اشتراط الضمان على مستأجر السيارة
حسام الدين عفانه
- التصنيفات: فقه المعاملات -
ما مدى صحة اشتراط شركات تأجير السيارات ضمان السيارة المستأجرة على المستأجر؟
الأصل المقرر عند الفقهاء أن يد المستأجر يد أمانة وليست يد ضمان، والمقصود بيد الأمانة هي: اليد التي خلفت يد المالك في حيازة ملكه، وتصرفت فيه عن ولايةٍ شرعية في تلك الحيازة، ولم يدل دليل على ضمان صاحبها.
والمقصود بيد الضمان: هي كل يدٍ لا تستند إلى إذن شرعي من الشارع أو من المالك. بحث "يد الضمان ويد الأمانة بين النظرية والتطبيق في الفقه الإسلامي".
وقرر الفقهاء أن المستأجر لا يضمن العين المستأجرة إلا في حالة التعدي والتفريط والتقصير.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: "والعين المستأجرة أمانةٌ في يد المستأجر إن تلفت بغير تفريط لم يضمنها. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله -الإمام أحمد- يُسأل عن الذين يكرون المظل أو الخيمة إلى مكة فيذهب من المكتري بسرقٍ أو بذهابٍ هل يضمن؟ قال: أرجو أن لا يضمن،وكيف يضمن؟ إذا ذهب لا يضمن، ولا نعلم في هذا خلافاً وذلك لأنه قبض العين لاستيفاء منفعة يستحقها منها فكانت أمانة" المغني 6/128.
وورد في الموسوعة الفقهية: "ضمان الإجارة: إذا كانت الإجارة تمليك المنفعة بعوض، فإن المنفعة ضربان:
أ- فقد تكون المنفعة بمجردها هي المعقود عليها، وتتحدد بالمدة، كإجارة الدور للسكنى، والحوانيت للتجارة، والسيارات للنقل، والأواني للاستعمال.
ب-وقد تكون المنفعة المعقود عليها عملاً معلوماً يؤديه العامل، كبناء الدار، وخياطة الثوب، وإصلاح الأجهزة الآلية، ونحو ذلك.
ج- فإذا كانت المنفعة المعقود عليها، وهي مجرد السكنى أو الركوب، أو نحوهما، يفرق في الضمان، بين العين المأجورة، وبين المنفعة المعقود عليها:
أ- فتعتبر الدار المأجورة، والسيارة المستأجرة - مثلاً- أمانة في يد المستأجر، حتى لو خربت الدار، أو عطبت السيارة، وهي في يده، بغير تفريطٍ ولا تقصيرٍ، لا ضمان عليه، لأن قبض الإجارة -كما يقول الكاساني- قبضٌ مأذونٌ فيه، فلا يكون مضموناً، كقبض الوديعة والعارية، سواء أكانت الإجارةُ صحيحةً أم فاسدة" الموسوعة الفقهية الكويتية28/254.
وكذلك فقد نصت مجلة الأحكام العدلية وهي المطبقة في بلادنا كقانونٍ مدني على أن يد المستأجر يد أمانة وليست يد ضمان، فقد ورد في المادة (600) المأجورُ أمانةٌ في يد المستأجر إن كان عقد الإجارة صحيحاً أو لم يكن.
وورد في المادة (601) لا يلزم الضمان إذا تلف المأجور في يد المستأجر ما لم يكن بتقصيره أو تعديه أو مخالفته لمأذونيته.
وورد في المادة (602) يلزم الضمان على المستأجر لو تلف المأجور أو طرأ على قيمته نقصان بتعديه، مثلاً لو ضرب المستأجر دابة الكراء فماتت منه أو ساقها بعنفٍ وشدةٍ هلكت لزمه ضمان قيمتها.
وورد في المادة (603) حركة المستأجر على خلاف المعتاد تعدٍ ويضمن الضرر والخسارة التي تتولد معها مثلاً لو استعمل الثياب التي استكراها على خلاف عادة الناس وبليت يضمن، كذلك لو احترقت الدار المأجورة بظهور حريق فيها بسبب إشعال المستأجر النار أزيد من الناس يضمن.
وورد في المادة (604) لو تلف المأجور بتقصير المستأجر في أمر المحافظة أو طرأ على قيمته نقصان لزم الضمان، مثلاً لو ترك المستأجر دابة الكراء حبلها على غاربها وضاعت يضمن.
وورد في المادة (605) مخالفة المستأجر مأذونيته بالتجاوز إلى ما فوق المشروط توجب الضمان، وأما مخالفته بالعدول إلى ما دون المشروط أو مثله لا توجبه، مثلاً لو حمل المستأجر خمسين أقة حديد على دابة استكراها لأن يحملها خمسين أقة سمن وعطبت يضمن, وأما لو حملها حمولة مساوية للدهن في المضرة أو أخف وعطبت لا يضمن.
إذا تقرر هذا فإن من الفقهاء من أجاز تضمين يد الأمانة بالشرط، واعتبروا الشرط صحيحاً، وهو قول قتادة وعثمان البتي وعبيد الله العنبري وداود الظاهري ورواية عن الإمام أحمد، وانتصر لهذا القول الشوكاني في السيل الجرار، وإن كان جمهور الفقهاء على خلاف ذلك، انظر بحث "مدى صحة تضمين يد الأمانة بالشرط" ص396-398. فيجوز أن يضمن المستأجر العين المؤجرة إذا شرط المؤجر عليه ذلك الشرط.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: "فإن شرط المؤجر على المستأجر ضمان العين، فالشرط فاسد، لأنه ينافي مقتضى العقد، وهل تفسد الإجارة به؟ فيه وجهان بناءً على الشروط الفاسدة في البيع، قال أحمد: فيما إذا شرط ضمان العين: الكراء والضمان مكروه. وروى الأثرم بإسناده عن ابن عمر قال: لا يصلح الكراء بالضمان. وعن فقهاء المدينة أنهم كانوا يقولون لا نكتري بضمان. إلا أنه من شرط على كريٍّ أنه لا يُنزل متاعه بطن وادٍ أو لا يسير به ليلاً مع أشباه هذه الشروط فتعدى ذلك فتلف شيءٌ مما حمل في ذلك التعدي فهو ضامن، فأما غير ذلك فلا يصح شرط الضمان فيه، وإن شرطه لم يصح الشرط، لأن ما لا يجب ضمانه لا يُصيِّره الشرط مضموناً، وما يجب ضمانه لا ينتفي ضمانه بشرط نفيه، وعن أحمد أنه سُئل عن ذلك فقال: المسلمون على شروطهم وهذا يدل على نفي الضمان بشرطه ووجوبه بشرطه لقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم"" المغني 6/128.
وما نقله عن الإمام أحمد أخيراً يتفق مع تأصيله في العقود والشروط، أن الأصل الشرعي فيها الإباحة ما لم يتعارض ذلك مع النصوص الشرعية أو مع قياسٍ صحيحٍ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصاً أو قياساً عند من يقول به. وأصول أحمد المنصوصة عنه أكثرها يجري على هذا القول. ومالكٌ قريبٌ منه؛ لكن أحمد أكثر تصحيحاً للشروط. فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحاً للشروط منه. وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط فيها يثبته بدليل خاص من أثر أو قياس" مجموع الفتاوى 6/470،
وقال العلامة ابن القيم عندما ذكر قول من زعم بأن الأصل في عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها البطلان حتى يقوم دليل على الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه، فأفسدوا بذلك كثيراً من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناءً على هذا الأصل. وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم، ومعلوم أنه لا حرامَ إلا ما حرَّمه اللهُ ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثَّم اللهُ ورسولُه به فاعله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه،فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم"إعلام الموقعين 1/470.
وبناءً على ما سبق فإن اشتراط شركات تأجير السيارات ضمان السيارة المستأجرة على المستأجر، شرطٌ صحيحٌ ما دام أن المستأجر قد قبل الشرط.
ويؤيد ذلك أيضاً أن يد الأمانة تتحول إلى يد ضمان في حالاتٍ، منها ما هو متفق عليه بين الفقهاء كالتعدي والتفريط، ومنها ما هو محل اختلافٍ بينهم كما في التجهيل والعرف وتطوع الأمين بالتزام الضمان بعد العقد والمصلحة والتهمة. بحث "مدى صحة تضمين يد الأمانة بالشرط" ص374.
ولا شك أن المحافظة على أموال الناس من ضمن المصالح الشرعية المعتبرة، وأنه في حالة السيارات المستأجرة يصعب إثبات عدم التعدي والتفريط، لأن المستأجر يغيب بالسيارة عن نظر المؤجر، لأن الإجارة قد تكون لأيامٍ أو أسابيع أو أكثر، فالقول بتضمين المستأجر محققٌ للمصلحة، كما في مسألة تضمين الصنَّاع -أصحاب الحِرَف-.
قال د. نزيه حماد: "ما ذكره ابن رشد في مسألة تضمين الصناع بقوله "ومن ضمَّنه فلا دليلَ له إلا النظر إلى المصلحة وسد الذريعة" أي إلى تضييع أموال الناس وإتلافها، وعلى ذلك فإذا كانت "المصلحة العامة وصيانة أموال الناس" قاعدةٌ معتبرةٌ شرعاً في جعل يد الأمين ضامنة جبراً بغير رضاه؛ فلأن تعتبر ضامنة برضاه واختياره عند اشتراطه ذلك على نفسه في العقد أو اشتراطه عليه وقبوله به أولى، ولا أدل على أن في اشتراط الضمان على الأمين حاجة معتبرة ومصلحة راجحة من أمرين: أحدهما: أن هذا الاشتراط عمل مقصود للناس يحتاجون إليه، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه، فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه، وحيث لم يثبت تحريمه بنص، فإنه يلزم القول بإباحته وصحته، رفقاً بالناس وتيسيراً عليهم؛ اعتباراً لعمومات الكتاب والسنة والقاضية برفع الحرج عن العباد في معاملاتهم، وقد كان الإمام أبو يوسف يقول دائماً: (ما كان أرفق بالناس فالأخذ به أولى، لأن الحرج مرفوع)" بحث"مدى صحة تضمين يد الأمانة بالشرط"ص405-406.
"فيجوز لمكاتب تأجير السيارات اشتراط ضمانها على المستأجر لعدة اعتبارات منها: فساد الأمانة في هذا الزمان وصعوبة إثبات التعدي والتفريط من عدمها، لأن السيارة يغيب بها المستأجر ويصعب في أحيان كثيرة إثبات تعديه وتفريطه، وإذا جاز تضمين الأمين بالتهمة كما هو عند المالكية في المشهور عنهم، فلأن يضمن بالشرط أولى، لأن غالب الاشتراطات تكون للتهمة أصلاً، ثم إن المصلحة وصيانة أموال الناس اليوم تقتضي هذا الاشتراط. وحيث قلنا بجواز تضمين مستأجر السيارة فإنه لا يضمن إلا المتلفات فيضمن مثل التالف إن كان له مثل أو قيمته إن لم يكن له مثل، وأما تضمينه أجرة المدة التي تبقى فيها السيارة في الورشة لإصلاحها فلا يصح، لأن الإجارة تنفسخ بتلف العين المستأجرة سواء كان تلفها من قبل المستأجر أو تلفت بنفسها" نقلا عن موقع الشبكة الإسلامية.
وأخيراً لا بد من الإشارة إلى أن القانون المدني الأردني قد أخذ بهذا المبدأ وهو تضمين المستأجر مع أن يده يد أمانة، ولم يعمل بقاعدة "الأجر والضمان لا يجتمعان" وهي من قواعد المجلة رقم 86، وأن العمل بموجبها قد ألغي بموجب المواد 256 و 266 و 1448 من القانون المدني.
وخلاصة الأمر أن اشتراط شركات تأجير السيارات ضمان السيارة المستأجرة على المستأجر، شرطٌ صحيحٌ ما دام أن المستأجر قد قبل الشرط، ولا مانع شرعاً أن تنقلب يدُ الأمانة إلى يد ضمانٍ، وخاصة أن في ذلك تحقيق مصلحةٍ معتبرةٍ شرعاً ألا وهي حفظ أموال العباد.
الجمعة, 21 أكتوبر 2011.