضوان الله عليهم وكانت في قضايا علميّة بحتة، ولم تكن تتعلّق بخلافاتٍ في أمورٍ عقديّة، والجواب عنه هذه الدعوات ما قاله الشيخ محمد بن صالح العثيمين، فقد سُئل عن هذه الأخبار الّتي تدلُّ على جواز المباهلة في الفروع، فقال: إنَّه اجتهادٌ منهم رضي الله عنهم. ولعلَّ فضيلة الشيخ ابن عثيمين يقصد بذلك أنّه لا حجِّيَّة لها في هذا الباب، ويُمكن أن يُقال إنّها قد صدرت عنهم في مقام الجدال والمنافحة عمَّا يراه أحدُهم من رأيٍ، بدون أن يكون مقصودهم نفسَ ما تدلُّ عليه العبارة، فلا يُمكن للمسلم ناهيك عن صحابيٍّ أن يدعوَ على أخيه باللَّعن والطّرد من رحمة الله، بسبب خلافٍ في مسألةٍ علميَّة، بل غايةُ ما هنالك أن يؤكِّد أحدهم صحَّة المذهب الّذي ذهب إليه" المصدر السابق بتصرف.

وخلاصة الأمر أن المباهلة هي الملاعنة، والمقصود منها أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيءٍ، فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا، وهي مشروعة بالكتاب والسنة، وأن الراجح من أقوال أهل العلم أنها تكون في القضايا المتعلقة بالعقيدة، وفي الخصام مع الملحدين والكفرة والمبطلين، ولا تكون في النزاعات المالية أو العلمية، لأن المباهلة تتضمن اللعن والإبعاد والطرد من رحمة الله عز وجل، ولا ينبغي أن يقع ذلك من مسلمين بسبب خلافٍ مالي أو نحوه.
الجمعة, 02 ديسمبر 2011.

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.

  • 10
  • 0
  • 45,646

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً