مضاعفةُ السيئات في المسجد الأقصى المبارك في الكيفية وليست في العدد
سمعت أن السيئات تضاعف في المسجد الأقصى المبارك، فما مدى صحة ذلك شرعاً؟
أولاً: في ظل استمرار الهجمة اليهودية على المسجد الأقصى المبارك، لا بدَّ أن نُذَكِّر بمكانته عند المسلمين، من خلال النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، فمن ذلك: قوله تعالى: «النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه البخاري ومسلم). ومنها عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال سمعت أبا ذر رضي الله عنه قال: « » (رواه البخاري ومسلم). ومنها عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في صحيح الجامع). ومن فضائل المسجد الأقصى المبارك مضاعفة الصلاة فيه، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات وفي بعضهم كلام وهو حديث حسن كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/7، ورواه البزار وقال إسناده حسن الترغيب والترهيب 2/175). وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: « » (رواه الحاكم والطبراني والطحاوي وغيرهم.وصححه العلامة الألباني، بل قال عنه إنه أصحُ ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الأقصى، السلسلة الصحيحة حديث رقم 2902). وغير ذلك من الأحاديث.
» [سـورة الإسـراء الآية1]، ومنها ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنثانياً: اتفق أهل العلم على أن الله جلَّ جلالُهُ يضاعف الحسنات بمنِّه وكرمه، قال الله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [سورة الأنعام الآية 160]. وقال تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [سورة البقرة الآية 245] وغير ذلك من الآيات. وتزداد مضاعفةُ الحسنات في مواسم الخيرات في الأزمان الفاضلة كرمضان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « » (رواه مسلم). وكذلك تضاعف الحسنات في الأمكنة الفاضلة كالحرمين والمسجد الأقصى المبارك، كما سبق في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
ثالثاً: ذهب جماعةٌ من السلف إلى أن السيئات تضاعف في المسجد الأقصى المبارك، روي ذلك عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو وكعب الأحبار رضي الله عنهم، وبه قال مجاهد. انظر إعلام الساجد للزركشي ص204. وعند جمهور أهل العلم أن السيئات لا تضاعف في أعدادها، لا في المسجد الأقصى المبارك، ولا في غيره من الأماكن الفاضلة كالحرمين الشريفين، ولا تضاعف السيئات في الأزمان الفاضلة كذلك. وهذا هو القول الصحيح في المسألة، وعلى ذلك دلت النصوص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [سورة الأنعام الآية 160]. وقال الله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة القصص الآية 84]. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [سورة يونس الآية 27]. وقال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [سورة غافر الآية 40]. وثبت في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: « » (رواه البخاري ومسلم)، قال الحافظ ابن رجب الحنبلي عند شرحه للحديث [النوع الثاني عمل السيئات: فتكتب السيئةُ بمثلها من غير مضاعفةٍ، كما قال الله تعالى: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} وقوله« » إشارةٌ إلى أنها غير مضاعفةٍ، كما خرج في حديث آخر، لكن السيئة تعظم أحياناً بشرف الزمان أو المكان كما قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} في كلهن، ثم اختصَّ من ذلك أربعةَ أشهرٍ، فجعلهن حُرماً، وعظَّم حرمتهن، وجعل الذنبَ فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم، وقال قتادة في هذه الآية: اعلموا أن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووزراً فيما سوى ذلك، وإن كان الظلم في كل حالٍ غير طائل، ولكن الله تعالى يعظم من أمره ما يشاء تعالى ربنا. وقد روي في حديثين مرفوعين أن السيئات تضاعف في رمضان ولكن إسنادهما لا يصح] جامع العلوم والحكم ص438-439. وقرر المحققون من أهل العلم أن مضاعفة السيئات في كيفيتها، فتكون السيئةُ مغلظةً في المسجد الأقصى المبارك، كما هو الحال في الحرمين الشريفين، وتكون مغلظةً أيضاً في الأزمنة الفاضلة، فمن يعص الله في المساجد التي تشدُّ لها الرحال فذنبه مغلظٌ، ومن يعص الله عز وجل في رمضان وفي الأشهر الحرم، فذنبه مغلظ، قال العلامة ابن القيم: [ومن هذا تضاعف مقادير السيئات فيه –أي المسجد الحرام- لا كمياتها، فإن السيئة جزاؤُها سيئةٌ لكن سيئةً كبيرة، وجزاؤُها مثلها، وصغيرةٌ جزاؤُها مثلها، فالسيئةُ في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد وأعظم منها في طرفٍ من أطراف الأرض، ولهذا ليس من عصى الملكَ على بساط ملكه، كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه، فهذا فصل النزاع في تضعيف السيئات] زاد المعاد 1/51.
وخلاصة الأمر أن للمسجد الأقصى مكانةً عظيمةً عند المسلمين، كما ورد ذلك في النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة، وأن على الأمة المسلمة أن تتنبه للأخطار المحدقة بالمسجد الأقصى المبارك، وأن أهل العلم قد اتفقوا على أن الله جلَّ جلالُهُ يضاعف الحسنات بمنِّه وكرمه، وأما السيئات فالذي عليه المحققون من أهل العلم أنها لا تضاعف من جهة العدد، ولكن تضاعف من جهة الكيفية، وأن جماعة من السلف قالوا إن السيئات تضاعف في المسجد الأقصى المبارك، وأن الصحيح مضاعفة السيئات في كيفيتها، فتكون السيئةُ مغلظةً في المسجد الأقصى المبارك، كما هو الحال في الحرمين الشريفين وفي الأزمنة الفاضلة كرمضان، وعلى ذلك دلت نصوص الكتاب والسنة. والله الهادي إلى سواء السبيل.
حسام الدين عفانه
دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.
- التصنيف:
- المصدر: