ائتمام النساء بالرجال مع وجود فاصل
نرى في المساجد: أنَّ النِّساءَ يصلِّين في مصلًّى، يفصِل بينه وبينَ صُفوفِ الرِّجال جدارٌ أو نَحوُه، بِحيثُ إنَّ النِّساءَ لا يشاهِدْن الإمامَ ولا الصُّفوف، ولا يسمعْنَ التَّكبير إلا بواسطةٍ المكبِّر، فما حكْمُ صلاتِهنَّ خلف إمامِ المسجِد؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقد كانَ النِّساء يُصلِّين خَلْف الرِّجال على عهْدِ رسولِ الله صلَّى الله عليْهِ وسلَّم والصحابة من بعده، بدون وضْعِ حاجزٍ بين الرِّجال والنِّساء في المسجِد، وعلى الرغْم أنَّه خيْرُ القُرون إلا أنَّه - روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها"؛ فالمرأةُ كلَّما كانتْ أبعَدَ عنِ الرِّجال، كان أصوَنَ لها، وأحفظَ لِعِرْضها، وأبعدَ عن المَيْلِ للفاحِشة.
قال النَّووي: "وإنَّما فضَّل آخِر صفوف النِّساء؛ لبعْدِهن من مُخالطة الرِّجال ورؤْيَتِهم، وتعلُّق القلب بِهم عند رؤية حركاتِهم، وسماع كلامِهم، ونَحو ذلك، وذمَّ أوَّل صفوفِهِنَّ لعكس ذلك".
فلا حرجَ في صلاةِ المرأة خلف الرجُل بلا حاجزٍ، إن غلب على الظَّنِّ السَّلامةُ وعدمُ ترتُّب مفسدة، وإن غلَب العكْسُ -كما هو الحالُ في رجال ونِساء زمانِنا- روعي اتِّخاذ الحاجز؛ دفعًا للفِتْنة، ولأنَّ تَمييزَ النِّساء عن الرِّجال من مقاصِد الشَّرع الحنيفِ، الذي جاء بسدِّ جَميع سُبُل الفساد، ومِن أعظمِها الاختِلاط المؤدِّي إلى الفتنة، وما ينشأُ عن ذلك من آثارٍ سيِّئة وعواقبَ مدمِّرة، كما أنَّ من حِكَم الشَّرع البالغة: صيانةَ أعراض المسلمين، وحفظَ حُرُماتِهم.
قال الشيخ ابن عُثيمين: "كان النِّساء في عهد النَّبي صلى الله عليْه وعلى آله وسلَّم يُصلِّين وليس بينهنَّ وبين الرِّجال حاجز، ولكنَّ النَّبيَّ صلى عليه وعلى آله وسلَّم ندَبَ إلى شيئَيْن: الشَّيء الأوَّل: أنَّه قال: "بيوتُهنَّ خيرٌ لهنَّ"، مع سلامةِ النَّاس في ذلك الوقْت؛ فالصَّحابة هُم خيْر القُرون، ومع ذلك قال: "وبيوتُهنَّ خيرٌ لهنَّ"، وهذا يعني أنَّ صلاة المرأة في بيتِها أفضل.
ثانيًا: أنَّه قال: "خيرُ صفوف النِّساء آخرُها، وشرُّها أوَّلُها"، وهذا يدلُّ على أنَّ الأفضل: أنْ تبتعِدَ المرأة عن مُخالطة الرَّجُل، هذه واحدة.
أمَّا أنَّه ليس بينَهُما من حاجز، فهلِ المساجدُ في عهْد الرَّسول عليْه الصَّلاة والسَّلام كمساجِدنا اليومَ في الإضاءة والإنارة؟ لا، وهل نِساءُ الصَّحابة كنِساء اليوم؟ لا". اهـ.
قال أبو حامد الغزالي في "الإحياء": "ويَجب أن يُضْرَب بين الرِّجال والنِّساء حائل، يَمنع من النظر؛ فإنَّ ذلك أيضًا مظنَّة الفساد، والعادات تشهَدُ لِهذه المُنْكَرات، ويَجب منْعُ النِّساء من حُضور المساجِد للصَّلوات ومَجالس الذكر، إذا خيفتِ الفِتنة بهنَّ؛ فقد منعتْهنَّ عائشة رضي الله عنها فقيل لها: إنَّ رسول الله صلَّى الله عليْهِ وسلَّم ما منعهُنَّ من الجماعات، فقالت: "لو علم رسولُ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم ما أحدثْنَ بعدَه لمنعهُنَّ".
وقال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحِمه الله في كتابه "الاستِقامة": "وقد كان من سُنَّة النَّبيِّ صلَّى الله عليْهِ وسلَّم وسنَّة خُلفائِه - التَّمييزُ بيْن الرِّجال والنِّساء، والمتأهِّلين والعزَّاب، فكان المندوب في الصَّلاة: أن يكونَ الرِّجالُ في مقدَّم المسجد والنساء في مؤخَّره؛ وقال النَّبيُّ صلَّى الله عليْهِ وسلَّم: "خيْرُ صُفوف الرِّجال أوَّلُها، وشرُّها آخِرُها، وخيرُ صفوف النِّساء آخِرها، وشرُّها أوَّلها"، وقال: "يا مَعْشَر النِّساء، لا تَرْفَعْن رُؤوسكُنَّ حتَّى يرفعَ الرِّجال رُؤوسَهم؛ من ضيق الأُزُر"، وكان إذا سلَّم لبِثَ هُنيْهة -هو والرِّجال- ليَنْصَرِف النِّساء أوَّلاً؛ لئلاَّ يَختلِط الرِّجال والنِّساء، وكذلك يوم العيد كان النِّساءُ يصلِّين في ناحيةٍ، فكان إذا قضى الصَّلاةَ خطبَ الرِّجالَ، ثُمَّ ذهب فخطبَ النِّساء، فوعظهُنَّ وحثَّهُنَّ على الصَّدقة؛ كما ثبتَ ذلِكَ في الصَّحيح، وقد كان عُمرُ بن الخطَّاب - وبعضُهم يرفعُه إلى النَّبيِّ - قد قال عن أحدِ أبوابِ المسْجِد - أظنُّه البابَ الشَّرقيَّ -: "لو تركْنا هذا البابَ للنِّساء"، فما دخلَه عبدالله بن عُمر حتَّى مات.
وفي السُّنن، عنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليْهِ وسلَّم أنَّه قال للنِّساء: "لا تُحقِّقْنَ الطَّريقَ، وامشِينَ في حافتِه"، أي: لا تَمشينَ في حقِّ الطَّريق -وهو وسطه- وقال عليٌّ: "ما يَغار أحدُكم أن يُزاحم امرأتَه العلوجُ بمنكبها"، يعني في السوق.
وهذا كلُّه؛ لأنَّ اختِلاط أحد الصِّنفَين بالآخَر سببُ الفِتنة؛ فالرِّجال إذا اختلطوا بالنِّساء كان بِمنزلة اختِلاط النَّار والحطب، فإنَّ الفتنة تكون لوجود المقتضي وعدم المانع، فالمخنَّث الذي ليس رجُلاً مَحضًا ولا هو امرأة مَحضة - لا يُمْكِن خلطُه بواحدٍ من الفريقَيْنِ، فأمر النَّبي صلَّى الله عليْهِ وسلَّم بإخراجه من بيْن النَّاس؛ وذلك أنَّ المرأة إذا أُمِرَتْ بالاحتِجاب وتَرْكِ التَّبرُّج، وغير ذلك مِمَّا هو من أسباب الفِتنة بِها ولَها".
وعليه؛ فوضْعُ ساترٍ بيْن النِّساء والرِّجال في المسجد من الوسائل الحسنة؛ لإبعاد النِّساء عن الرِّجال وأمنِهنَّ من النَّظر إليهِنَّ، ولا سيَّما إذا احتاجتِ المرأة لنَزْعِ شيْءٍ من حجابِها أو ما شابه، كما أنَّه يتحقَّق به أمنُ الافتِتان، وخاصَّة مع انتِشار التَّبرُّج والتَّساهُل في أمْرِ الحِجاب، وفي تِلْك الحالُ يكونُ اقتِداء النِّساء ومتابعتهن للإمام عن طريقِ مُكبِّرات الصَّوت، كما أفتى به غيْرُ واحدٍ من عُلماء العصْر،، والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: