تقدير الدية بالذهب وليس بالإبل
حسام الدين عفانه
- التصنيفات: فقه الجنايات والحدود -
هل تقدر الدية بالذهب أو بالفضة أو يكون تقديرها بناءً على أثمان الإبل، أرجو بيان الأساس في تقدير الدية؟
الأصل في مشروعية الدية قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} [سورة النساء الآية 92]، وثبتت الدية بالسنة النبوية أيضاً، فمن ذلك ما ورد في الكتاب المشهور المعروف بكتاب عمرو بن حزم، فقد روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتاباً فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو بن حزم فقرئت على أهل اليمن هذه نسختها: « » (رواه النسائي ومالك في الموطأ والدارمي). قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وصححه الحاكم وابن حبان والبيهقي، ونقل عن أحمد بن حنبل أنه قال: أرجو أن يكون صحيحاً، وقد صحح الحديث بالكتاب المذكور جماعة من الأئمة لا من حيث الإسناد؛ بل من حيث الشهرة، فقال الشافعي في رسالته: لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عبد البر: هذا كتاب مشهور عند أهل السير، معروفٌ ما فيه عند أهل العلم معرفةً يُستغنى بشهرتها عن الإسناد؛ لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة] التلخيص الحبير 4/17-18. بتصرف وغير ذلك من الأحاديث.
وقد اتفق جماهير أهل العلم على أن الإبل أصلٌ في الدية، فَتُقبل إذا أُديت الدية منها عندهم، ولكنهم اختلفوا هل هي الأصل الوحيد في باب الديات، أم أن هنالك أصولاً أخرى؟ قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [أجمع أهل العلم على أن الإبل أصلٌ في الدية، وأن دية الحر المسلم مئةٌ من الإبل، وقد دلت عليه الأحاديث الواردة منها حديث عمرو بن حزم، وحديث عبد الله بن عمر في دية خطأ العمد، وحديث ابن مسعود في دية الخطأ. . . وظاهر كلام الخرقي أن الأصل في الدية الإبل لا غير، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله، ذكر ذلك أبو الخطاب، وهو قول طاووس والشافعي وابن المنذر. وقال القاضي: لا يختلف المذهب أن أصول الدية الإبل والذهب والوَرِق- الفضة المسكوكة- والبقر والغنم، فهذه خمسةٌ لا يختلف المذهب فيها، وهذا قول عمر وعطاء وطاووس وفقهاء المدينة السبعة، وبه قال الثوري وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد، لأن عمرو بن حزم روى في كتابه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن: «العلماء مختلفون في أصول الدية، بعد اتفاقهم على أن الإبل أصلٌ في الدية، فمنهم من جعل الأصل في الدية هي الإبل فقط، وإذا لم توجد فتجب قيمتُها حينئذ، وما عداها بديلٌ عنها. وهذا قول الشافعي في الجديد، وأحمد في رواية، وقول بعض التابعين كطاووس. ومنهم من جعل الأصل في الدية ثلاثةُ أجناس، وهي الإبل والذهب والوَرِق، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي في القديم. ومنهم من قال أصول الدية خمسة: الإبل والذهب والوَرِق والبقر والغنم، وهذا مذهب الحنابلة، وقول جماعة من السلف، كعمر وعطاء، وهو قول الفقهاء السبعة. ومنهم من جعل أصول الدية ستة وهي: الإبل والذهب والفضة والبقر والغنم والحُلَل، وهذا قولٌ عند الحنابلة.
» (رواه النسائي). وروى ابن عباس « » (رواه أبو داود و ابن ماجة)، وروى الشعبي أن عمر جعل على أهل الذهب ألف دينار. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر قام خطيباً فقال: ألا إن الإبل قد غلت، فقوَّم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الوَرِق اثني عشر ألفاً، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحُلَل مائتي حلة) رواه أبو داود. . . ] المغني 9/481. والذي يؤخذ من كلام الشيخ ابن قدامة المقدسي وغيره من الفقهاء، أنوالذي أرجحه في ذلك أن أصول الدية متعددة، وليست الإبل هي الأصل الوحيد، والباقي بدلٌ عنها، كما اعتمده بعض المفتين، ولا يتسع المقام لذكر أدلة الفقهاء ومناقشتها، وبناءً على ذلك فالذي أرجحه أن تقدر الدية في بلادنا بالذهب فقط – 4250 غراماً- لأن الإبل ليست متوفرة في بلادنا، وقد قرر فقهاء المالكية هذا الاعتبار، فقد قال الشيخ محمد الزرقاني: [قال مالك: فأهل الذهب أهل الشام وأهل مصر وأهل المغرب، وأهل الوَرِق أهل العراق، والأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا يقبل من أهل القرى في الدية الإبل، لأنه خلاف الواجب عليهم من ذهب أو فضة، ولا من أهل العمود الذهب ولا الوَرِق، لأن المفروض عليهم الإبل، ولا من أهل الذهب الوَرِق، ولا من أهل الوَرِق الذهب؛ فإنما يقبل من كلٍ ما وجب عليه] شرح الزرقاني على الموطأ 4/218، وقال الإمام الباجي: [وعندي أنه يجب أن يُنظر إلى غالب أموال الناس في البلاد، فأي بلدٍ غلب على أموال أهلها الذهب، فهم أهل ذهبٍ، وأي بلدٍ غلب على أموالهم الوَرِق، فهم أهل وَرِق، وربما انتقلت الأموال فيجب أن تنتقل الأحكام] المنتقى 4/199.
ويستدل لاعتبار الذهب أصلاً في الديات بتقويم عمر رضي الله عنه حيث قوَّم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار، وقد فعل عمر ذلك بحضرة المهاجرين والأنصار ووافقوه عليه فكان إجماعاً كما أفاده الباجي في المصدر السابق.
ولا أرى تقديرها بأسعار الإبل في بلادٍ أخرى، كما فعل مجلس الإفتاء الأردني سنة 2009م فجعل دية القتل الخطأ عشرين ألف دينار أردني، ودية القتل العمد وشبه العمد خمسة وعشرين ألف دينار أردني، وذلك بناءً على أسعار الإبل في السودان.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وأما الدية فلا يلزم أخذ قيمة الإبل وإنما الأثمان أصل في الدية كما أن الإبل أصلٌ، فيتخير بين دفع أي الأصول شاء، فيلزم الولي قبوله لا على طريق القيمة] المغني 8/18.
وكذلك لا أرى تقدير الدية بالفضة، لأن الفضة قد فقدت جزءً كبيراً من قيمتها بينما بقي الذهبُ محافظاً على سعره إلى وقتنا الحاضر مع اختلافٍ يسيرٍ، حيث إن القوة الشرائية للذهب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تساوي (100%-120%) مما هي عليه الآن لا أكثر، انظر مجلة المجمع الفقهي 5/3/1679.
ونظراً للهبوط الكبير في سعر الفضة، رأى كثير من العلماء أن تقدير النصاب في الزكاة بالذهب هو الصحيح، نظراً لثبات سعر الذهب دون الفضة.
قال د. يوسف القرضاوي مرجحاً هذا القول: [ويبدو لي أن هذا القول سليم الوجهة قوي الحجة، فبالمقارنة بين الأنصبة المذكورة في أموال الزكاة، كخمسٍ من الإبل أو أربعين من الغنم أو خمسة أوسق من الزبيب أو التمر، تجد أن الذي يقاربها في عصرنا الحاضر، هو نصاب الذهب لا نصاب الفضة] فقه الزكاة 1/264. ويقول د. وهبة الزحيلي: [ويجب اعتبار النصاب الحالي كما هو كان في أصل الشرع دون النظر إلى تفاوت السعر القائم بين الذهب والفضة، وتقدر الأوراق النقدية بسعر الذهب، ولأنه هو الأصل في التعامل، ولأن غطاء النقود هو بالذهب، ولأن المثقال كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعند أهل مكة هو أساس العملة] الفقه الإسلامي وأدلته 2/760.
وقال د. محمد الأشقر: [وقد مال بعضُ الفقهاء في هذا العصر إلى الرجوع إلى التقويم في عروض التجارة والنقود الورقية إلى نصاب الذهب خاصة، ولذلك وجه بيّنٌ، وهو ثبات القدرة الشرائية للذهب فإن نصاب الذهب- العشرين ديناراً-كان يُشترى بها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عشرون شاةً من شياه الحجاز تقريباً، وكذلك نصاب الفضة- المئتا درهم- كان يُشتَرى بها عشرون شاةً تقريباً أيضاً، أما في عصرنا الحاضر فلا تكفي قيمة مئتي درهم من الفضة إلا لشراء شاة واحدة، بينما العشرون مثقالاً من الذهب تكفي الآن (1417هـ) لشراء عشرين شاة من شياه الحجاز أو أقل قليلاً، فهذا الثبات في قوة الذهب الشرائية تتحقق به حكمة تقدير النصاب على الوجه الأكمل، بخلاف نصاب الفضة] أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة 1/30.
وما قالوه في تقدير نصاب الزكاة بالذهب يقال في تقدير الدية بالذهب أيضاً إذ لا فرق فالدينار الذهبي فيهما واحد. وعليه فإن قيمة الدية تتغير طبقاً لتغير قيمة أصلها وهو الذهب، وأخيراً إن تقدير الدية بالذهب في أيامنا هذه، يردع كثيراً من الناس عن الإقدام على القتل، خاصة مع ارتفاع أسعار الذهب، ولا ينبغي التقليل من دية المسلم، مع أننا نشهد في بلادٍ قريبة المطالبة برفع تقدير الدية، وكذلك لا يعقل أن تكون دية المسلم عشرون ألف دينار أردني في القتل الخطأ، وخمسة وعشرون ألف دينار أردني في دية القتل العمد وشبه العمد، ونحن نرى أن شركات التأمين في الخارج تدفع أضعاف هذه المبالغ لغير المسلمين، أم أن المسلم هو الأقل في كل شيء، حتى في قيمة ما يُدفع عن قتله خطأً، فهو أرخص في الحياة، وأرخص أيضاً بعد القتل والوفاة. إن جعل قيمة الدية أقل مما يدفع في القتل الخطأ في الشأن الدولي يناقض مبدأ علو الإسلام، كما ورد في الحديث «الألباني في إرواء الغليل 5/106. انظر مقال (التعويضات في حوادث القتل) عن الإنترنت. وقال الإمام الشوكاني: [الأهم في الدية أنها تجب أن تكون مالاً عظيماً يغلبهم وينقص من مالهم، ويجدون له ألماً عندهم، ويكون بحيث يؤدونه بعد مقاساة الضيق ليحصل الزجر، وهذا القدر يختلف باختلاف الأشخاص] الروضة الندية 2/305.
» وهو حديث حسن كما قال العلامةوخلاصة الأمر أن الإبل أصلٌ في الديات باتفاق الفقهاء، ولكنها ليست الأصل الوحيد، وخاصة أنها ليست متوفرة في كل البلاد، وهنالك أصولٌ أخرى للديات، وهي الذهب والفضة والبقر والغنم، ونحن في هذه الديار لسنا أهل إبلٍ ولا بقرٍ ولا غنمٍ، وليست هذه الأصناف غالبةً عندنا، وإنما الغالبُ عندنا النقود وهي التي قامت مقام الذهب، والأصل أن يكون التقدير بالغالب في البلد كما قال أصبغ الفقيه المالكي: [يعتبر في كل قطرٍ ما يغلب على أهله في عصره، وقتَ وجوبها وفرضها] وعليه فالذي أرجحه أن يكون تقدير الدية في بلادنا بالذهب فقط – 4250 غراماً- في دية القتل الخطأ، على الرغم من ارتفاع سعر الذهب، فقيمة المسلم أغلى وأعز، ولما فيه من حفظ النفس وهو أحد مقاصد الشريعة، ولما في ذلك أيضاً من ردعٍ للناس حتى لا يقدموا على القتل استسهالاً لمبلغ الدية القليل.