لا يجوز عزلُ المُحَكَّم إلا بتراضي الخصوم
حسام الدين عفانه
- التصنيفات: فقه المعاملات -
حصل خلافٌ مع شخصٍ حول ملكية قطعة أرض، فوافقنا على التحكيم لحل الخلاف، واتفقنا على المُحَكَّم، وبعد تقديم الحجج مكتوبةً للمُحَكَّم ودراسته للقضية وقبل أن يصدر الحُكم تراجع الخصمُ وطلب عزلَ المُحَكَّم، فهل يجوز له ذلك؟
أولاً: عقد التحكيم هو اتفاق طرفي خصومةٍ معينةٍ، على تولية من يفصلُ في منازعةٍ بينهما، بحكمٍ ملزمٍ، يطبق الشريعة الإسلامية. مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد التاسع ج4 ص5.
والتحكيمُ بين الناس في الخصومات مشروعٌ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وثابتٌ عن الصحابة والتابعين؛فمن كتاب الله قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [سورة النساء الآية 35]، وهذه الآية نصٌ صريحٌ في إثبات التحكيم، كما قال القرطبي في تفسيره 5/179.
ومن السنة النبوية ما رواه البخاري في صحيحه في قصة تحكيم سعد بن معاذ رضي الله عنه في يهود بني قريظة، وقد رضي الرسول صلى الله عليه وسلم بسعدٍ رضي الله عنه حَكَمَاً.
وكذلك ما رواه أبو داود بسنده عن يزيد بن المقدام عن شريح عن أبيه عن جده شريح عن أبيه هانئ: «الألباني: صحيح، إرواء الغليل 8/237).
» (ورواه النسائي أيضاً، وقال العلامةومن ذلك ما وقع لعمر رضي الله عنه حين ساوم على فرسٍ لرجلٍ فركبه فعطب الفرسُ، فقال عمر للرجل: خذ فرسك، فقال الرجل: لا، فقال: إجعل بيني وبينك حَكَماً، فقال الرجل: شريح فتحاكما إليه…الخ” (رواه ابن سعد في الطبقات، وقال العلامة الألباني رجاله ثقات، رجال الشيخين إلا أن الشعبي لم يدرك عمر). وقد وقعت حوادث كثيرة في زمن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحكّمون فيها بين المتخاصمين.
ثانياً: عقد التحكيم كسائر العقود في الشريعة الإسلامية، لا بدَّ فيه من تراضي الخصمين على تعيين المُحَكَّم أو المُحَكَّمين في القضية محل الخصومة، لأن رضا الخصمين هو المثبت لولاية المُحَكَّم، ولا بدَّ من قبول المُحَكَّم بذلك، وقد نصَّ الفقهاءُ على أن اتفاق المتخاصمين والمُحَكَّم على قبول مهمة التحكيم هو ركن التحكيم. انظر الموسوعة الفقهية الكويتية10/241.
ثالثاً: اتفق جمهور الفقهاء على أنه لا يجوز عزل المُحَكَّم بعد إصداره الحكم، وإذا حكم المُحَكَّم في الخصومة فحُكمُهُ نافذٌ، فليس لأحدٍ حق الرجوع عن التحكيم، ولا عزل المُحَكَّم، وهذا مذهب جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية في القول المعتمد عندهم، والحنابلة، وهو قول الظاهرية، ونُقل عن جماعةٍ من السلف.
فإن رجع بعد الحكم لم يبطل الحكم، لأنه صدر عن ولايةٍ شرعيةٍ للمحكم، كالقاضي الذي يُصدر حكمه، ثم يعزله السلطان. جاء في المادة (1448) من مجلة الأحكام العدلية ما يلي: [كما أن حُكم القضاة لازمُ الإجراء في حق جميع الأهالي الذين في داخل قضائهم، كذلك حُكم المُحَكَّمين لازم الإجراء، على الوجه المذكور في حق من حكّّمهم وفي الخصوص الذي حُكموا به، فلذلك ليس لأي واحدٍ من الطرفين الامتناع عن قبول حكم المُحَكَّمين بعد حكم المُحَكَّمين حكماً موافقاً لأصوله المشروعة]. وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية10/244.
رابعاً: اختلف الفقهاء فيما لو شرع المُحَكَّم في النظر في القضية بعد اتفاق الخصمين على تعيينه للحُكم بينهما، هل يجوز لأحدهما الرجوع عن ذلك، وعزل المُحَكَّم؟فمن الفقهاء من أجاز عزل المُحَكَّم باتفاق الخصمين، ومنهم من أجاز لأحد الخصمين عزل المُحَكَّم، ومنهم من منع عزل المُحَكَّم بمجرد شروعه في نظر الخصومة،
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إذا ثبت هذا فإن لكل واحدٍ من الخصمين الرجوع عن تحكيمه قبل شروعه في الحُكم، لأنه لا يثبت إلا برضاه، فأشبه ما لو رجع عن التوكيل قبل التصرف. وإن رجع بعد شروعه، ففيه وجهان أحدهما: له ذلك، لأن الحكم لم يتم، أشبه قبل الشروع. والثاني: ليس له ذلك، لأنه يؤدي إلى أن كل واحدٍ منهما إذا رأى من الحَكَم ما لا يوافقه رجع، فبطل المقصود به] المغني11/484.
والقولُ بمنع عزل المُحَكَّم بإرادةٍ منفردةٍ من أحد الخصمين هو الأقوى والأرجح، لأن ذلك يؤدي إلى عدم استقرار أمور التحكيم، ويقللُ من هيبة المُحَكَّم، وهذا قول جماعةٍ من فقهاء المالكية
[وقال أصبغ: لكلّ واحد منهما الرّجوع ما لم تبدأ الخصومة أمام الحَكَم، فإن بدأت تعيَّن عليهما المضيُّ فيها حتّى النّهاية. وقال ابن الماجشون: ليس لأحدهما الرّجوع ولو قبل بدء الخصومة. . . أمّا بعد الشّروع فيه، وقبل تمامه، ففي الرّجوع قولان: أحدهما: له الرّجوع لأنّ الحُكْم لم يتمّ، أشبه قبل الشّروع. والثّاني: ليس له ذلك، لأنّه يؤدّي إلى أنّ كلّ واحدٍ منهما إذا رأى من الحَكَم ما لا يوافقه رجع، فبطل مقصودُهُ. فإن صدر الحُكْمُ نفذ] الموسوعة الفقهية الكويتية10/244،
وبه قال بعض فقهاء الشافعية والحنابلة.
[وحكى أبو سعيد الأصطخري فيه وجها ثالثاً: أن خيارهما في التحكيم ينقطع بشروعه في الحُكم، فإذا شرع فيه صار لازماً لهما، وإن كان قبل شروعه فيه موقوفاً على خيارهما بعد الشروع في الحُكم مفضٍ إلى أن لا يلزم بالتحكيم حُكْمٌ إذا رأى أحدهما توجه الحكم عليه، فيصيـر التحكيـم لغواً] انظر بحث التحكيم والتحاكم الدولي في الشريعة الإسلامية للنشمي، http: //www. dr-nashmi. com/index. jsp?inc=32&conf=3&mv=1
ومما يؤيد أنه ليس لأي من المتخاصمين عزل المُحَكَّم بعد الاتفاق على تحكيمه، لأن تعيينه قد تمَّ باتفاق الطرفين، فلا ينعزل إلا بإرادتهما معاً، ولأن الاتفاق على التحكيم عقدٌ على انهاء النزاع بالتحكيم ونقضه إخلال بالعقد، والله تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة الآية1]. وانظر بحث: أثر التحكيم في الفقه الإسلامي د. عبد المجيد السوسوه.
وبناءً على ما سبق لا يصح عزلُ المُحَكَّم إلا بتراضي الخصوم جميعاً، وخاصةً أن اختلاف الفقهاء في هذه المسألة مبنيٌ على الاجتهاد، إذ المسألةُ لا نصَّ فيها فيما أعلم، فأقوال الفقهاء في ذلك اجتهاديةٌ، وهي مبنيةٌ على إرادة تحقيق مصالح الناس في الفصل في القضايا المتنازع فيها، فلو انفرد أحدُهما بنقض عقد التحكيم، فإنه يؤدي إلى بطلان المقصود من التحكيم. انظر عقد التحكيم للدكتور قحطان الدوري ص 146.
وهذا القول هو اختيار مجمع الفقه الإسلامي، حيث ورد في قرار المجمع المتعلق بمبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي: [بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر ما يلي:
أولاً: التحكيم اتفاق طرفي خصومةٍ معينةٍ، على تولية من يفصل في منازعةٍ بينهما، بحكمٍ ملزم، يطبق الشريعة الإسلامية. وهو مشروعٌ سواء أكان بين الأفراد أم في مجال المنازعات الدولية.
ثانياً: التحكيم عقدٌ غير لازمٍ لكل من الطرفين المحتكمين والحَكَم، فيجوز لكل من الطرفين الرجوع فيه ما لم يشرع الحَكَم في التحكيم، ويجوز للحَكَم أن يعزل نفسَه–ولو بعد قبوله–ما دام لم يصدر حُكمَه، ولا يجوز له أن يستخلف غيره دون إذن الطرفين، لأن الرضا مرتبطٌ بشخصه.
ثالثاً: لا يجوز التحكيم في كل ما هو حقٌ لله تعالى كالحدود، ولا فيما استلزم الحُكمُ فيه إثبات حُكمٍ أو نفيه بالنسبة لغير المتحاكمين ممن لا ولاية للحَكَم عليه، كاللعان، لتعلق حق الولد به، ولا فيما ينفرد القضاء دون غيره بالنظر فيه. فإذا قضى الحَكَمُ فيما لا يجوز فيه التحكيم، فحُكمهُ باطلٌ ولا ينفذ.
رابعاً: يشترط في الحَكَم بحسب الأصل توافر شروط القضاء.
خامساً: الأصل أن يتم تنفيذ حكم المُحَكَّم طواعيةً، فإن أبى أحدُ المحتكمين، عُرضَ الأمرُ على القضاء لتنفيذه، وليس للقضاء نقضهُ، ما لم يكن جوراً بيِّناً، أو مخالفاً لحكم الشرع.
سادساً: إذا لم تكن هناك محاكم دولية إسلامية، يجوز احتكام الدول أو المؤسسات الإسلامية إلى محاكم دولية غير إسلامية، توصلاً، لما هو جائزٌ شرعاً] مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد التاسع ج4 ص5.
وهذا القول هو اختيار بعض قوانين التحكيم في البلاد العربية، كقانون التحكيم السوري والقطري والأردني وغيرها.
وخلاصة الأمر أن عقد التحكيم هو اتفاق طرفي خصومةٍ معينةٍ، على تولية من يفصل في منازعةٍ بينهما، بحكمٍ ملزمٍ، يطبق الشريعة الإسلامية،
وأن التحكيم بين الناس في الخصومات مشروعٌ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وثابتٌ عن الصحابة والتابعين،
وأن عقد التحكيم لا بد فيه من تراضي الخصمين على تعيين المُحَكَّم أو المُحَكَّمين ولا بد من قبول المُحَكَّم،
وأنه لا يجوز عزل المُحَكَّم بعد إصداره الحُكم،
وأن الأصل الذي قرره فقهاؤُنا هو أن الحُكم الذي يصدره المُحَكَّم لازمٌ للخصوم وواجبُ التنفيذ، مادام المُحَكَّم أهلاً للتحكيم، وما دام الحُكْمُ غيرُ مخالفٍ لأحكام الشريعة الإسلامية، وصدر بعد استكمال جميع الإجراءات اللازمة لإصداره من استماع حجج الخصوم وطعونهم فيها ونحو ذلك.
وأن القول بمنع عزل المُحَكَّم بإرادةٍ منفردةٍ من أحد الخصمين هو الأقوى والأرجح، لأن ذلك يؤدي إلى عدم استقرار أمور التحكيم، ويقلل من هيبة المُحَكَّم.
والله الهادي إلى سواء السبيل.