استعمال مصطلح العقيدة

منذ 2014-03-30
السؤال:

ما قولكم فيمن يقول إنه لا يجوز شرعاً استعمال كلمة عقيدة، لأنها لم ترد في كتاب الله عز وجل ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول إن كلمة عقيدة فرية وأن الاستمرار على استعمال كلمة العقيدة فيه حرمانية!! ومن يستعملها يكون من الذين يناصبون كتاب الله العداء، لأن استعمال كلمة العقيدة من تبديل كلام الله، والواجب استعمال كلمة ملة بدلاً من كلمة عقيدة، فما قولكم في هذه المقالة، أفيدونا؟

 

الإجابة:

إن هذه المقولة الظالمة فيها الخلط والخبط كخبط عشواءَ والافتراء على دين الله عز وجل وعلى علماء الأمة وقبل أن أكشف عوارها أقول: إن مما ابتليت به الأمة المسلمة في زماننا هذا كثرة المتسورين على حمى العلم الشرعي من أشباه طلبة العلم الذين يظنون أنهم بلغوا رتبة الاجتهاد وصاروا كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى، بل إنهم قد يخطئون هؤلاء الأئمة الكبار وبعض هؤلاء المتعالمين لا يحسن ألف باء العلم الشرعي!!

وإن من مصائب الأمة الإسلامية في هذا الزمان أن يتكلم في مسائل العلم الشرعي أشباه طلبة العلم الذين إن قرأ الواحد منهم كتاباً أو كتابين ظن نفسه من كبار العلماء ومن أهل الاجتهاد المطلق فيجعل من نفسه حكماً يحكم بين العلماء فيرد عليهم ويصحح ويخطيء كما يشاء ويهوى من دون سند ولا أثارة من علم، وهذا مع الأسف نشاهده ونسمعه باستمرار. قال الحافظ ابن عساكر يرحمه الله مخاطباً رجلاً تجرأ على العلماء: [إنما نحترمك ما احترمت الأئمة]. أيها الناس تأدبوا مع العلماء، واعرفوا لهم مكانتهم، فما فاز من فاز إلا بالأدب، وما سقط من سقط إلا بسوء الأدب. واعلموا أن الأمة لا تحترم ولا تقدر إلا من يحترم العلماء والأئمة. إذا تقرر هذا فأبين فساد تلكم المقولة الفجة فيما يلي:

أولاً: صحيح أن كلمة عقيدة لم ترد في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولكن عدم ورودها فيهما لا يعني منع استعمالها، بل تحريم استعمالها كما زعم صاحب المقولة، فكم من كلمات واصطلاحات استعملها العلماء في كتبهم وكلامهم ليس لها ذكر في الكتاب ولا في السنة، وصغار طلبة العلم يعرفون ذلك فضلاً عن العلماء، وقديماً قال العلماء العبارة المشهورة (لا مشاحة في الاصطلاح) انظر تاج العروس 4/102، فما زال العلماء يضعون الاصطلاحات في كل علم وفن من غير نكير من أحد، قال العلامة ابن القيم [والاصطلاحات لا مشاحة فيها إذا لم تتضمن مفسدة] مدارج السالكين 3/306. ومن قال إن كل لفظ أو اصطلاح نستعمله لا بد وأن يكون وارداً في كتاب الله وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالكتاب والسنة ليسا من المعاجم اللغوية التي استوعبت الألفاظ العربية، قال المحقق القدير الشيخ محمود شاكر رحمة الله عليه في رسالته (مداخل إعجاز القرآن): [والألفاظ التي تستقر في اللغة استقراراً شاملاً مستفيضاً، يكون من الجهل والتهور محاولة انتزاعها وإسقاطها من أقلام الكتاب، ومن كتب العلماء قديماً وحديثاً]. وقال الشيخ أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري: [من القصور في التأصيل العلمي التماس كل معنى عربي، ودعك من الاصطلاح الحاصل بعد التنزيل في كلام الله سبحانه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ورده لغة أو شرعاً إذا لم يوجد فيهما، لأن المعجم العربي المدون مليء بمئات المفردات والمعاني العربية التي لم ترد في الوحيين، وما في ذلك من عجب، لأن الوحيين ليسا معجماً لغوياً، وإنما هما تعبير عما أذن الله بإبلاغه شرعاً بلغة عربية مبينة من مجموع لغة العرب] عن مقال بصحيفة الجزيرة السعودية على شبكة الإنترنت. وقد ألف عدد كبير من العلماء في اصطلاحات العلوم المختلفة فمن هذه الكتب على سبيل المثال لا الحصر:مفاتيح العلوم للخوارزمي، والتعريفات للجرجاني، وكشاف اصطلاحات الفنون والعلوم للتهانوي، والكليات لأبي البقاء الكفوي، وجامع العلوم في اصطلاحات الفنون المعروف بدستور العلماء للقاضي عبد رب النبي الأحمد نكري،والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي، وغيرها من معاجم المصطلحات، وقد ذكر د. بكر أبو زيد أكثر من خمسين كتاباً منها، انظر فقه النوازل 1/111 – 118. وإذا استعرضنا كتاباً واحداً من هذه الكتب لوجدنا اصطلاحات كثيرة جداً في الفقه وأصول الفقه والحديث والتفسير والنحو والبلاغة وغيرها ليست في الكتاب ولا في السنة ومع ذلك استعملها العلماء على مر العصور والأيام من غير نكير.

ثانياً:إن الزعم بأن من يستعمل كلمة عقيدة يكون مناصباً العداء لكتاب الله، افتراء عظيم على كتاب الله وعلى أهل العلم الذين استعملوا كلمة عقيدة وما زالوا يستعملونها، وأين الدليل على العداء لكتاب الله في استعمال كلمة عقيدة؟ ومن المعلوم أن عدداً كبيراً من علماء الأمة قديماً وحديثاً استعملوا كلمة عقيدة، بل إن كثيراً من مصنفات أهل العلم حملت اسم العقيدة أو الاعتقاد أو المعتقد وهذه بعض الأمثلة: العقيدة الطحاوية لأبي جعفر الطحاوي، أصل السنة واعتقاد الدين لابن أبي حاتم الرازي، اعتقاد أئمة الحديث لأبي بكر الاسماعيلي، اعتقاد أهل السنة والجماعة للهكاري، اعتقاد الشافعي لعبد الغني المقدسي، العقائد النسفية للإمام النسفي، عقيدة أهل الأثر للمواهبي، المعتقد للأصبهاني، العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، عقيدة السلف لأبي عثمان الصابوني، لمعة الاعتقاد لابن قدامة المقدسي، الاعتقادات للقابسي، شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة للإمام اللالكائي، الاعتقاد للبيهقي، تطهير الاعتقاد للصنعاني ويضاف إلى ذلك المئات من مؤلفات العلماء المعاصرين في العقيدة.

فهل كل هؤلاء العلماء الذين ذكرتهم ومن لم أذكرهم يناصبون كتاب الله العداء؟!! وهل كل هؤلاء العلماء الذين ذكرتهم ومن لم أذكرهم مفترون على الله لأنهم استعملوا كلمة عقيدة، وهي فرية كما زعم القائل؟!! ويضاف إلى ذلك أن كل الكليات الشرعية في العالم الإسلامي تدرس طلبتها مساقات العقيدة وفي هذه الكليات ما لا يحصى من أهل العلم، فهل كل هؤلاء يناصبون كتاب الله العداء؟!! {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً}.

ثالثاً: إن قضية التحليل والتحريم من أخطر القضايا الشرعية، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [سورة النحل الآية 116]. قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: [ومعنى هذا أن التحليل والتحريم إنما هو لله عز وجل وليس لأحد أن يقول ويصرح بهذا في عين من الأعيان إلا أن يكون الباري تعالى يخبر بذلك عنه] تفسير القرطبي 10/196. وقال الشوكاني: [وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة -هو المنذر بن مالك من التابعين- قال: قرأت هذه الآية في سورة النحل: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ}  إلى آخر الآية فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا. قلت -القائل الشوكاني-: صدق رحمه الله فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما يقع كثيراً من المؤثرين للرأي المقدمين له على الرواية أو الجاهلين لعلم الكتاب والسنة كالمقلدة وإنهم لحقيقون بأن يحال بينهم وبين فتاويهم ويمنعوا من جهالاتهم فإنهم أفتوا بغير علم من الله ولا هدى ولا كتاب منير فضلوا وأضلوا فهم ومن يستفتيهم كما قال القائل: كبهيمةٍ عمياء قاد زمامها أعمى على عوج الطريق الجائر] تفسير فتح القدير 3/201. وقال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} [سورة يونس الآية 59]. وأود أن أطلب من هذا القائل بتحريم استعمال كلمة عقيدة، أن يأتينا بدليل التحريم من الكتاب أو من السنة؟ ولن يستطيع إلى ذلك سبيلاً. ومن جهة أخرى لو سلمنا جدلاً أن المسألة محل خلاف بين أهل العلم -وليست كذلك- فلا إنكار في مسائل الخلاف المعتبر.

رابعاً: زعم القائل بأن استعمال كلمة عقيدة تبديل لكلام الله {ولا مبدل لكلمات الله} فهذا قول ظاهر البطلان بل هو من أعظم الفرية على الله تعالى والكذب عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فأي تبديل لكلام الله في استعمال كلمة عقيدة، وهل هذا هو المراد بتبديل كلام الله؟ إن هذا الاستدلال من أبطل الباطل، وهو من تحميل النصوص ما لا تحتمل.

وخلاصة الأمر أنه لا حرج في استعمال كلمة عقيدة ومن قال بتحريم ذلك فقد أعظم الفرية على دين الإسلام.

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.

  • 7
  • 16
  • 28,459

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً