أسباب محق الأموال ونزع البركة منها

منذ 2013-02-20
السؤال:

ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في حق المتبايعين "وإن كذبا وكتما مُحقت بركةُ بيعهما

الإجابة:

المحْقُ في لغة العرب هو النقص والاستئصال والمحو والإبطال، قال ابن منظور: [المحقُ النقصانُ وذهاب البركة وشيءٌ ماحق ذاهب...وقد امَّحق أي بطل، محقه يمحقه محقاً أي أبطله ومحاه قال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} أي يستأصل الله الربا فيذهب ريعه وبركته... قال الجوهري: محقه الله أي أذهب بركته... وفي حديث البيع: "الحَلِفُ مَنْفَقَةٌ للسلعة مَمْحَقٌةٌ للبركة" وفي حديث آخر: "فإنه ينفق ثم يمحق" المحق النقص والمحو والإبطال] لسان العرب.

ونصُّ الحديث الذي أشار إليه السائل هو: عن حكيم بن حزام رضي الله عنه ‏أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "البيِّعان بالخيار ما لم يفترقا أو قال حتى يفترقا، فإن صدقا وبينا، بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحقت بركةُ بيعهما"‏ (رواه البخاري ومسلم). وقد ترجم عليه الإمام البخاري بقوله: [باب ما يَمحقُ الكذبُ والكتمانُ فى البيع]. والبركة هي: النماء والزيادة، والتبريك: الدعاء للإنسان بالبركة. وبارك اللهُ الشيءَ وبارك فيه وعليه: وضع فيه البركة، وفي التنزيل: {وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} وتبركت به: تيمنت به. قال الراغب الأصفهاني: البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} {وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} تنبيهاً على ما يفيض به من الخيرات الإلهية.

وعلى هذا فالمعنى الاصطلاحي للتبرك هو:طلب ثبوت الخير الإلهي في الشيء] الموسوعة الفقهية الكويتية 10/69. ولا شك أن من أسباب محق البركة ونزعها من المال، الكذب والكتمان في البيع والشراء، كما في حديث حكيمٍ السابق.

قال الإمام العيني: [قوله مُحقت من المحق وهو النقصان وذهاب البركة، وقيل هو أن يذهب الشيء كله حتى لا يُرى منه أثرٌ، ومنه {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} أي يستأصله ويذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه، والمراد يمحق بركة البيع ما يقصده التاجر من الزيادة والنماء، فيُعامل بنقيض ما قصده، وعلق الشارع حصول البركة لهما بشرط الصدق والتبيين، والمحق إن وجد ضدهما وهو الكتم والكذب، وهل تحصل البركة لأحدهما إذا وجد منه المشروط دون الآخر؟ ظاهر الحديث يقتضيه، ولكن يحتمل أن يعود شؤم أحدهما على الآخر] عمدة القاري11/195.

ومن أسباب محق البركة ونزعها من المال أيضاً، الحَلِفُ في البيع والشراء حتى لو كان الحالف صادقاً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كثرة الحَلِفِ في البيع والشراء، ويُلحق به غيرهما من وجوه التعامل بين الناس، فقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اليمين الفاجرة مَنْفَقَةٌ للسلعة مَمْحَقٌةٌ للكسب" (رواه البخاري ومسلم). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحَلِفُ مَنْفَقَةٌ للسلعة مَمْحَقٌةٌ للبركة" (رواه البخاري ومسلم). وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إياكم وكثرة الحَلِفِ في البيع فإنه ينفق ثم يمحق" (رواه مسلم).

وروى ابن أبي شيبة في مصنفه بإسناده عن زاذان قال: كان علي رضي الله عنه يأتي السوق فَيُسلم ثم يقول: يا معشر التجار! إياكم وكثرة الحَلِفِ في البيع، فإنه ينفق السلعة ويمحق البركة) وروى عبد الرزاق في مصنفه عن سعيد بن المسيب مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الأيمان مَنْفَقَةٌ للسلع مَمْحَقٌةٌ للمال". قال الحافظ أبو العباس القرطبي المحدّث-وهو شيخ القرطبي المفسر-: [وقوله: "الحَلِفُ مَنْفَقَةٌ للسلعة مَمْحَقٌةٌ للربح" الرواية: مَنْفَقَةٌ مَمْحَقٌةٌ -بفتح الميم وسكون ما بعدها وفتح مابعدها- وهما في الأصل مصدران مزيدان محدودان بمعنى: النَّفاق والمحق، أي الحَلِفُ الفاجرة تنفق السلعة وتمحق بسببها البركة فهي ذات نفاقٍ وذات محقٍ. ومعنى تمحق البركة أي تُذهبها وقد تُذهب رأسَ المال كما قال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} وقد يتعدى المحق إلى الحالف فيعاقب بإهلاكه وبتوالي المصائب عليه، وقد يتعدى ذلك إلى خراب بيته وبلده كما روي:أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليمين الفاجرة تذر الديار بلاقع) أي:خالية من سكانها إذا توافقوا على التجرؤ على الأيمان الفاجرة. وأما محق الحسنات في الآخرة فلا بد منه لمن لم يتب، وسبب هذا كله أن اليمين الكاذبة يمينٌ غموسٌ يُؤكل بها مال المسلم بالباطل وقوله: "إياكم وكثرة الحَلِفِ فإنه ينفق ثم يمحق" إياكم معناه الزجر والتحذير...أي: إحذره واتقه، وإنما حذَّر من كثرة الحَلِفِ لأن الغالب ممن كثرت أيمانُه وقوعُه في الكذب والفجور، وإن سلم من ذلك على بُعده، لم يسلم من الحنث أو الندم، لأن اليمين حِنثٌ أو مندمةٌ، وإن سلم من ذلك لم يسلم من مدح السلعة المحلوف عليها والإفراط في تزيينها ليروجها على المشتري، مع ما في ذلك من ذكر الله تعالى لا على جهة التعظيم، بل على جهة مدح السلعة، فاليمين على ذلك تعظيمٌ للسلع لا تعظيمٌ لله تعالى، وهذه كلها أنواعٌ من المفاسد لا يُقدم عليها إلا من عقله ودينه فاسد] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم4/522-523.

ومن أسباب محق البركة ونزعها من المال أيضاً، التعاملُ بالربا، فإنه من كبائر الذنوب وأفحشها، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 275-279].

قال الإمام السرخسي: [وقد ذكر الله تعالى لآكل الربا خمساً من العقوبات: أحدها: التخبطُ، قال الله تعالى: {لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} والثاني:المحقُ، قال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا} والمراد: الهلاك والاستئصال، وقيل: ذهاب البركة والاستمتاع، حتى لا ينتفع هو به ولا ولده بعده. والثالث: الحربُ، قال الله تعالى: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} والرابع: الكفرُ، قال الله تعالى: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} وقال تعالى: {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} أي:كفَّارٌ باستحلال الربا أثيمٌ فاجرٌ بأكل الربا، والخامس:الخلود في النار، قال الله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} المبسوط 12/109-110. ولا شك أن عاقبة المرابين تؤول إلى المحق والخسارة، وهذا واقعٌ مشاهدٌ ومتكررٌ مع المرابين {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} وكيف لا يكون المحق والسحق والمرابي قد دخل في حربٍ مع الله عز وجل! ومن يطيق حرب الله جل جلاله! وعلى المسلم أن يتعظ ويعتبر بما حصل لكثيرٍ من المرابين، والسعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه، فبعد أن كانت أموالهم وافرةً كثيرةً، صاروا مفلسين خاسرين يضربون يداً بيد، وهكذا الربا يصنع بصاحبه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "ما أحدٌ أكثرَ من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قِلةٍ" (رواه ابن ماجة والحاكم وقال: صحيح الإسناد). وفي لفظ له قال: "الربا وإن كَثُرَ فإن عاقبته إلى قِلٍّ" وقال صحيح الإسناد، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع الصغير.

وقال القرطبي المفسر: [قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} يعنى في الدنيا أي يذهب بركته وإن كان كثيراً. روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قِلٍّ" وقيل: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} يعنى في الآخرة. وعن ابن عباس في قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} قال: لا يُقبل منه صدقةً ولا حجاً ولا جهاداً ولا صلةً. والمحق:النقص والذهاب، ومنه محاق القمر وهو انتقاصه] تفسير القرطبي3/362. وينبغي أن يُعلم أن الاقتصاديين من غير المسلمين لا يؤمنون إلا بالحسابات المادية لزيادة المال أو نقصه، ونحن المسلمين نعتقد أن البركة والمحق يكونان بحكمة الله عز وجل وتقديره، فلا شك أن أساس البركة الإيمان، وأن أساس المحق ونزع البركة العصيان، فالبركة في المال من الله عز وجل، وإذا نُزعت البركةُ ومحقت الأموالُ، فإن ذلك من الله عز وجل، يقول جل جلاله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} ويقول سبحانه وتعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} ويقول النبي صلى اللّه عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو قال حتى يفترقا، فإن صدقا وبينا، بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحقت بركةُ بيعهما‏" (رواه البخاري ومسلم).

وخلاصة الأمر أن البركة هي ثبوت الخير الإلهي في الشيء، وأن المحْقَ هو النقصُ والاستئصال والمحو والإبطال، وأن من أسباب محق البركة ونزعها من المال، الكذبُ والكتمانُ في البيع والشراء، وأن من أسباب محق البركة ونزعها من المال أيضاً، الحَلِفُ في البيع والشراء حتى لو كان الحالف صادقاً، وأن من أسباب محق البركة ونزعها من المال أيضاً، التعاملُ بالربا، فإنه من كبائر الذنوب وأفحشها، ونحن المسلمين نعتقد أن البركة والمحق يكونان بحكمة الله عز وجل وتقديره، فلا شك أن أساس البركة الإيمان، وأن أساس المحق ونزع البركة العصيان، فالبركة في المال من الله عز وجل، وإذا نُزعت البركةُ ومحقت الأموالُ، فإن ذلك من الله عز وجل.

الجمعة, 15 فبراير 2013.

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.

  • 16
  • 5
  • 107,496

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً