ضابط الإعسار في الديون وفضل إنظار المعسر
حسام الدين عفانه
- التصنيفات: فقه المعاملات -
أقرضت شخصًا مبلغًا من المال واتفقنا على أجلٍ لقضاء الدين، ولما حلَّ الأجل لم يستطع سداد الديون، وله قطعة أرض فهل يجوز أن أطالبه ببيعها ليسدد ديوني؟
لا بد أن يعلم أن قضاء الديون من الواجبات، والعزم على سداد الديون مطلوب شرعًا بمجرد أن يستدين الإنسان، فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها، أتلفه الله" (رواه البخاري).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من أحدٍ يدَّان دينًا يعلم اللهُ منه أنه يريد قضاءه إلا أدَّاه اللهُ عنه في الدنيا" (رواه النسائي وابن ماجة وابن حبان، وهو حديث صحيح، كما قال العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/52).
وعن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل يدين دينًا وهو مجمع على أن لا يوفيه إياه لقي الله سارقًا" (رواه ابن ماجة والبيهقي، وقال العلامة الألباني: حسن صحيح. المصدر السابق 2/52).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وعليه دينار أو درهم قُضي من حـسناته ليـس ثَمَّ ديـنارٌ ولا درهـم" (رواه ابـن مـاجة وصححه العلامة الألباني في المصدر السابق 2/53).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه" (رواه أحمد والترمذي، وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 2/168).
وتحرم المماطلة على الغني القادر على سداد دينه، وقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مطلُ الغني ظلمٌ" (رواه البخاري ومسلم).
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر، والغني مختلف في تعريفه، ولكن المراد به هنا من قدر على الأداء فأخرَّه ولو كان فقيرًا (فتح الباري 5/371).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني أيضاً:"وفي الحديث الزجر عن المطل، واختلف هل يُعَدُّ فعله عمدًا كبيرة أم لا؟ فالجمهور على أن فاعله يفسَّق" (فتح الباري 5/372).
وقال الإمام النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم "مطل الغني ظلم" قال القاضي وغيره: "المطل منع قضاء ما استحق أداؤه فمطلُ الغني ظلمٌ وحرامٌ" (شرح النووي على صحيح مسلم 4/174-175).
إذا تقرر هذا فأبين أن من لم يستطع قضاء دينه يعتبرًا معسرًا، والإعسار ضد اليسار، وهو في الاصطلاح: (عدم القدرة على النّفقة، أو عدم القدرة على أداء ما عليه بمالٍ ولا كسبٍ) (انظر الموسوعة الفقهية 5/246)، والمعسر يستحق الإنظار كما قال الله تعالى: {وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ} [ البقرة:280]، وهذه الآية عامة في كل معسر كما هو قول جمهور العلماء، قال القرطبي: "وقال جماعة من أهل العلم قوله تعالى: {فنظرة إلى ميسرة} عامةٌ في جميع الناس، فكل من أعسر أُنْظر، وهذا قول أبى هريرة، والحسن وعامة الفقهاء.
قال النحاس: "وأحسن ما قيل في هذه الآية قول عطاء والضحاك والربيع بن خيثم، قال: هي لكل معسر يُنظر في الربا والدَّين كله، فهذا قول يجمع الأقوال، لأنه يجوز أن تكون ناسخة عامة نزلت في الربا ثم صار حكم غيره كحكمه،
وقال ابن عباس وشريح: "ذلك في الربا خاصة، فأما الديون وسائر المعاملات فليس فيها نظرة، بل يؤدى إلى أهلها أو يحبس فيه حتى يوفيه، وهو قول إبراهيم"، واحتجوا بقول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} الآية، قال ابن عطية: "فكان هذا القول يترتب إذا لم يكن فقر مدقع، وأما مع العدم والفقر الصريح، فالحكم هو النَّظِرَة ضرورة" (تفسير القرطبي 3/371-372).
وضابط الإعسار عند الفقهاء هو ألا يجد المدين وفاءً لديونه من أموال نقدية أو عينية كالعقارات والأراضي ونحوها، وقد حدد مجمع الفقه الإسلامي ضابط الإعسار في قراره المتعلق ببيع التقسيط حيث ورد في القرار: "ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار: ألا يكون للمدين مالٌ زائدٌ عن حوائجه الأصلية يفي بدينه نقدًا أو عينًا"، فالمعسر الذي عنده أموال عينية كالأراضي أو العقارات وهي زائدة عن حوائجه الأصلية، يلزمه بيعها لقضاء ديونه، ولا يلزمه أن يبيع بيته الذي يسكن فيه، أو أرضه الزراعية التي يعتاش منها، أو سيارته التجارية التي يشتغل عليها. وينبغي أن يعلم أن إنظار المعسر واجب شرعًا عند الأئمة الأربعة ما دام معسرًا حقيقةً، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:280]، قال ابن كثير في تفسير الآية الكريمة: " يأمر الله تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء، فقال: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } أي لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حلَّ عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي، ثم يندب إلى الوضع عنه، ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل، فقال: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين"، (تفسير ابن كثير 1/653).
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل إنظار المعسر وثوابه عند الله تعالى في أحاديث كثيرة منها: عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه طلب غريمًا له فتوارى عنه ثم وجده، فقال: إني معسر، قال: آلله، قال: آلله، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه" (رواه مسلم).
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلقت الملائكةُ روحَ رجلٍ ممن كان قبلكم، فقالوا: عملتَ من الخير شيئًا؟ قال: لا، قالوا: تذكَّر، قال: كنت أداين الناس فآمر فتياني أن ينظروا المعسر، ويتجوزوا عن الموسر، قال الله: تجاوزوا عنه" (رواه البخاري ومسلم)،
وفي رواية لمسلم وابن ماجة عن حذيفة أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن رجلًا مات فدخل الجنة، فقيل له: ما كنت تعمل؟ قال: فإما ذَكرَ وإما ذُكِّرَ، فقال: كنت أبايع الناسَ، فكنت أُنظر المعسرَ، وأتجوز في السَّكة، أو في النقد فغفر له" (التجوز والتجاوز معناهما المسامحة في الاقتضاء والاستيفاء وقبول ما فيه نقصٌ يسير) كما قال النووي في شرح صحيح مسلم 5/409.
وفي رواية للبخاري ومسلم عنه أيضًا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن رجلاً ممن كان قبلكم أتاه الملك ليقبض روحه، فقال هل عملت من خير؟ قال: ما أعلم، قيل له: انظر، قال: ما أعلم شيئًا غير أني كنت أبايع الناس في الدنيا، فأُنظر الموسر، وأتجاوز عن المعسر، فأدخله الله الجنة".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان رجلٌ يداين الناس، وكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسرًا فتجاوز عنه، لعل الله عز وجل يتجاوز عنا، فلقي الله فتجاوز عنه" (رواه البخاري ومسلم)، وفي رواية للنسائي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن رجلًا لم يعمل خيرًا قط، وكان يداين الناس، فيقول لرسوله: خذ ما تيسر، واترك ما عسر وتجاوز، لعل الله يتجاوز عنا، فلما هلك قال الله له: هل عملت خيرًا قط؟ قال: لا، إلا أنه كان لي غلام، وكنت أداين الناسَ، فإذا بعثته يتقاضى قلت له: خذ ما تيسر، واترك ما عَسُرَ، وتجاوز، لعل الله يتجاوز عنا، قال الله تعالى: قد تجاوزت عنك"، وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حُوسب رجل ممن كان قبلكم، فلم يوجد له من الخير شيءٌ، إلا أنه كان يخالط الناس، وكان موسرًا، وكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، قال الله تعالى: نحن أحق بذلك، تجاوزوا عنه" (رواه مسلم).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أنظر معسرًا أو وضع له، أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه، يوم لا ظل إلا ظله" (رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 1/542). وعن أبي اليسر رضي الله عنه قال: "أبصرت عيناي هاتان - ووضع أصبعيه على عينيه - وسمعت أذناي هاتان - ووضع أصبعيه في أذنيه - ووعاه قلبي هذا - وأشار إلى نياط قلبه- رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أنظر معسرًا أو وضع له أظله الله في ظله" (رواه ابن ماجة والحاكم، وصححه العلامة الألباني في صحيح الترغيب 1/543).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نفَّس عن مسلم كُربةً من كُرب الدنيا، نفس الله عنه كُربةً من كُرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر في الدنيا، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلمٍ في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" (رواه مسلم).
وخلاصة الأمر أن قضاء الديون من الواجبات، وتحرم المماطلة في قضاء الديون من المدين الموسر، وأما المعسر حقيقة فيجب إنظاره إلى ميسرة كما أمر رب العالمين بذلك، ووردت أحاديث كثيرة في فضل من أنظر معسرًا وتجاوز عنه.
تاريخ الفتوى: الجمعة 26- نوفمبر- 2010.