التساهل في الطلاق بين الأزواج المطلقين وبعض المشايخ المفتين
يقول السائل: طلَّقتُ زوجتي بسبب خلافٍ على خروجها من المنزل ،وقلت لها أنت طالق، فسألت إمام المسجد فقال لي: ادفع ثلاثمائة شيكل للمسجد، ولا شيء عليك، فهل فتوى الشيخ صحيحة، أفيدونا؟
أولاً: العلاقةُ الزوجية علاقةٌ عظيمةٌ ووثيقةٌ، والله سبحانه سمَّى العهد بين الزوج وزوجته بالميثاق الغليظ، فقال تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [سورة النساء الآية21] ،وثبت في الحديث عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه مسلم). والأصل في عقد الزواج الدوام والتأبيد، ولكن قد يحدث ما يوجب تفرق الزوجين، فأباح الإسلام الطلاق إذا انسدت طرق الإصلاح بينهما، وتعذر استمرار الحياة الزوجية، فيكون الطلاق هو آخر العلاج للمشكلات الزوجية وليس أولها.
ثانياً: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأصل في الطلاق الإباحة، وقال فريقٌ آخر من الفقهاء الأصل في الطلاق الحظر، وهو الراجح، قال السرخسي: [إيقاع الطلاق مباحٌ وإنْ كان مبغضاً في الأصل عند عامَّة العلماء،ومن الناس مَن يقول:لا يُباح إيقاع الطلاق إلا عند الضرورة] المبسوط6/2. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إنَّ الأصل في الطَّلاق الحظر، وإنما أُبيحَ منه قدر الحاجة] مجموع الفتاوى32/293. وقال أيضاً: [ولولا أنَّ الحاجة داعيةٌ إلى الطلاق لكان الدليلُ يقتَضِي تحريمه كما دلَّت عليه الآثار والأصول، ولكنَّ الله تعالى أباحَه رحمةً منه بعِباده لحاجتهم إليه أحياناً] مجموع الفتاوى3/74. ومما يؤيد أن الأصل في الطلاق الحظر والمنع، ما ورد في الحديث عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة1/349).
ثالثاً:لا شك أن آثار الطلاق سيئةٌ على الأسرة والمجتمع، وأكثر المتضررين من الطلاق هم الزوجة والأطفال، ونظراً لخطورة الطلاق على الأسرة وعلى الأطفال وعلى المجتمع، فقد جعل الإسلامُ الطلاقَ على مراحل، حتى لا يكون معولاً لهدم الحياة الزوجية، فقال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [سورة البقرة الآية 229]، فالطلاق الموافق للسنة هو أن يوقع المطلق على زوجته طلقةً واحدةً رجعيةً في طهرٍ لم يطأها فيه، ثم يتركها حتى تنتهي عدتُها. روى الإمام البخاري بإسناده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما « » فإذا طلقها في طهرٍ جامعها فيه، أو وهي حائض أو نفساء،فهذا الطلاق البدعي المحرم شرعاً، ويقع على الصحيح من قولي العلماء، وهو المعمول في المحاكم الشرعية في بلادنا، والقول بأن الطلاق البدعي لا يقع، قولٌ ضعيفٌ مخالفٌ لما قرره جماهير علماء الأمة.
رابعاً: يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [سورة الطلاق الآية1].قال الشيخ ابن عاشور في تفسير قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} تحذيرٌ من التساهل في أحكام الطلاق والعدة.ذلك أن أهل الجاهلية لم يكونوا يقيمون للنساء وزناً،وكان قرابة المطلقات قلما يدافعن عنهن فتناسى الناس تلك الحقوق وغمصوها، فلذلك كانت هذه الآيات شديدة اللهجة في التحدِّي، وعبر عن تلك الحقوق بالتقوى وبحدود الله، ولزيادة الحرص على التقوى أتبع اسم الجلالة بوصف {رَبَّكُمْ} للتذكير بأنه حقيقٌ بأن يُتقى غضبُهُ] تفسير التحرير والتنوير1/4452.
خامساً: التساهل في الطلاق واقعٌ من كثيرٍ من الأزواج، فيطلقون زوجاتهم لأتفه الأسباب، كالخلافات البسيطة على الطعام أو الشراب أو الخروج من البيت ونحوها من الأسباب التافهة، فيخربون بيوتهم بأيديهم بانفعالاتٍ وقتيةٍ، ومن ثمَّ يندمون على ما فعلوا، ويصير الواحد منهم يتنقل من شيخٍ إلى آخر ليحصل على فتوى تعيدُ له زوجته،وكأن ورقة المفتي أو الشيخ هي التي تسمح له باستمرار زواجه، ولا يدرك هؤلاء الإثم الذي وقعوا فيه، فمن طلق زوجته بدعياً فهو آثمٌ لوقوعه في الحرام، وكذلك فإنهم يتحملون تبعات الطلاق المالية والاجتماعية كتفكك الأسرة وتشريد الأطفال. ومن أوضح الأمثلة على تساهل بعض الأزواج في الطلاق تلاعبهم بألفاظ الطلاق وادعاؤهم أنهم لا يقصدون الطلاق، ومن المعلوم أن جماهير أهل العلم قد اتفقوا على وقوع الطلاق عند صدور لفظ الطلاق عن الزوج، وإن لم يكن قاصداً للطلاق، كأن يكون هازلاً، وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل6/228). ومن أمثلة التساهل في الطلاق الحلفُ بالطلاق، فإن هذه الصيغة ليست طلاقاً عند جماعة من الفقهاء واعتبروها من لغو الكلام، ومن الفقهاء من اعتبرها يميناً، فإذا وقع الحنث فيه تلزم كفارةُ يمينٍ، وقد اعتبر قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية أن الحلف بالطلاق لا يقع به طلاقٌ، إذا كان يُقصد به الحملُ على فعل شيءٍ أو تركه، وأما جمهور الفقهاء بما فيهم الأئمة الأربعة في المعتمد عندهم، فقالوا إن الحلف بالطلاق يُعتبر طلاقاً. وعلى كل حالٍ فإن صور التساهل في الطلاق من الأزواج كثيرة، سواء كانت في العدد أو في الأحوال وغيرها، ومعلوم أن الطلاق مبغوضٌ كما روي في الحديث « » (رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي).
سادساً:من أخطر التساهل في الطلاق تساهل بعض المشايخ والمفتين، فنسمع العجب العجاب من الفتاوى العرجاء، مثلما ذُكر في السؤال حيث أفتى إمام المسجد بدفع ثلاثمائة شيكل للمسجد!! ولا أدري ما علاقة دفع مبلغٍ من المال بقول الزوج لزوجته أنت طالق؟ ومن تساهل بعض المشايخ والمفتين، أنهم يفتون بأن كل طلاقٍ في حال الانفعال والغضب لا يقع، وهذه فتوى باطلة، لأن [الغضبان له ثلاثة أحوال: الحال الأولى: حالٌ يتغيب معها الشعور، فهذا يلحق بالمجانين، ولا يقع الطلاق عند جميع أهل العلم. الحال الثانية: وهي إن اشتد به الغضب، ولكن لم يفقد شعوره، بل عنده شيءٌ من الإحساس، وشيءٌ من العقل، ولكن اشتد به الغضبُ حتى ألجأه إلى الطلاق، وهذا النوع لا يقع به الطلاق أيضاً على الصحيح، والحال الثالثة: أن يكون غضبه عادياً ليس بالشديد جداً، بل عادياً كسائر الغضب الذي يقع من الناس، فهو ليس بملجئٍ، وهذا النوع يقع معه الطلاق عند الجميع] www.islam-qa.com ومن تساهل بعض المشايخ والمفتين في فتاوى الطلاق، إفتاؤهم بالأقوال الشاذة، فهذا طريقٌ باطلٌ، فليس كلُّ قولِ قاله عالمٌ صحيح، وليس كل ما قاله فقيهٌ مُسلَّمٌ وصحيحٌ، إلا قولاً له حظٌ من الأثر أو النظر، فلا يصح الأخذُ بشواذ الأقوال. قال الإمام مالك: [كلٌ يُؤخَذُ من كلامه ويُترك، إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم].
سابعاً: تترتب آثارٌ سيئةٌ على تساهل بعض المشايخ والمفتين في فتاوى الطلاق، فمثلاً قد يفتي بعضهم برجوع المطلقة طلاقاً بائناً بينونةً كبرى إلى زوجها بحججٍ واهيةٍ، فهذه الفتوى الباطلة تجعل الزوجين يعيشان حياة محرمة شرعاً. وقد ينجبان حال تلك الحال المحرمة!! ومثلها فتوى بعضهم لمن طلق زوجته قبل الدخول بأن يُرجعَ زوجته ولا شيء عليه! ولا يعلم هذا المفتي المسكين أن كلَّ طلاقِ يقع قبل الدخول يكون بائناً، ويلزم عقدٌ جديدٌ بمهرٍ جديدٍ وولي وشاهدين. هذا غيضٌ من فيضٍ من أمثلة تساهل بعض المشايخ والمفتين في فتاوى الطلاق.
ثامناً: ينبغي أن أبين أن التساهل في الفتوى أمرٌ جِدُّ خطيرٍ، وقد نص العلماء على أن التساهل في الفتوى من المحرمات، قـال الإمـام النووي: [يحرمُ التساهل في الفتوى، ومن عُرف به حَرُمَ استفتاؤه، فمن التساهل أن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر] المجموع1/46. وقال العلامة ابن القيم: [من أفتى الناس، وليس بأهلٍ للفتوى، فهو آثمٌ عاصٍ، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك؛ فهو آثمٌ أيضاً. قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب، وليس له علمٌ بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب، وهو يَطبُّ الناس، بل هو أسوأُ حالاً من هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة، ولم يتفقه في الدين. وكان شيخنا -ابن تيمية- رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء أَجُعلت محتسباً على الفتوى، فقلت له يكون على الخبازين والطباخين محتسبٌ، ولا يكون على الفتوى محتسب] إعلام الموقعين 4/217.
وخلاصة الأمر أن العلاقةَ الزوجية، علاقةٌ عظيمةٌ ووثيقةٌ، والله سبحانه سمَّى العهد بين الزوج وزوجته بالميثاق الغليظ، وأباح الإسلام الطلاقَ إذا انسدت طرقُ الإصلاح بين الزوجين، والأصلُ في الطلاق الحظرُ على الراجح. ونظراً لخطورة الطلاق على الأسرة وعلى الأطفال وعلى المجتمع، فقد جعل الإسلامُ الطلاقَ على مراحل. وفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} تحذيرٌ من التساهل في أحكام الطلاق. وأن التساهل في الطلاق واقعٌ من كثيرٍ من الأزواج، فيطلقون زوجاتهم لأتفه الأسباب، وأن من أخطر التساهل في الطلاق تساهلُ بعض المشايخ والمفتين، فنسمع العجب العجاب من الفتاوى العرجاء، كإفتائهم بالأقوال الشاذة. وأنه يترتب آثارٌ سيئة على التساهل في فتاوى الطلاق. وأن التساهل في الفتوى من المحرمات. وأخيراً فينبغي أن تكون فتاوى الطلاق موافقة لما هو المعمول به في المحاكم الشرعية في بلادنا، منعاً لإرباك الناس. والله الهادي إلى سواء السبيل.
حسام الدين عفانه
دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.
- التصنيف:
- المصدر: