إتلاف أموال الناس عمداً أو خطأً موجبٌ للضمان
حسام الدين عفانه
- التصنيفات: فقه المعاملات -
بينما سائق شاحنة يرجع بها إلى الخلف إذ هدم سور بيتي، فطالبته بالتعويض المالي، فقال إن ذلك حصل منه خطأً ولا يلزمه التعويض، فما الحكم في ذلك؟
الأصل المقرر في شرعنا حرمةُ مال المسلم، وقد قامت الأدلة الكثيرة على ذلك، منها قوله تعالى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً . وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [النساء:29-30].
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه" (رواه مسلم)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا" (رواه البخاري ومسلم).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم": لا يحل مال امرئٍ مسلمٍ إلا بطيب نفس" (رواه الحاكم وابن حبان وصححاه، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 7662).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرئٍ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس" (رواه البيهقي بإسنادٍ صحيح،وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل حديث رقم 1761).
وجاء في رواية أخرى عن أبي حميدٍ الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل للرجل أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسه وذلك لشدة ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال المسلم على المسلم" (رواه أحمد وغيره وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في غاية المرام ص 263).
وورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يأخذ أحدٌ منكم شيئاً بغير حق إلا لقي الله تعالى يحملُه يوم القيامة" (رواه البخاري ومسلم).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع مال امرئٍ مسلمٍ بغير حق لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان" (رواه أحمد وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "حرمة مال المسلم كحرمة دمه" (رواه البزار وأبو يعلى، وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع رقم 3140). وغير ذلك من النصوص.
ومن المقرر شرعاً أن كل من أتلف مالاً لمسلمٍ فهو ضامن، ولا اعتبار لكون الإتلاف حصل خطأً أو عمداً، وهذا أمرٌ متفقٌ عليه بين جماهير الفقهاء، قال الإمام الشافعي: ولم أعلم بين المسلمين اختلافاً أن ما كان ممنوعاً أن يُتلف من نفسِ إنسانٍ أو طائرٍ أو دابةٍ أو غير ذلك مما يجوز ملكه، فأصابه إنسانٌ عمداً فكان على من أصابه فيه ثمنٌ يؤدى لصاحبه، وكذلك فيما أصاب من ذلك خطأً لا فرق بين ذلك إلا المأثم في العمد (الأم 2/200).
وقال الحافظ ابن عبد البر: الأمر المجتمع عليه عندنا في ذلك أن الأموال تُضمن بالعمد والخطأ (الاستذكار7/279).
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: ما ضُمن في العمد ضُمن في الخطأ (المغني 9/211). وقال الشيخ ابن حزم الظاهري: أموالُ الناس تُضمن بالعمد والنسيان (المحلى 6/91).
وقال الشيخ ابن القيم: فالخطأ والعمد اشتركا في الإتلاف الذي هو علةٌ للضمان وإن افترقا في علة الإثم، وربط الضمان بالإتلاف من باب ربط الأحكام بأسبابها وهو مقتضى العدل الذي لا تتم المصلحة إلا به، كما أوجب على القاتل خطأً دية القتيل ولذلك لا يعتمد التكليف، فيضمن الصبي والمجنون والنائم ما أتلفوه من الأموال، وهذا من الشرائع العامة التي لا تتم مصالح الأمة إلا بها، فلو لم يضمنوا جنايات أيديهم لأتلف بعضهم أموال بعض وادَّعى الخطأ وعدم القصد (إعلام الموقعين2/171).
ونصت على ذلك المادة رقم (92)من مجلة الأحكام العدلية: المباشرُ ضامنٌ وان لم يتعمد.
وقال شارح المجلة علي حيدر: المباشرُ ضامنٌ وإن لم يتعمد، أي إنه سواء تعمد المباشر إتلاف مال الغير أو لم يتعمد يكون ضامناً. والفرق بينه وبين المتسبب هو أنه يشترط لضمان المتسبب أن يكون متعدياً والمباشر يضمن على حالين كما أسلفنا، والسبب في ذلك أن المباشرة هي علةٌ مستقلةٌ وسببٌ للتلف قائمٌ بذاته، فلا يجوز إسقاط حكمها بداعي عدم التعمد. وبما أن السبب ليس بالعلة المستقلة لزم أن يقترن العمل فيه بصفة الاعتداء ليكون موجباً للضمان. فعليه لو أتلف أحدٌ مال غيره الذي في يده أو في يد أمينه قصداً أو من غير قصدٍ فيكون بمقتضى المادة (912) ضامناً. كذا يضمن من يتلف مالاً لآخر بسقوطه عليه وذلك بمقتضى المادة (913)، مثال: لو دخل شخصٌ حانوت بقالٍ فزلقت رجلُه فسقط على زقِ عسلٍ فشقَّه يضمن. كذلك لو تطايرت شرارةٌ من دكان حدادٍ وهو يطرق الحديد فحرقت لباس إنسانٍ لزمه ضمانها. كذا لو تطايرت قطعةُ حطبٍ والحطاب يكسر الحطب فكسرت زجاج نافذة دار الجار يكون الحطاب ضامناً. كذا لو استأجر شخصٌ إنساناً لأن يهدم له حائطاً فوقع من الحائط حجرٌ فأصاب شخصاً فتجب الدية على العامل. كذلك لو أطلق شخصٌ عياراً نارياً فأتلف مالاً لآخر فيلزمه الضمان؛ لأنه لما كان مباشراً لا يشترط التعدي للزوم الضمان (درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1/172).
وقال شارح المجلة علي حيدر أيضاً: الإتلاف مباشرة يوجب الضمان على كل حال. ولا يشترط فيه وجود التعدي والتعمد. أما الإتلاف تسبباً فهو موجب للضمان إذا كان تعدياً أو تعمداً وإلا فلا... (درر الحكام شرح مجلة الأحكام6/451).
وورد في قرار مجمع الفقه الإسلامي المتعلق بحوادث السيارات: الأصل أن المباشرَ ضامنٌ ولو لم يكن متعدياً، وأما المتسبب فلا يضمن إلا إذا كان متعدياً أو مفرّطاً.
والمقصود بالمباشر فيما سبق هو أن يحصل التلف بفعله من غير أن يتخلل بين فعله والتلف فعلُ مختارٍ. وعلى ذلك فالمباشرة تعني: ترتب الضرر عن الفعل دون واسطة بينهما، وسواء كان ذلك على وجه التعمد أو الغفلة. (انظر شرح الأشباه للحموي2/490، وأساس نظرية المسؤولية عن فعل الشيء في الفقه الاسلامي والقانون الأردني).
ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:40].
إذا تقرر هذا فإن إتلاف مال المسلم على سبيل الخطأ كما في السؤال موجب للضمان، وكون الإتلاف وقع خطأً لا يعفي المباشر لهدم السور من الضمان، لأن المباشرة علةٌ مستقلةٌ وسببٌ للتلف قائمٌ بذاته، فلا يجوز إسقاط حكمها بداعي عدم التعمد كما سبق في كلام شارح المجلة.
وينبغي التنبيه على أمرين:
(1) إن ضمان المتلفات من باب الحكم الوضعي وليس من باب الحكم التكليفي، لذا يتعلق الضمانُ بأفعال غير المكلفين كالصبي والمجنون والنائم والناسي، فالحكم الوضعي ربطَ فيه الشارعُ الحكيم بين أمرين إما على سبيل السبب أو الشرط أو المانع، قال الحطاب المالكي: وقال في المسائل الملقوطة: العمد والخطأ والإكراه في أموال الناس سواء يجب ضمانها، وهو من خطاب الوضع ولا يشترط فيه التكليف والعلم، فلا فرق في الإتلاف بين الصغير والكبير والجاهل والعامد (مواهب الجليل 14/317).
لذا من المقرر عند الفقهاء أن الصبي والمجنون والنائم والناسي لو أتلفوا مالاً لزم الضمان.
(2) الخطأ من عوارض الأهلية وهو في اصطلاح الأصوليين عبارة عن أن يفعل المرء فعلاً من غير أن يقصده قصداً تاماً. ويصلح الخطأُ عذراً في سقوط حقوق الله تعالى بخلاف حقوق العباد فلا تسقط بالخطأ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رُفعَ عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (رواه الطبراني والدارقطني والحاكم بألفاظ مختلفة وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي وغيرهم). فالمقصود في الحديث رفع الإثم وأما الضمان فغير مرفوع.
قال البزدوي الحنفي: الخطأ:هذا النوع، نوعٌ جُعلَ عذراً صالحاً لسقوط حق الله تعالى إذا حصل عن اجتهاد وشبهة في العقوبة، حتى قيل إن الخاطئ لا يأثم ولا يؤاخذ بحد ولا قصاص; لأنه جزاء كامل من أجزئة الأفعال فلا يجب على المعذور. ولم يُجعلْ عذراً في حقوق العباد، حتى وجب ضمان العدوان على الخاطئ; لأنه ضمان مال (أصول البزدوي).
وقال شارحه عبد العزيز البخاري: ولم يجعل الخطأُ عذراً في سقوط حقوق العباد، حتى لو أتلف مال إنسان خطأً بأن رمى إلى شاةٍ أو بقرةٍ على ظن أنها صيد، وأكل مال إنسان على ظن أنه ملكه يجب الضمان; لأنه ضمان مالٍ جزاءَ فعلٍ فيعتمد عصمة المحل, وكونه خاطئاً معذورٌ لا ينافي عصمة المحل (كشف الأسرار 4/535).
وخلاصة الأمر أن حرمةَ مال المسلم أصلٌ مقررٌ في شرعنا، ولا يجوز لأحدٍ أن يتلف مال المسلم عمداً، وإذا وقع الإتلاف عمداً أو خطأً فالضمان في مال المتلف، وأموال الناس تُضمن بالعمد والخطأ والنسيان، سواء أكان المتلف صغيراً أو كبيراً عاقلاً أو مجنوناً، والضمان في هذه الحالات من باب خطاب الوضع، ولا يشترط فيه التكليف والعلم، فلا فرق في الإتلاف بين الصغير والكبير والجاهل والعامد.
تاريخ الفتوى: 80-06-2012.