حكم جدولة الدُّيون

منذ 2013-02-20
السؤال:

أرجو بيان الحكم الشرعي لما يسمى جدولة الدُّيون؟

الإجابة:

المقصود بجدولة الدُّيون هو زيادة أجل سداد الدَّين مقابل زيادة مبلغ الدَّين، فمثلاً استدان شخصٌ مبلغَ عشرة آلاف دينار ليسددها على أقساط لمدة عشرين شهراً، ثم تعثر في السداد، فاتفق مع الدائن على جدولة الدَّين، فتصير مدة السداد أربعين شهراً على أن يصير مبلغ الدَّين خمسة عشر ألف دينار.

وجدولة الدُّيون تتم على مستوى الأفراد والشركات والمؤسسات، وعلى مستوى الدول. حيث إن الدول الدائنة تلزم الدول المدينة بجدولة ديونها عندما تتعثر في سدادها، فتؤدي جدولة الدُّيون إلى تراكم الفوائد الربوية والرسوم الآجلة مما يؤجج أزمة الدُّيون بدلاً من تخفيضها،وتكون النتيجة زيادة مجموع رصيد الدُّيون.

وجدولة الدُّيون بالصورة السابقة نوع من بيع الدَّين بالدَّين عند الفقهاء، وهو محرم شرعاً، نظراً لاشتماله على الربا المحرم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهو ذات الربا الذي كان معروفاً في الجاهلية.

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "روى مالكٌ عن زيد بن أسلم في تفسير الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:130]، قال: "كان الربا في الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل حقٌ إلى أجل، فإذا حلَّ قال: أتقضي أم تُربي؟ فإن قضاه أخذ، وإلا زاده في حقه وزاده الآخر في الأجل"... ومن طريق قتادة "إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجلُ البيعَ إلى أجلٍ مسمىً، فإذا حلَّ الأجلُ ولم يكن عند صاحبه قضاءٌ زاد وأخَّر عنه" فتح الباري 4/395.

ومن المقرر عند الفقهاء أن الدُّيون متى استقرت في الذمة، فأي زيادةٍ عليها محرمة شرعاً، لأن الزيادة على الدَّين مهما كان هذا الدَّين، دين قرض أو دين بيعٍ أو أي دينٍ آخر. فالأصل الذي قرره فقهاؤنا أن أي زيادة مشروطة على مبلغ الدَّين تعتبر من الربا المحرم ومن المعلوم أن تحريم الربا قطعي في شريعتنا.

وأذكر بعض النصوص الشرعية التي تحرم الربا والتعامل به، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278-279].

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء} (رواه مسلم).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" (رواه البخاري ومسلم). وقال صلى الله عليه وسلم: "الربا اثنان وسبعون باباً أدناها إتيان الرجل أمه" (رواه الحاكم وقال العلامة الألباني: صحيح. سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/488).

وقال صلى الله عليه وسلم: "الربا ثلاثةٌ وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه" (رواه الحاكم وقال العلامة الألباني: صحيح. كما في صحيح الجامع الصغير 1/633).

وقال صلى الله عليه وسلم: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستٍ وثلاثين زنية" (رواه أحمد والطبراني وقال العلامة الألباني:صحيح كما في صحيح الجامع الصغير 1/636).

وقد دلت هذه النصوص على تحريم الربا، وهو كل زيادة مشروطة على القرض أو الدَّين.

وبناءً على كون جدولة الدُّيون رباً محرماً شرعاً، فقد قررت المجامع الفقهية وهيئات الرقابة الشرعية منع التعامل به في المصارف الإسلامية، وصدرت قراراتٌ عديدة في منعه، منها قرار مجلـس المجمـع الفقهـي الإسلامـي التابع لرابطة العالم الإسلامي فـي دورته السادسة عشرة، سنة1422هـ وفق2002م، حيث نظر في موضوع: "بيع الدَّين" وبعد استعراض البحوث التي قدمت، والمناقشات المستفيضة حول الموضوع، وما تقرر في فقه المعاملات من أن البيع في أصله حلال، لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275]. ولكــن البيع له أركانٌ وشروطٌ لا بد من تحقق وجودها، فإذا تحققت الأركان والشروط وانتفت الموانع، كان البيع صحيحاً، وقد اتضح من البحوث المقدمة أن بيع الدَّين له صورٌ عديدة؛ منها ما هو جائز، ومنها ما هو ممنوع، ويجمع الصور الممنوعة وجود أحد نوعي الربا: ربا الفضل، وربا النّساء، في صورة مّا، مثل بيع الدَّين الربوي بجنسه، أو وجود الغرر الذي يفسد البيع، كما إذا ترتب على بيع الدَّين عدم القدرة على التسليم ونحوه، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ.

وهناك تطبيقات معاصرة في مجال الدُّيون تتعامل بها بعض المصارف والمؤسسات المالية، بعض منها لا يجوز التعامل به؛ لمخالفته للشروط والضوابط الشرعية الواجبة في البيوع. وبناءً على ذلك قرر المجمع ما يلي:أولاً: من صور بيع الدَّين الجائزة بيع الدَّين للمدين نفسه بثمن حَــالٍّ، لأن شرط التسليم متحقق؛ حيث إن ما في ذمته مقبوضٌ حكماً، فانتفى المانع من بيع الدَّين، الذي هو عدم القدرة على التسليم. ثانياً: من صور بيع الدَّين غير الجائزة:
أ- بيع الدَّين للمدين بثمنٍ مؤجلٍ أكثر من مقدار الدَّين؛ لأنه صورة من صور الربا، وهو ممنوع شرعاً، وهو ما يطلق عليه "جدولة الدَّين".
ب- بيع الدَّين لغير المدين بثمنٍ مؤجلٍ من جنسه، أو من غير جنسه؛ لأنها من صور بيع الكالئ بالكالئ (أي الدَّين بالدَّين) الممنوع شرعاً. ثالثاً: بعض التطبيقات المعاصرة في التصرف في الدُّيون:
أ- لا يــجوز حسم الأوراق التجارية (الشيكات، السندات الإذنية، الكمبيالات)، لما فيه مـن بيع الدَّين لغير المدين على وجه يشتمل على الربا.
ب- لا يجوز التعامل بالسندات الربوية إصداراً، أو تداولاً، أو بيعاً؛ لاشتمالها على الفوائد الربوية.
ج- لا يجوز توريق (تصكيك) الدُّيون بحيث تكون قابلة للتداول في سوق ثانويـة؛ لأنه في معنى حسم الأوراق التجارية المشار لحكمه في الفقرة (أ). رابعــاً: يرى المجمع أن البديل الشرعي لحسم الأوراق التجارية، وبيع السندات، هو بيعها بالعروض (السلع) شريطة تسلم البائع إياها عند العقد، ولو كان ثمن السلعة أقل من قيمة الورقة التجارية؛ لأنه لا مانع شرعاً من شراء الشخص سلعة بثمنٍ مؤجلٍ أكثرَ من ثمنها الحالي...".

ومنها قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بشأن بيع الدَّين: "بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع بيع الدَّين، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، واطلاعه على قرار المجمع بشأن موضوع: بيع الدَّين وسندات المقارضة، والذي نص على أنه "لا يجوز بيع الدَّين المؤجل من غير المدين بنقدٍ معجلٍ من جنسه أو من غير جنسه... الخ". وبعد الاطلاع أيضاً على قرار المجمع بشأن موضوع بطاقات الائتمان، والذي ذكر"أن على المؤسسات المالية الإسلامية تجنب شبهات الربا أو الذرائع التي تؤدي إليه كفسخ الدَّين بالدَّين". قرر ما يلي: أولاً: يُعدُّ من فسخ الدَّين بالدَّين الممنوع شرعاً كل ما يُفضي إلى زيادة الدَّين على المدين مقابل الزيادة في الأجل أو يكون ذريعةً إليه، ومن ذلك فسخ الدَّين بالدَّين عن طريق معاملة بين الدائن والمدين تنشأ بموجبها مديونيةٌ جديدةٌ على المدين من أجل سداد المديونية الأولى كلها أو بعضها، سواء أكان المدين موسراً أم معسراً، وذلك كشراء المدين سلعةً من الدائن بثمنٍ مؤجلٍ ثم بيعها بثمنٍ حالٍ من أجل سداد الدَّين الأول كله أو بعضه".

ومنها قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الثامنة عشرة 1427هـ وفق2006م "فقد نظر في موضوع (فسخ الدَّين في الدَّين): وبعد الإطلاع على قرار المجمع بشأن موضوع بيع الدَّين في دورته السادسة عشرة والذي جاء فيه ما نصه:
ثانياً: من صور بيع الدَّين غير الجائزة: أ- بيع الدَّين للمدين بثمنٍ مؤجلٍ أكثر من مقدار الدَّين، لأنه صورة من صور الربا، وهو ممنوعٌ شرعاً، وهو ما يطلق عليه (جدولة الدَّين) وبعد الاستماع إلى البحوث المقدمة، والمناقشات المستفيضة، والتأمل والنظر في الصور التي ذكرت في البحوث والمناقشات في موضوع: فسخ الدَّين في الدَّين. أو ما يسميه بعض أهل العلم (قلب الدَّين) قرر المجمع ما يأتي: يُعدُّ من فسخ الدَّين في الدَّين الممنوع شرعاً كل ما يفضي إلى زيادة الدَّين على المدين مقابل الزيادة في الأجل أو يكون ذريعة إليه ويدخل في الصور الآتية:
1- فسخ الدَّين في الدَّين عن طريقة معاملة بين الدائن والمدين تنشأ بموجبها مديونية جديدة على المدين من أجل سداد المديونية الأولى كلها أو بعضها، ومن أمثلتها: شراء المدين سلعةً من الدائن بثمن مؤجل ثم بيعها بثمن حال من أجل سداد الدَّين الأول كله أو بعضه. فلا يجوز ذلك ما دامت المديونية الجديدة من أجل وفاء المديونية الأولى بشرط أو عرف أو مواطأة أو إجراء منظم، وسواء في ذلك أكان المدين موسراً أو معسراً وسواء أكان الدَّين الأول حالاً أم مؤجلاً يراد تعجيل سداده من المديونية الجديدة، وسواء اتفق الدائن والمدين على ذلك في عقد المديونية الأول أم كان اتفاقاً بعد ذلك، وسواء أكان ذلك بطلبٍ من الدائن أم بطلبٍ من المدين، ويدخل في المنع ما لو كان إجراء تلك المعاملة بين المدين وطرفٍ آخر غير الدائن إذا كان بترتيب من الدائن نفسه أو ضمان منه للمدين من أجل وفاء مديونيته... إلخ. وبناءً عليه فلا يجوز الدخول في المعاملة المذكورة ما دام سداد الدَّين الأول شرطاً للتورق الثاني وسبباً فيه، وما علم الإنسانُ بحرمته من المعاملات أو غيرها حرم عليه الإقدام عليه ولا يفيده فتوى عالمٍ بجوازه بل ولا حكم قاضٍ، لأن حكم القاضي لا يحل الحرام فأحرى توقيع هيئة أو فتوى مفتٍ".

وورد في معيار المرابحة رقم 8 من معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ما يلي: "لا يجوز تأجيل موعد أداء الدَّين مقابل زيادة في مقداره -جدولة الدَّين- سواء كان المدين موسراً أم معسراً".

وكذلك صدر قرارٌ عن هيئة الرقابة الشرعية للبنك الإسلامي الفلسطيني جاء فيه: "لا مانع شرعاً من إعادة جدولة الدُّيون إلى فترة أطول مع بقاء المبلغ كما هو، لأن فيه تيسيراً على العملاء بشرط عدم الإجحاف بحقوق البنك".

وخلاصة الأمر أن جدولة الدُّيون بزيادة مدة سدادها مع زيادة مقدار الدَّين، محرمٌ شرعاً، لأنه نوعٌ من الربا، فالدَّين إذا استقر في الذمة تحرمُ الزيادةُ عليه بأي شكلٍ من الأشكال، والمصارف الإسلامية لا تتعامل بهذه المعاملة، بخلاف البنوك الربوية فهي تتعامل بها، وأما جدولة الدَّين مع ثبات مبلغ الدَّين وعدم الزيادة عليه، فجائز شرعاً وهو من باب التيسير على المدين وإنظاره كما قال تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:280].

الجمعة, 27 مايو 2011.

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.

  • 3
  • 0
  • 54,060

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً