العقود بين الجواز واللزوم

منذ 2013-04-22
السؤال:

اشتريت قطعة أرضٍ وبعد مضي سنةٍ جاءني البائع يطالبني باسترجاع الأرض على أن يعيد لي ثمن الأرض، ويقول ما دمتُ أعيد لك المبلغ الذي دفعت فلا يحق لك الامتناع عن إعادة الأرض لي، فما قولكم في ذلك؟

الإجابة:

عقد البيع إذا تمَّ بشكل صحيحٍ وخالٍ من الخيارات، فهو عقدٌ لازمٌ باتفاق الفقهاء، وليس عقدًا جائزًا، وينبغي أن أبين أولًا معنى اللزوم والجواز في العقود الشرعية، فالعقد اللازم هو الذي لا يملك أحد العاقدين فسخه وإنهائه إلا برضا العاقد الآخر، والعقد الجائز هو العقد الذي يجوز لأحد العاقدين فسخه بغير رضا العاقد الآخر. انظر المدخل الفقهي 1/444.

وأبين ثانياً: أن العقود من حيث اللزوم والجواز تنقسم إلى عدة أقسام على خلافٍ بين الفقهاء وتفاصيل كثيرة في كل عقدٍ بشكل منفردٍ.

البيع والسلم والإجارة عقودٌ لازمةٌ، إذ إنها متى صحت لا يجوز فسخها بغير التقايل، ولو امتنع أحد العاقدين عن الوفاء بها أجبر .

وعقد النكاح لازم لا يقبل الفسخ بالتراضي أصلًا، دون غيره من سائر العقود اللازمة، لأنه وضع على الدوام والتأبيد، وإنما يفسخ لضرورة عظيمة، وفي قول: "يقبل الفسخ بالتراضي".

والوديعة والشركة والوكالة عقودٌ جائزةٌ، لكل من الطرفين فسخها ولو بغير رضا العاقد الآخر، ومثلها المساقاة والمضاربة والمسابقة والعارية والقرض والاستصناع.

وقد يكون العقد لازمًا من أحد الطرفين جائزًا بالنسبة للآخر، كالرهن فللمرتهن فسخه دون الراهن.

وقد يعرض للعقد اللازم ما يجعله جائزًا كالبيع إذا اشترط فيه خيارٌ، أو تبين في المبيع عيبٌ، فيكون لمن له الخيار الفسخ، كالإجارة إذا طرأ عذرٌ، كما لو استأجر مرضعًا لطفله فمات الطفل.

وقد يعرض للعقد الجائز ما يجعله لازمًا ومثال ذلك الوكالة، فهي في الأصل جائزة، فللوكيل أن يفسخها ويعزل نفسه عنها، كما أن للموكل أن يعزله، لكن إن تعلق حق الوكيل بما وكل فيه لم يكن للموكل أن يعزله، كما لو وكَّل المستقرضُ المقرضَ بقبض دينٍ له ليكون وفاءً للقرض، فلا يكون للمستقرض عزله، وكالرهن المشترط فيه توكيل المدين للمرتهن في بيع المرهون، فلا يكون للراهن عزله لما في عزله من إبطال حق المرتهن، وكالمضاربة إذا شرع العامل في العمل تلزم عند المالكية، ولا تلزم عند الحنفية والشافعية.

ومن أثبت خيار المجلس في عقد البيع مثلًا، وهم الشافعية والحنابلة، فإن العقد في مدة المجلس يكون جائزًا، فإن انفض المجلس دون أن يختار أحد العاقدين الفسخ، ابتدأ لزوم العقد من حينئذٍ. وقد يكون العقد مختَلَفًا في مدى لزومه أو جوازه كالهبة مثلًا، فمذهب مالك أنها تلزم بمجرد العقد، ومذهب الشافعي وأحمد أنها لا تلزم إلا بالقبض بإذن الواهب، وفي رواية عن أحمد أنها قبل القبض جائزة في المكيل والموزون لا غير، ومذهب أبي حنيفة أنها جائزة بعد القبض أيضًا، فللواهب الرجوع فيها، ما لم يكن مانعٌ، كأن يكون الواهب زوجًا أو ذا رحمٍ محرم للموهوب له، ولا يصح الرجوع إلا برضاهما أو قضاء قاضٍ.
وفي كثير من هذه العقود تفصيلات في مدى لزومها أو جوازها.
(الموسوعة الفقهية الكويتية35/238- 239).

وقد بين الشيخ ابن قدامة المقدسي أن العقود على ستة أضرب فقال:
أحدها: عقدٌ لازمٌ يقصد منه العوض وهو البيع، وما في معناه، هو نوعان:

أحدهما: يثبت فيه الخياران، خيار المجلس وخيار الشرط، وهو البيع فيما لا يشترط فيه القبض في المجلس، والصلح بمعنى البيع، والهبة بعوضٍ على إحدى الروايتين، والإجارة في الذمة، نحو أن يقول استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب ونحوه، فهذا يثبت فيه الخيار، لأن الخيار ورد في البيع وهذا في معناه، فأما الإجارة المعينة، فإن كانت مدتها من حين العقد دخلها خيار المجلس، دون خيار الشرط، لأن دخوله يفضي إلى فوت بعض المنافع المعقود عليها، أو إلى استيفائها في مدة الخيار وكلاهما لا يجوز، وهذا مذهب الشافعي، وذكر القاضي- أبو يعلى- مرةً مثل هذا، ومرةً قال: يثبت فيها الخياران، قياسًا على البيع.

وقد ذكرنا ما يقتضي الفرق بينهما، وأما الشفعة فلا خيار فيها، لأن المشتري يؤخذ منه المبيع قهرًا، والشفيع مستقلٌ بانتزاع المبيع من غير رضا صاحبه، فأشبه فسخ البيع بالرد بالعيب ونحوه، ويحتمل أن يثبت للشفيع خيار المجلس، لأنه قَبـِلَ المبيعَ بثمنه، فأشبه المشتري.

النوع الثاني: ما يشترط فيه القبض في المجلس، كالصرف والسلم وبيع مال الربا بجنسه، فلا يدخله خيار الشرط روايةً واحدةً، لأن موضوعها على أن لا يبقى بينهما عُلقةٌ بعد التفرق، بدليل اشتراط القبض، وثبوت الخيار يُبقي بينهما عُلقةً، ويثبت فيها خيار المجلس في الصحيح من المذهب، لعموم الخبر، ولأن موضوعه للنظر في الحظ في المعاوضة، وهو موجودٌ فيها، وعنه- أي عن الإمام أحمد - لا يثبت فيها الخيار إلحاقًا بخيار الشرط.

الضرب الثاني: لازمٌ لا يقصد به العِوَض، كالنكاح والخلع، فلا يثبت فهما خيارٌ، لأن الخيار إنما يثبت لمعرفة الحظِّ في كون العوض جائزًا لما يذهب من ماله، والعوض ههنا ليس هو المقصود، وكذلك الوقف والهبة، ولأن في ثبوت الخيار في النكاح ضررًا ذكرناه قبل هذا.

الضرب الثالث: لازمٌ من أحد طرفيه دون الآخر، كالرهن لازمٌ في حق الراهن، جائزٌ في حق المرتهن، فلا يثبت فيه خيارٌ، لأن المرتهن يستغني بالجواز في حقه عن ثبوت خيارٍ آخرَ، والراهن يستغني بثبوت الخيار له إلى أن يقبض، وكذلك الضامن والكفيل لا خيار لهما، لأنهما دخلا متطوعين راضيين بالغَبن، وكذلك المكاتب.

الضرب الرابع: عقدٌ جائز من الطرفين كالشركة والمضاربة والجعالة والوكالة والوديعة والوصية، فهذه لا يثبت فيها خيارٌ، استغناءً بجوازها، والتمكن من فسخها بأصل وضعها.

الضرب الخامس: وهو مترددٌ بين الجواز واللزوم كالمساقاة والمزارعة، والظاهر أنهما جائزان فلا يدخلهما خيار، وقد قيل هما لازمان، ففي ثبوت الخيار فيهما وجهان، والسبق والرمي، والظاهرُ أنها جَعالة، فلا يثبت فيهما خيارٌ، وقيل هما إجارة وقد مضى ذكرها.

الضرب السادس: لازمٌ يستقل به أحدُ المتعاقدين، كالحوالة والأخذ بالشفعة، فلا خيارَ فيهما، لأن من لا يُعتبر رضاه لا خيار له، وإذا لم يثبت في أحد لطرفيه لم يثبت في الآخر، كسائر العقود، ويحتمل أن يثبت الخيار للمحيل، والشفيع، لأنها معاوضة يقصد فيها العوض فأشبهت سائر البيع ( المغني 3/505-506).

إذا تقرر هذا فإن عقد بيع قطعة الأرضٍ المذكور في السؤال، هو عقد لازمٌ لا يملك البائع فسخه بدون موافقة المشتري، فمطالبة البائع باسترجاع الأرض وإعادة الثمن للمشتري، مطالبةٌ باطلةٌ شرعًا، والأصل في العقود عند الفقهاء بشكل عام اللزوم.

قال الشيخ مصطفى الزرقا: "اللزومُ فكرةٌ أساسيةٌ ضروريةٌ في العقود، ولولاها لفقد العقد أهم مزاياه في بناء الأعمال والحياة الاكتسابية" (المدخل الفقهي 1/ 444).

وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: "لا خلاف في أن البيع يلزم بعد التفرق ما لم يكن سبب يقتضي جوازه".

وقد دلَّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ يَتَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ" (صحيح البخاري) وقوله: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" (صحيح البخاري) جعل التفرق غاية للخيار، وما بعد الغاية يجب أن يكون مخالفًا لما قبلها، إلا أن يجد بالسلعة عيبًا فيردها به، أو يكون قد شرط الخيار لنفسه مدةً معلومة فيملك الرد أيضاً. (المغني 3/494).

والأدلة على أن عقد البيع عقدٌ لازمٌ كثيرةٌ، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، فالله تعالى أمر بالوفاء بالعقود، وعقد البيع لا يتحقق الوفاء به إلا بتحصيل مقصوده، وهو ثبوت الملك ولزومه.

ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29]، فالله عز وجلَّ علّق إباحة أكل الأموال في التجارات بالتراضي، فدلّ ذلك على أنه إذا وجد التراضي لزم العقد، لأنه رتَّب على العقد مقتضاه، وهو التصرف في المعقود عليه، والتصرف فرع اللزوم، والأصل ترتب المسببات على أسبابها.

ومنها قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282]، فالله سبحانه تعالى أمر بالإشهاد، لتوثيق العقد، ولو لم يكن لازمًا لما احتاج إلى توثيق، إذ إن عدم اللزوم يسقط معنى التوثيق.

ومنها عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا" (رواه البخاري ومسلم)، ففي هذا الحديث جعل النبي صلى الله عليه وسلم الخيارَ للمتبايعين قبل التفرق، فإذا تفرقا بطل الخيار ولزم البيع، فدلَّ ذلك على أن عقد البيع عقد لازم.

ومنها ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه قال:" ذُكر رجلٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع، فقال: "من بايعت فقل لا خلابة"" (رواه البخاري ومسلم ).

قال الإمام الشوكاني: " قوله (لا خِلابة) بكسر المعجمة وتخفيف اللام: أي لا خديعة، قال العلماء: لقَّـنه النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول ليتلفظ به عند البيع، فيطلع به صاحبه على أنه ليس من ذوي البصائر في معرفة السلع ومقادير القيمة، ويرى له ما يرى لنفسه، والمراد أنه إذا ظهر غبنٌ ردَّ الثمن واسترد المبيع" (نيل الأوطار 5/207).

والشاهد في الحديث أن البيع لو لم يكن لازمًا لما وجهه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اشتراط ذلك، فعُلِم بهذا أن عقد البيع عقد لازم، وقد حكى غيرُ واحدٍ من أهل العلم كابن قدامة المقدسي وابن رشد الحفيد أنه لا خلاف بين العلماء في أن عقد البيع عقد لازم. (انظر المغني 3/483، بداية المجتهد 2/170، وانظر الحوافز التجارية التسويقية ص 245-247).

وخلاصة الأمر أن عقدَ البيع عقدٌ لازمٌ، بمعنى أنه لا يملك أحد المتعاقدين فسخه إلا برضا المتعاقد الآخر، فإذا انعقد البيع صحيحًا خاليًا من الخيارات، صار لازمًا، وعليه فلا يجوز لأحد المتعاقدين إبطاله إلا إذا وافق الطرف الآخر على ذلك.

تاريخ الفتوى: الجمعة 29-أبريل-2011.

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.

  • 9
  • 2
  • 91,430

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً