حكم إعطاء إجازة مرضية كاذبة

منذ 2013-04-22
السؤال:

ما حكم الموظف الذي يغيب عن عمله بدون عذرٍ، ثم يقدم تقريرًا طبيًا يدَّعي فيه أنه كان مريضًا، وما حكم الطبيب الذي يعطيه التقرير الطبي الكاذب؟

الإجابة:

يعتبر التمارض من الظواهر السلبية الموجودة في المجتمع، وخاصة بين الموظفين والطلبة، والإجابة على السؤال لها عدة جوانب:

أولًا: الأصل في المسلم بشكل عامٍ، والموظف بشكل خاصٍ، أن يكون أمينًا، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، وهذه الآية عامةٌ تشمل كل الأمانات، كما نقل القرطبي ذلك عن جماعة من الصحابة كالبراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبيّ بن كعب رضي الله عنهم قالوا: "الأمانة في كل شيءٍ، في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع" (تفسير القرطبي 5/256).

وقال ابن كثيرٍ في تفسير الآية الكريمة: "يخبرُ تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها"، وفي حديث الحسن عن سمرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك " (رواه الإمام أحمد وأهل السنن حديثٌ صحيحٌ)، وهذا يعمُّ جميعَ الأمانات الواجبة على الإنسان، من حقوق الله عز وجل، على عباده، من الصلوات والزكوات، والكفارات والنذور والصيام، وغير ذلك، مما هو مؤتمنٌ عليه لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض، كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به بعضهم على بعضٍ، فأمر الله عز وجل بأدائها، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا، أُخذ منه ذلك يوم القيامة، كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتؤدنَّ الحقوقَ إلى أهلها، حتى يُقتصَ للشاة الجماء من القرناء" (تفسير ابن كثير2/338).

وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]، فنهى الله سبحانه وتعالى عن خيانة الله سبحانه وتعالى، وخيانة الرسول صلى الله عليه وسلم، وخيانة بعضهم لبعض، وخيانة الأمانة من صفات المنافقين كما صحَّ في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" (رواه البخاري ومسلم)، وفي رواية صحيحة: "وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم".

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربعٌ من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلةٌ منهن، كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدَعَها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" (رواه البخاري ومسلم)، وقد اعتبر العلماء خيانة الأمانة من كبائر الذنوب، انظر (الزواجر 1/617).

وقد وردت أحاديث كثيرة في الترهيب من خيانة الأمانة منها:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال في الخطبة: "لا إيمانَ لمن لا أمانةَ له، ولا دينَ لمن لا عهدَ له" (رواه ابن حبان والبيهقي والبغوي، ثم قال: هذا حديث حسن، شرح السنة 1/75).

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اضمنوا لي ستًا أضمن لكم الجنة، اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدُّوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم" (رواه أحمد والبيهقي والحاكم وابن حبان وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 3/454).

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا يغرنَّك صلاةُ امرئٍ ولا صيامُه، من شاء صلى، ومن شاء صام، ولكن لا دين لمن لا أمانة له" (شرح السنة 1/75)، وبناءً على هذه النصوص فالموظف المتمارض خائن للأمانة.

ثانياً: والأصل أيضًا في المسلم بشكلٍ عامٍ والموظف بشكلٍ خاصٍ أن يكون صادقًا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجلُ يصدق حتى يُكتبَ عند الله صِدِّيقًا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجلُ يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذَّابًا" (رواه البخاري ومسلم)، وعن أبي الحوراء السعدي قال قلت للحسن بن علي رضي الله عنهما ما حفظتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "حفظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة" (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح). والكذب ليس من صفات المؤمنين الصادقين يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105]، وبناءً على هذه النصوص فالموظف المتمارض كاذب.

ثالثًا: إن إعطاءَ الطبيب تقريرًا طبيًا كاذبًا غير مطابق لحالة الموظف، يعتبر خيانةً للأمانة ويعتبر غشًا وخداعًا وكذبًا وتزويرًا، والتزوير يدخل تحت شهادة الزور، قال القرطبي المحدث: "شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفسٍ أو أخذ مالٍ أو تحليل حرامٍ أو تحريم حلال، فلا شيء من الكبائر أعظمُ ضرراً منها، ولا أكثرُ فسادًا بعد الشرك بالله" (فتح الباري10/506)، فهذا التقرير الكاذب يعتبر شهادة زور، وهي من كبائر الذنوب، كما بين ذلك وفصلَّه الشيخ ابن حجر المكي في الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/435-437). ويدل على ذلك قوله تعالى: {اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:0 3]، وقوله تعالى في وصف عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72].

وورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال: "الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وشهادة الزور" (رواه البخاري ومسلم). وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا، الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور أو قول الزور، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا يا ليته سكت" (رواه البخاري ومسلم).

وهذا التقرير الكاذب غشٌ صريحٌ، فقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من غشنا فليس مني" (رواه البخاري ومسلم)، وفي رواية أخرى عند مسلمٍ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا".

كما أن هذا التقرير فيه خيانةٌ وتكذيبٌ وحنثٌ بالقسم الطبي، الذي أقسمه الطبيب عند حصوله على الشهادة، فالطبيب الذي يعطي تقريرًا طبيًا كاذبًا، غاشٌ ومزورٌ وكاذبٌ ومخادعٌ.

رابعًا: ما يأخذه الموظفُ المتمارضُ بتقريرٍ طبيٍ كاذبٍ من راتبٍ مقابل هذه الإجازة، هو كسبٌ غيرُ مشروع، وكذلك ما أخذه الطبيب من المتمارض مقابل إعطائه تقريرًا طبيًا كاذبًا أيضًا يعتبر من باب الكسب غير المشروع، فمالهما- المتمارض والطبيب- مالٌ حرامٌ، والكسبُ الحرامُ نوعٌ من أكل السحت، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42].

قال أهل التفسير في قوله تعالى {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}أي الحرام، وسمي المال الحرام سحتاً، لأنه يسحت الطاعات، أي يذهبها ويستأصلها.انظر (تفسير القرطبي 6/183).

وقال الله تعالى: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المائدة:62]، وقال الله تعالى: {لوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } (المائدة:63]، وقال جماعة من أهل التفسير: "ويدخل في السحت كلُ ما لا يحل كسبه" (فتح المالك 8/223).

وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة لحمٌ نبت من سحتٍ، وكلُ لحم نبت من سحتٍ كانت النارُ أولى به" (رواه أحمد والدارمي والبيهقي في شعب الإيمان)، وفي رواية أخرى: "كل جسدٍ نبت من سحتٍ فالنار أولى به" (رواه أحمد والطبراني والحاكم، وقال العلامة الألباني صحيح، انظر صحيح الجامع الصغير 2/831).

وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا كعب بن عجرة إنه لا يربو لحم نبت من سحتٍ إلا كانت النارُ أولى به" (رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/189).

وعن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة جسدٌ غُذِيَ بحرام" (رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/320).
فمال المتمارض في أثناء إجازته غير الشرعية مالٌ حرام، وكذلك ما كسبه الطبيب المزور مالٌ حرام أيضًا.

خامساً: التمارض مخالف لموجب العقد بين الموظف والجهة المشغلة، ومعلوم أن الوفاء بالعقد واجبٌ شرعيٌ، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة1]. كما أن التمارض مخالفٌ لقانون الخدمة المدنية الفلسطيني، فقد ورد في المـادة 85: (يعتبر تمارض الموظف الذي يثبت بقرار من اللجنة الطبية المختصة إخلالًا بواجبات الوظيفة).

وخلاصة الأمر أن التمارض للتغيب عن العمل محرمٌ شرعًا، لاشتماله على عدة مفاسد، كخيانة الأمانة والكذب ونقض العهد والإخلال بالعقد، كما أن إعطاءَ الطبيب تقريرًا طبيًا كاذبًا، يعتبر غشًا وخداعًا وكذبًا وتزويرًا وحنثًا بالقسم، ويضاف إلى ذلك أن ما يتقاضاه الموظفُ المتمارضُ بتقريرٍ طبيٍ كاذبٍ، وكذلك ما أخذه الطبيب من الموظف المتمارض مقابل إعطائه تقريرًا طبيًا كاذبًا يعتبر أيضًا من باب الكسب غير المشروع، فمالهما- المتمارض والطبيب- مالٌ حرامٌ، والكسبُ الحرامُ نوعٌ من أكل السحت.

تاريخ الفتوى: الجمعة 04- مارس -2011.

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.

  • 6
  • 1
  • 39,161

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً