حكم أجرة السمسار فيما زاد عن الثمن المطلوب من المالك
قلت لسمسارٍ: بع قطعة الأرض هذه بمئة ألف دينار، وما زاد فهو لك، ما الحكم في ذلك؟
السمسرة في اصطلاح الفقهاء: هي التوسط بين البائع والمشتري، والسمسار هو: الذي يدخل بين البائع والمشتري متوسطاً لإمضاء البيع، وهو المسمى الدلال؛ لأنه يدل المشتري على السلع، ويدل البائع على الأثمان. الموسوعة الفقهية الكويتية 10/152.
والسمسرة تسمى أيضاً الوساطة التجارية، وهي من الأمور المشهورة المتعارف عليها، ويتعامل الناس بها منذ عهد بعيدٍ، وهي مشروعة وجائزة، فقد ورد في الحديث عن قيس بن أبي غرزة رضي الله عنه قال: "كنَّا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نسمَّى السماسرة فمر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمانا باسمٍ هو أحسن منه. فقال: يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة" (رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال العلامة الألباني صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود 2/640).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضرٌ لبادٍ -قال طاووس راوي الحديث- فقلت لابن عباس: ما قوله: (لا يبع حاضر لباد؟) قال: لا يكون له سمساراً" (رواه البخاري ومسلم). وقال الإمام البخاري في صحيحه: "باب أجرة السمسرة ولم ير ابن سيرين وعطاء وإبراهيم والحسن بأجر السمسار بأساً. وقال ابن عباس: "لا بأس أن يقول بع هذا الثوب فما زاد على كذا وكذا فهو لك". وقال ابن سيرين: "إذا قال له بعه بكذا فما كان من ربح فهو لك أو بيني وبينك فلا بأس به". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عند شروطهم". ثم ساق الإمام البخاري حديث ابن عباس السابق" (صحيح البخاري مع الفتح 5/357-358).
وقال ابن أبي شيبة: "في الرجل يدفع إلى الرجل الثوبَ فيقول: بعه فما ازددت فلك. ثم روى بإسناده عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأساً أن يعطي الرجلُ الرجلَ الثوب فيقول: بعه بكذا وكذا، فما ازددت فلك... وعن ابن سيرين أنه لم يكن يرى بأساً... وعن شريح أنه لم يكن يرى بأساً أن يعطيه الثوب فيقول: بع هذا الثوب بكذا وكذا فما ازددت فلك... وعن عامر أنه لم يكن يرى بذلك بأساً... وعن الزهري قال: إذا دفع الرجلُ إلى الرجل متاعاً فقال: ما استفضلت فهو لك، أو فبيني وبينك، فلا بأس به... وعن الحكم في الرجل يعطي الرجلَ الثوبَ فيقول: بعه بكذا وكذا، فما زاد فهو بيني وبينك، قال: لا بأس به... وعن عطاء أنه كان لا يرى بذلك بأساً... وعن عطاء في الرجل يدفع إلى الرجل الثوبَ فيقول: بعه بكذا وكذا، فما استفضلت فهو لك، قال: إن كان بنقدٍ فلا بأس، وإن كان بنسيئةٍ فلا خير فيه" مصنف ابن أبي شيبة 5/48-49.
وقال عبد الرزاق الصنعاني: "باب الرجل يقول: بع هذا بكذا فما زاد فلك!وكيف إن باعه بدين؟ ثم روى بإسناده عن الزهري وقتادة وأيوب وابن سيرين كانوا لا يرون ببيع القيمة بأساً، أن يقول: بع هذا بكذا وكذا، فما زاد فلك، وعن الشعبي في الرجل يقول: بع هذا الثوب بكذا وكذا، فما زاد فلك، قال: لا بأس به... وعن ابن عباس أنه لم ير به بأساً، قال: وذكره يونس عن الحسن، وبيع القيمة أن يقول: بع هذا بكذا وكذا، فما زاد فلك" مصنف عبد الرزاق8/234.
وهذه الآثار المنقولة عن السلف تدل على جواز هذه الصورة من صور السمسرة، وما رواه البخاري تعليقاً وصله ابن أبي شيبة وغيره كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "قوله باب أجر السمسرة ولم ير ابن سيرين وعطاء وإبراهيم والحسن بأجر السمسار بأساً، قال ابن عباس: لا بأس أن يقول بع هذا الثوب فما زاد على كذا وكذا فهو لك، وقال ابن سيرين إذا قال بعه بكذا فما كان من ربح فلك أو بيني وبينك فلا بأس به، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عند شروطهم" . أما أثر ابن سيرين فقال ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا حفص عن أشعث عن محمد بن سيرين وعن الحكم وحماد عن إبراهيم قال لا بأس بأجر السمسار إذا اشترى يداً بيد. وأما أثر عطاء فقال ابن أبي شيبة حدثنا وكيع ثنا ليث أبو عبد العزيز قال سألت عطاء عن السمسرة فقال لا بأس بها. وأما أثر إبراهيم فتقدم مع ابن سيرين... وأما أثر ابن عباس فقال ابن أبي شيبة حدثنا هشيم عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأساً أن يعطي الرجلُ الرجلَ فيقول بعه بكذا وكذا فما ازددت فلك. وأما قول ابن سيرين الثاني فقال ابن أبي شيبة حدثنا هشيم عن يونس عن محمد هو ابن سيرين أنه لم يكن يرى بذلك بأساً" تغليق التعليق 2/117.
والقول بجواز هذه الصورة من صور السمسرة منقول أيضاً عن الإمامين أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال في القواعد النورانية: "وأما إن كان العوض مما يحصل من العمل جاز أن يكون جزءً شائعاً فيه. كما لو قال الأمير في الغزو: من دلنا على حصن كذا فله منه كذا، فحصول الجعل هناك مشروط بحصول المال، مع أنه جعالة محضة لا شركة فيه، فالشركة أولى وأحرى".
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: "إذا دفع إلى رجل ثوباً وقال بعه بكذا فما ازددت فهو لك، صح نص عليه أحمد في رواية أحمد بن سعيد وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال ابن سيرين وإسحاق، وكرهه النخعي وحماد وأبي حنيفة والثوري والشافعي وابن المنذر لأنه أجر مجهول يحتمل الوجود والعدم. ولنا ما روى عطاء عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأساً أن يعطي الرجلُ الرجلَ الثوبَ أو غير ذلك فيقول بعه بكذا وكذا فما ازددت فهو لك، ولا يُعرف له في عصره مخالف، ولأنها عينٌ تُنَمَّى بالعمل فيها أشبه دفع مال المضاربة، إذا ثبت هذا فإن باعه بزيادة فهي له، لأنه جعلها أجرةً، وإن باعه بالقدر المسمَّى من غير زيادةٍ، فلا شيء له، لأنه جعل له الزيادة، ولا زيادة ههنا، فهو كالمضارب إذا لم يربح. وإن باعه بنقصٍ عنه لم يصح البيع، لأنه وكيل مخالفٌ، وإن تعذر رده ضمن النقص" المغني 6/81.
وقال البهوتي الحنبلي: "ولو دفع عبده أو دفع دابته إلى من يعمل بها بجزء من الأجرة جاز، أو دفع ثوباً إلى من يخيطه، أو دفع غزلاً إلى من ينسجه بجزء من ربحه. قال في المغني: وإن دفع ثوبه إلى خياط ليفصله قمصاناً ليبيعها وله نصف ربحها بحق عمله جاز، نص عليه في رواية حرب، وإن دفع غزلاً إلى رجل ينسجه ثوباً بثلث ثمنه أو ربعه جاز نص عليه؛ أو دفع ثوباً إلى من يخيطه أو غزلاً إلى من ينسجه بجزء منه مشاع معلوم جاز" كشاف القناع 11/382.
وذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني نقلاً عن ابن التين أحد شراح صحيح البخاري أن بعض العلماء قد شرط في جواز هذه الصورة من صور السمسرة أن يعلم الناس ذلك الوقت أن ثمن السلعة يساوي أكثر مما اتفقا عليه. انظر فتح الباري 5/358.
ومما يدل على الجواز ما قرره فقهاؤنا أن الأصل في باب المعاملات الإباحة، قـال شيخ الإسـلام ابن تيميـة: "والأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه كما لا يشرع لهم من العبادات التي يتقربون بها إلى الله إلا ما دل الكتاب والسنة على شرعه إذ الدين ما شرعه الله والحرام ما حرمه الله بخلاف الذين ذمهم الله حيث حرموا من دين الله ما لم يحرمه الله وأشركوا به ما لم ينزل به سلطاناً وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، اللهم وفقنا لأن نجعل الحلال ما حللته والحرام ما حرمته والدين ما شرعته" مجموع فتاوى شيخ الإسلام 28/386.
وقال العلامة ابن القيم: "والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم، والفرق بينهما أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله، فإن العبادة حقه على عباده، وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها، ولهذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين. وهو تحريم ما لم يحرمه، والتقرب إليه بما لم يشرعه، وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفواً لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه، وما سكت عنه فهو عفو، فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال، فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه؟ وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والعهود كلها، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]. وقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء:34]. وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج:32]. وقال تعالى: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} [البقرة:177]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3]. وقال: {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين} [آل عمران:76]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال:58]. وهذا كثير في القرآن". ثم ذكر ابن القيم عدداً من الأحاديث التي تدل على صحة ما قاله. إعلام الموقعين عن رب العالمين 3/107-112.
وخلاصة الأمر أن الراجح في هذه الصورة من صور السمسرة -بع هذا الشيء بكذا وكذا وما زاد فهو لك- أنها صورة جائزة شرعاً ولم يرد في الشرع ما يمنعها.
الجمعة, 23 سبتمبر 2011.
حسام الدين عفانه
دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.
- التصنيف:
- المصدر: