دفع المال للدفاع عن النفس والعرض والمال ليس رشوة

منذ 2013-04-26
السؤال:

إذا لم أستطع الوصول إلى حقي إلا بدفع مبلغٍ من المال، فهل يعتبر هذا من الرشوة المحرمة؟

الإجابة:

لا شك أن الرشوة من كبائر الذنوب، حيث ورد في الحديث الصحيح "لعْنُ الراشي والمرتشي"، واللعنُ من علامات الكبائر، فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم "لعنَ الراشي والمرتشي" (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/261).

وجاء في رواية أخرى عن ثوبان رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم "لعن الراشي والمرتشي والرائش"- الذي يمشي بينهما- رواها الإمام أحمد والحاكم والطبراني، ولكن هذه الرواية فيها خلاف بين أهل الحديث فمنهم من حسنها ومنهم من ضعفها، (انظر السلسلة الضعيفة للعلامة الألباني حديث رقم 1235)، وتعتبر الرشوة من السحت، كما قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42]، وقال الله تعالى: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المائدة:62]، وقال تعالى: {لوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63].

قال أهل التفسير في قوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} أي الحرام وسمي المال الحرام سحتاً، لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها، (انظر تفسير القرطبي 6/183). قال الحافظ ابن عبد البر:"وفيه دليلٌ على أن كل ما أخذه الحاكم والشاهد على الحكم بالحق أو الشهادة بالحق سحت، وكلُ رشوة سحت، وكل سحت حرام، ولا يحل لمسلمٍ أكله، وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء المسلمين"، وقال جماعة من أهل التفسير في قول الله عز وجل: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } قالوا: "السحت الرشوة في الحكم، وفي السحت كل ما لا يحل كسبه" (فتح المالك 8/223).

ويدخل في الرشوة المحرمة الهدايا التي تقدم للموظفين والمسئولين، روى الإمام البخاري بسنده عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: "استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا مالكم وهذا أهدي إليَّ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول: هذا لك وهذا لي؟ فهلَّا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرًا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر".

إذا تقرر هذا فلا بد أن أبين أن الرشوة هي ما يعطى لإبطال حقٍ أو لإحقاق باطلٍ، كما قاله الجرجاني في التعريفات، وهو أحسن ما عرفت به الرشوة، وأما ما يُعطى توصلًا إلى أخذ حقٍ أو دفع ظلمٍ فغير داخل فيها، فلا يعتبر رشوة، قال المباركفوري: "فالراشي من يعطي الذي يعينه على الباطل، والمرتشي الآخذ، والرائش الذي يسعى بينهما يستزيد لهذا أو يستنقص لهذا".

فأما ما يُعطى توصلًا إلى أخذ حقٍ أو دفع ظلمٍ فغير داخلٍ فيه، روي أن ابن مسعود أُخِذَ بأرض الحبشة في شيءٍ فأعطى دينارين حتى خُلي سبيله.

وروي عن جماعة من أئمة التابعين قالوا: "لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم"، وفي المرقاة شرح المشكاة قيل: "الرشوة ما يعطى لإبطال حقٍ أو لإحقاق باطلٍ، أما إذا أعطى ليتوصل به إلى حقٍ أو ليدفع به عن نفسه ظلمًا فلا بأس به، وكذا الآخذ إذا أخذ ليسعى في إصابة صاحب الحق فلا بأس به، لكن هذا ينبغي أن يكون في غير القضاة والولاة، لأن السعي في إصابة الحق إلى مستحقه ودفع الظلم عن المظلوم واجبٌ عليهم فلا يجوز لهم الأخذ عليه" (تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي 3/457).

وقال الإمام القرطبي: "وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له: الرشوة حرامٌ في كل شيء؟ فقال: لا، إنما يكره من الرشوة أن ترشي لتعطي ما ليس لك، أو تدفع حقًا قد لزمك، فأما أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك فليس بحرام".

قال أبو الليث السمرقندي الفقيه: "وبهذا نأخذ، لا بأس بأن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة". وهذا كما روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان بالحبشة فرشى دينارين وقال: "إنما الإثم على القابض دون الدافع" (تفسير القرطبي 6/183). وقال الإمام النووي: "وأما باذل الرشوة، فإن بذلها ليحكم له بغير الحق أو بترك الحكم بحق حرم عليه البذل، وإن كان ليصل إلى حقه فلا يحرم كفداء الأسير" (روضة الطالبين 4/131).

وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: "فأما الراشي فإن رشاه ليحكم له بباطل أو يدفع عنه حقًا، فهو ملعونٌ، وإن رشاه ليدفع ظلمه ويجزيه على واجبه، فقد قال عطاء وجابر بن زيد والحسن: "لا بأس أن يصانع عن نفسه"، قال جابر بن زيد: "ما رأينا في زمن زياد– أي ابن أبيه الوالي الأموي الظالم - أنفع لنا من الرشا، ولأنه يستنقذ ماله كما يستنقذ الرجل أسيره" (المغني 11/437).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ويجوز للمهدي أن يبذل في ذلك ما يتوصل به إلى أخذ حقه أو دفع الظلم عنه، هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الكبار" (مجموع الفتاوى31/187)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا: "فأما إذا أهدى له هديةً ليكف ظلمه عنه أو ليعطيه حقه الواجب، كانت هذه الهدية حرامًا على الآخذ, وجاز للدافع أن يدفعها إليه, كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لأعطي أحدهم العطية"، الحديث (الفتاوى الكبرى4/174). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا: "قال العلماء: يجوز رشوة العامل لدفع الظلم لا لمنع الحق، وإرشاؤه حرام فيهما، وكذلك الأسير والعبد المعتق إذا أنكر سيده عتقه له أن يفتدي نفسه بمال يبذله يجوز له بذله وإن لم يجز للمستولي عليه بغير حق أخذه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: قالوا: يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: "يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل" (رواه أحمد والحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين).

ومن ذلك قوله: "ما وقى به المرءُ عرضَّه فهو صدقة" (رواه الدارقطني والحاكم وقال: حديث صحيح الإسناد)، فلو أعطى الرجلُ شاعرًا أو غير شاعر، لئلا يكذب عليه بهجوٍ أو غيره، أو لئلا يقول في عرضه ما يحرم عليه قوله، كان بذله لذلك جائزًا، وكان ما أخذه ذلك لئلا يظلمه حرامًا عليه، لأنه يجب عليه ترك ظلمه، فكل من أخذ المال لئلا يكذب على الناس أو لئلا يظلمهم كان ذلك خبيثًا سحتًا، لأن الظلم والكذب حرام عليه، فعليه أن يتركه بلا عوض يأخذه من المظلوم فإذا لم يتركه إلا بالعوض كان سحتًا (مجموع الفتاوى 29/252).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا: "قال العلماء: إن من أهدى هديةً لولي أمرٍ ليفعل معه ما لا يجوز، كان حرامًا على المهدي والمهدَى إليه، وهذه من الرشوة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي والمرتشي" (رواه أبو داود، والترمذي) ، فأما إذا أهدى له هدية ليكف ظلمه عنه أو ليعطيه حقه الواجب كانت هذه الهدية حرامًا على الآخذ وجاز للدافع أن يدفعها إليه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لأعطي أحدهم العطية"...ومثل ذلك إعطاء من كان ظالمًا للناس، فإعطاءه جائزٌ للمعطي، حرامٌ عليه أخذه، وأما الهدية في الشفاعة مثل أن يشفع لرجلٍ عند ولي أمر ليرفع عنه مظلمة أو يوصل إليه حقه أو يوليه ولايةً يستحقها أو يستخدمه في الجند المقاتلة -وهو مستحق لذلك-، أو يعطيه من المال الموقوف على الفقراء أو الفقهاء أو القراء أو النساك أو غيرهم- وهو من أهل الاستحقاق-، ونحو هذه الشفاعة التي فيها إعانةٌ على فعل واجبٍ أو ترك محرمٍ، فهذه أيضًا لا يجوز فيها قبول الهدية ويجوز للمهدي أن يبذل في ذلك ما يتوصل به إلى أخذ حقه أو دفع الظلم عنه، هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر" (مجموع الفتاوى31/278 بتصرف).

وقال الشيخ تقي الدين السبكي: "والمراد بالرشوة التي ذكرناها ما يعطى لدفع حقٍ أو لتحصيل باطلٍ، وإن أعطيت للتوصل إلى الحكم بحق فالتحريم على من يأخذها, وأما من يعطيها فإن لم يقدر على الوصول إلى حقه إلا بذلك جاز، وإن قدر إلى الوصول إليه بدونه لم يجز" (فتاوى السبكي1/204).

وقال الإمام الصنعاني: "الرشوة إن كانت ليحكم له الحاكم بغير حق فهي حرام على الآخذ والمعطي، وإن كانت ليحكم له بالحق على غريمه، فهي حرام على الحاكم دون المعطى، لأنها لاستيفاء حقه، فهي كجُعْل الآبق وأجرة الوكالة على الخصومة" (سبل السلام 6/417).

ويضاف إلى ما سبق أن العلماء الذين صنفوا في القواعد الفقهية لما ذكروا قاعدة (ما حَرُمَ أخذُهُ حَرُمَ إعطاؤُهُ) كالسيوطي وابن نجيم في الأشباه والنظائر والزركشي في المنثور وغيرهم استثنوا منها دفع المال للحاكم ليصل إلى حقه, وفك الأسير، وإعطاء شيء لمن يخاف هجوه، ونحو ذلك. (انظر شرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقا 1/214).

وخلاصة الأمر أنه يجوز دفع المال للوصول إلى الحق أو لدفع الظلم، ولا يعتبر ذلك من الرشوة المحرمة بشرط ألا يكون هناك وسيلة لأخذ الحق أو لدفع الظلم إلا بهذه الطريقة.

تاريخ الفتوى: الجمعة 24- ديسمبر- 2010.

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.

  • 3
  • 0
  • 27,491

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً