شبهة وحوار حول ما يزعم أنه مجاراة للقرآن الكريم
منصِّر يقول: أليست هذه السورة تحاكي القرآن وتبطل الحجة؟ يقول المنصِّر عليه لعنة الله: أليست هذه السورة والمسماة بسورة الولاية من جنس القرآن وتحاكيه وتبطل الحجة القائلة {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} فما الذي حدث لما أتينا بهذه السورة دون حاجة لاجتماع الجن والإنس! وماذا حدث لو أتينا بسورتي الحفد والخلع وهما يحاكيان القرآن أيضاً! وأقصر سور القرآن هي الكوثر وهي ثلاث آيات، ألا يستطيع أحدٌ أن يأتي بثلاث جمل متناسقة ومسجوعة لتحاكي لفظ القرآن وتبطل الحجة (قل فأتوا بسورة من مثله)؟! بل ويمكننا أن نأتي باثنين وثلاثة وأربعة وحسبكم كتاب الفرقان الحق وبه عشرات من مثل هذه السور. كيف يمكن الرد على هذا الزنديق؟ وهل يجب علينا أن نتعلم علوم اللغة العربية حتى نستطيع الرد عليه؟ وكيف يتسنى لنا الطعن في النصوص التي يأتون بها مسجوعة حتى يبطلوا حجة القرآن ككتاب (الفرقان الحق) لمؤلفه النصراني الحاقد؟
هذه مِن الْمُضْحِكات!
أولاً: لقد أعجَز الله أقحاح العرب وتَحدَّاهم وأهل الفصاحة أن يأتوا بِسُورة مِن مثل هذا القرآن. فكان كل من حاول الإتيان بِقول مسجوع جاء بْالْمُضْحِكات؛ فقبل ألف وأربعمائة سنة حاول مُسيلِمة أن يأتي بكلام مسجوع، فجاء بِما أضحَك الناس على مرّ الأزمان! ليس في زَمن أهل اللغة والفصاحة، بل حتى في الأزمنة المتأخِّرة. اقرأ القرآن على أي إنسان يُحسِن اللغة العربية، مُتعلِّما كان أو غير مُتعلِّم، واقْرَأ عليه من سَجْع مُسيلِمة! بل كذَّب مُسيلمة كلّ مَن سَمِعه! حتى قال له عمرو بن العاص: إنك لَتعلَم أني أعْلَم أنك كاذب! إن قائل ذلك القول الذي يُريد مُحاكاة القرآن بِكلام مسجوع، كَمَن يُريد مُجارة خَلْق الإنسان، فينظر في أصل خَلْق الإنسان، وأنه خُلِق مِن طين، ثم يأتي بِإناء مصنوع مِن فخَّار ويَزعم أنه يُحاكي خَلْق الإنسان! وأين هذا مِن ذاك؟ أين خَلْق الإنسان بِسمع وبصر وجوارِح وحواسّ، وعقل وبصيرة، من إناء فخَّار جامد؟!
ثانيا: إن الله عزّ وَجَلّ لَمَّا أعْجَز العرب تَحدّاهم أن يأتوا بسورة مثله بهذين القيدين: 1- سورة، 2- مثله. مِثل القرآن في فصاحته وبلاغته ونَظْمِه وإعجازِه، وما تضمنته نصوص القرآن، مما سيأتي الكلام عنه وبيانه. ولم يَكن يُعجِز فصحاء العرب أن يسجعوا كسجع الكُهَّان! بل كان فيهم قبل النبوة فُصحاء وبلغاء وشُعراء، وكان فيهم خُطباء نَطَقُوا بالْحِكْمة، مثل: قسّ بن ساعدة، وغيره. ولم يَكن قول أولئك يشتبه بِما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن القرآن، ولم يُعارِضُوه بمثل قول أولئك، مع كونهم أرباب الفصاحة وأهل اللغة. لأن التحدّي كان بسورة مِن مثل القرآن، ولم يكن التحدّي بكلام مسجوع.
ثالثا: لو أخذنا أقصر سورة من سُور القرآن، وهي سورة الكوثر، لَوجدنا أنها تضمّنت ما اتَّفَقَت عليه الشرائع السماوية، وهي مقاصد القرآن الثلاثة كما يقول الشوكاني: إثبات التوحيد، وإثبات المعاد، وإثبات النبوّات. فضمير التعظيم {إنَّا} إثبات للتوحيد، وإثْبَات العَطاء، وأن الله هو المعطي، إثبات للتوحيد أيضا. {أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} إخبار عن غيب، وهو مُتضمّن لإثبات الْمَعاد. {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} إثبات صِدق النبي صلى الله عليه وسلم الْمُسْتَلْزِم إثْبَات نُبوّته. فكان ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحقّ والصِّدق، إذ كان مُبْغِضه وشأنه هو الأبتر المقطوع الذي انقطع ذِكْره. مع ما في هذه السورة القصيرة مِن أمْر بالعبادة {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}. وكان القرآن يتَنَزّل في مكّة، وكان يتضمّن أخبارا عن كُفّار قريش، ولم يَكن بِمقدورهم تكذيبه، ولا إثبات ضدّ ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. خذ على سبيل المثال: سورة الْمَسَد، وما فيها مِن إخبار عن أبي لهب وأنه هو وزوجته في النار؛ لم يكن بِمقدور أبي لهب إثبات ضدّ ذلك، ولا ادِّعاء الإيمان والإسلام! ومثل ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} ولم يستطع مَن عُني بها إثبات خِلاف ذلك!
رابعا: لَمَّا تَحدّى الله أقحاح العرب وأرباب الفصاحة أن يأتوا بسورة مِن مثل القرآن، عجِزوا عن ذلك لِعلمهم ما تضَمّنه القرآن مِن فصاحة وبيان. وقد امتاز الأسلوب القرآني بِخصائص ليست لِغيره، فمن ذلك:
1- مَسْحَة القرآن اللفظية فإنها مسحة خلابة عجيبة، تتجلى في نظامه الصوتي وجماله اللغوي.
2- إرضاؤه العامة والخاصة. ومعنى هذا أن القرآن الكريم إذا قرأته على العامة أو قُرئ عليهم أحّسُّوا جلاله، وذَاقوا حلاوته، وفَهِمُوا منه على قَدر استعدادهم ما يُرضي عقولهم وعواطفهم، وكذلك الخاصة إذا قرؤوه أو قُرئ عليهم أحّسُّوا جلاله، وذاقوا حلاوته، وفهموا منه أكثر مما يفهم العامة، ورأوا أنهم بين يدي كلام ليس كمثله كلام لا في إشراق ديباجته ولا في امتلائه وثروته.
3- إرضاؤه العقل والعاطفة. ومعنى هذا أن أسلوب القرآن يُخاطب العقل والقلب معا، ويجمع الحق والجمال معا.
4- جَودة سَبك القرآن وإحكام سَرْدِه. ومعنى هذا أن القرآن بلغ مِن ترابط أجزائه، وتماسك كلماته وجُمَلِه وآياته وسُوره مبلغا لا يُداينه فيه أيّ كلام آخر، مع طول نفسه، وتنوع مقاصده وافتنانه وتلوينه في الموضوع الواحد.
5- براعته في تصريف القول وثروته في أفانين الكلام.
6- جمع القرآن بين الإجمال والبيان، مع أنهما غايتان متقابلتان لا يجتمعان في كلام.
7- قَصْد القرآن في اللفظ مع وَفائه بالمعنى.
هذه ذَكَرها الزرقاني رحمه الله في كتابه النافع (مناهل العرفان). ويُزاد عليها: تضمّن القرآن للأخبار المستقبلية، سواء منها ما كان في زمن نُزوله على النبي صلى الله عليه وسلم، أو كان بعد ذلك. فمن ذلك: الْحديث عن حرب فارس والروم، وإخباره بِانتصار الروم في بضع سنين، كما في فواتح سورة الروم. والإخبار عن نُصرة الرسول صلى الله عليه وسلم ونُصرة المؤمنين. وكذلك الإخبار عن أخبار الأمم الماضية، وذِكْر الأنبياء، وما جَرى لهم مما لم يكن معلوما لِقريش، ولذلك يأتي التذكير بهذا عقب سياق القصص. قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} وما تضمّنه مِن الأخبار المستقبلية مما يُعلَم خبره بعد حين. ولا يَزال العِلْم التجريبي يقف موقف المؤيِّد لَمّا جاء في القرآن مِن أخبار وحقائق، لا يُنكرها إلاَّ جاهل أو مُعانِد ومكابر! وما تضمّنه القرآن مِن إعجاز وبيان وفصاحة وبلاغة، في أفصح عبارة وأرقى أسلوب، مما أعْجَز العرب عن أن يأتوا بسورة مِن مثله. وقد ذَكَر السيوطي ثلاثة وثلاثين وجها مِن وُجوه إعجاز القرآن، وذلك في كِتابه (مُعتَرك الأقْران في إعجاز القرآن)، وذَكَر الشنقيطي في مقدمة تفسيره (أضواء البيان) اثنين وعشرين نَوعا مِن أنواع البيان التي تضمّنها القرآن. وألَّف السيوطي رسالة صغيرة في تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا} اسْتَخْرَج منها (120) نوعا مِن أنواع البديع، ونيّفا وعشرين مسألة مِن عُلوم شتّى. كل ذلك مِن خلال تدبّر وتأمّل آية واحدة.
خامسا: ما يتعلّق بسورة (الولاية) المزعومة! فإن دلائل سقوطها وبُطلانها كثيرة مِن وُجوه عديدة:
الوجه الأول: ما تضمنته مِن دعوة إلى الإيمان بالنبي. فإن آيات الكتاب العزيز لَم تأتِ على هذا الـنَّسَق، فلم يأت في القرآن دعوة إلى الإيمان بالنبي هكذا، بل تكون الدعوة مقرونة بالإيمان بالله، مع استخدام وصف الرسول دون وصف النبي. وذلك لأن كل رسول نبي، ولا عكس. ومن جهة ثانية فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدعو لنفسه، وإنما كان رسولا مُرْسَلا مِن قِبَل رب العالمين، فكانت الدعوة إلى الإيمان بِالْمُرْسِل قبل الإيمان بالرِّسُول.
الوجه الثاني: ما تضمّنته تلك السورة المزعومة مِن دعوة إلى الإيمان بـ(الوليّ)، وهذا ليس مِن طريقة القرآن، ولا مِن أسلوبه! فليس في القرآن حرف واحد يدعو إلى الإيمان بالوليّ!
الوجه الثالث: زَعْم مُخْتَلقها أن الله أرسل (الوليّ)! فإما أن يكون رسولا مع الرسول، كما كان من شأن هارون وموسى عليهما الصلاة والسلام، وإما أن لا يَكون رسولا. فإن لم يكن رسولا فما فائدة إرسال وليّ؟! ثم لا ينطبق عليه وصف الرِّسَالة؟
الوجه الرابع: إذا كان عليّ رضي الله عنه ولـيًّا، فهل اقتصرت الولاية عليه؟ فإن قيل: نَعم، فقد نَقَض القرآن هذه الدعوى في قول الله عزّ وَجَلّ: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}. فضمير الْجَمْع (أولياء) يردّ تلك الدعوى. وإن قيل: لا، لم ينفرد بالولاية، فقد ناقضوا أنفسهم، واطَّرَحوا قولهم بأنفسهم! فما فائدة الإيمان بِوليّ واحد، وغيره كثير؟!
الوجه الخامس: ركاكة أسلوب السورة المزعومة! تأمل القول الْمُخْتَلَق (فالذين إذا تليت عليهم آياتنا كانوا بآياتنا مكذبين، إن لهم في جهنم مقام عظيم)! وقولهم: (نودي لهم يوم القيامة أين الضالون المكذبون للمرسلين)! هذا قول تَمُجّه الأذواق! فضلا عن افتقارِه لأبسط أساليب الـنَّظْم القرآني، مما سبقت الإشارة إليه.
الوجه السادس: براءة تلك الفرقة الضالة التي اختَلقَتْ تلك السورة لِمَا فيها مِن عَيب لَهم على مرّ الأزمان، أن اخْتَلقُوا تلك الركاكة! فالرافضة تتبرأ مِن تلك السورة، وإن وُجِدَت في كُتُبهم! وقُل مثل ذلك عن سورة (النورين) التي يَزعم الرافضة أنها من القرآن! وفيها (قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون. سنجعل الأغلال في أعناقهم وهم على أعمالهم يندمون)! لا تَجِد فيها أي فصاحة أو بلاغة، وليس فيها ما يُشير إلى أنها من القرآن، ولا أن مُختَلِقها عربي فصيح! وليس فيها ما ينتظِم مع نَظْم القرآن، ولا ما يقرب مِن أسلوبه، ولا ما يتماشى مع فصاحته وإعجازه.
أخيرا: وَقَف أحد القساوسة أمام القرآن موقف المعانِد الذي يُريد أن يستخرج منه ما يُثبِت به تناقض القرآن، أو عدم حفظه، ففتح المصحف وقرأ: {الم . ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} فوقف موقف الْمُتعَجِّب..! كيف يُفتتح ذلك الكتاب بالتحدّي، بأنه كِتاب لا رَيب فيه ولا شكّ، وعادة الْمُؤلِّفِين تقديم الاعتذار عما تتضمنه كُتُبهم مِن نقص وخلل! وكم باءت مُحاولات مُجاراة القرآن بالفشل الذريع! قال الزرقاني: "ويَروي التاريخ أن أبا العلاء المعري وأبا الطيب المتنبي وابن المقفع حَدَثتهم نفوسهم مرّة أن يُعارضوا القرآن، فما كادوا يبدؤون هذه المحاولة حتى انتهوا منها بتكسير أقلامهم، وتمزيق صُحفهم؛ لأنهم لَمَسُوا بأنفسهم وعورة الطريق واستحالة المحاولة! وتُحَدّثنا الأيام القريبة أن زعماء البهائية والقاديانية وَضَعُوا كُتُبًا يزعمون أنهم يعارضون بها القرآن، ثم خافوا وخجلوا أن يُظهروها للناس، فأخْفَوها". اهـ. وقد تكفّل الله بِحفظ كِتابه، فَصَانه عن كل مُحاولة للتحريف، وحفظه من عبث العابثين، وتحريفات الجاهلين حتى أصبح من يزعم مُجاراة القرآن أضحوكة في كل زمان ومكان! وأنّى وهيهات أن يَكون كلام المخلوق مثل كلام الْخالِق؟ أو أن يَكون الفخّار الجامد الهامد كالإنسان السّويّ العاقل؟ ما لكم كيف تحكمون؟ والله المستعان على ما يصِفون.
- التصنيف:
- المصدر: