الضوابطُ الشرعيةُ للإهداء وقبول الهدية
حسام الدين عفانه
- التصنيفات: فقه المعاملات -
تبادلُ الهدايا جزءٌ من النظام الاجتماعي، فما هي الأحكام المتعلقة بالإهداء وقبول الهدايا؟
أولاً: التهادي بين الناس أمرٌ مرغبٌ فيه شرعاً وعادةً، قال تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ. فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [سورة النمل الآيتان 36-35].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: « » (رواه البخاري).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه البخاري)، والمقصود ذراع الشاة، والكراعُ ما دون الرُّكبة إلى الساق من نحو شاةٍ أو بقرة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي في السنن، وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل6/44).
قال الحافظ ابن عبد البر: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية وندب أمته إليها، وفيه الأسوة الحسنة به صلى الله عليه وسلم. ومن فضل الهدية مع اتباع السنة أنها تورث المودةً وتُذهب العداوة] فتح المالك9/358-359.
ثانياً: المسلم ملتزمٌ بأحكام الشرع في كل مجالات حياته، فالمسلم يتبعُ أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في شؤونه كلها، ويحرمُ العدولُ عنها إلى إتباع أهواءه وشهواته، فالمسلم منضبطٌ بضوابط الشرع، والانضباط هو أخذ الأمور بحزمٍ وقوةٍ، بحيث تبقى أفعال المسلم وتصرفاته ضمن الحكم الشرعي. والانضباط روح الإسلام، فكلمة الإسلام تؤكد على الاستسلام لأحكام الله عز وجل، ابتداءً بالعقيدة وانتهاءً بالشريعة، فالمسلم عبدٌ لله سبحانه وتعالى، ملتزمٌ بشرعه، فالإسلامُ لا يعطي الفرد الحرية المطلقة في أن يفعل ما يشاء وكيفما يشاء، كما هو الحال في الأنظمة الوضعية، لأن الحرية المطلقة رذيلةٌ ممقوتةٌ، بل هي مفسدةٌ مطلقةٌ.
ثالثاً: ذكر محمد بن الحسن الشيباني أن الهدية أربعة أقسام باعتبار المُهدِي والمُهدَى إليه وهي:
(1)حلالٌ من الجانبين كالإهداء للتودد.
(2)وحرامٌ منهما كالإهداء ليُعينه على ظلم.
(3)وحرامٌ على الآخذ فقط، وهي أن يهديه ليكفَّ عنه الظلم.
(4)أن يدفعه لدفع الخوف من المهدي إليه على نفسه أو ماله أو عياله أو عرضه، فهذه حلالٌ للدافع حرامٌ على المدفوع إليه، فإن دفع الضرر عن المسلم واجبٌ، ولا يجوز أخذ المال ليفعل الواجب. الموسوعةالفقهية الكويتية42/258.
رابعاً: من ضوابط الهدية في ذاتها أنها إن كانت حراماً كالخمر والخنزير والصلبان والشعارات الدينية لغير المسلمين ونحو ذلك، فلا يجوز شرعاً إهداؤها ولا قبولها. وإن كان يحرم استعمالها في حالٍ دون حالٍ كالحرير مثلاً، فيجوز قبولها والتصرف فيها بالبيع أو الإهداء ونحوهما.
خامساً: تحرم الهدية للموظف، فالأصل المقرر عند الفقهاء أن من تولى مسؤوليةً أو وظيفةً عامةً أو خاصةً، أنه يحرم عليه قبول هديةٍ أو مكافأةٍ أو إكراميةٍ جاءته بحكم مسؤوليته تلك أو وظيفته، إلا إذا أذنت له جهة العمل المشغلة له بقبولها. والهدية للموظف والمكافأة والإكرامية ما جاءت للموظف إلا باعتبار أنه موظفٌ وليس باعتبار شخصيته العادية،
ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: « » (رواه البخاري ومسلم). والرُغاء: صوت البعير، والخُوار: صوت البقرة، واليُعار: صوت الشاة.
قال الحافظ العسقلاني: [بين له النبي صلى الله عليه وسلم أن الحقوق التي عمل لأجلها هي السبب في الإهداء له، وأنه لو أقام في منزله لم يهد له شيءٌ، فلا ينبغي له أن يستحلها بمجرد كونها وصلت إليه على طريق الهدية، فإن ذاك إنما يكون حيث يتمحض الحق له] فتح الباري12/349.
وقال الإمام النووي: [في هذا الحديث بيان أن هدايا العمال حرام، ولهذا ذكر في الحديث عقوبته وحمْله ما أُهدي إليه يوم القيامة، وقد بين صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث السبَبَ في تحريم الهدية عليه، وأنها بسبب الولاية، بخلاف الهدية لغير العامل، فإنها مستحبة، وحكم ما يقبضه العامل ونحوه باسم الهدية أنه يرده إلى مُهْديه، فإن تعذر: فإلى بيت المال] شرح النووي على مسلم6/462.
وقال الكمال ابن الهمام: [وتعليل النبي صلى الله عليه وسلم دليلٌ على تحريم الهدية التي سببها الولاية] فتح القدير7/272.
سداساً: تحرم الهديةُ من المقترض للمقرض، لأن كل قرضٍ جرَّ نفعاً فهو ربا، وهذا وإن لم يكن حديثاً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمعناه صحيحٌ، فالهدية التي يقدمها المقترض للمقرض قبل السداد، ولم تجر العادة في التهادي بينهما فيها شبهة بالربا، روى البخاري عن أبي بردة قال: (أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي: ألا تجيء إلى البيت حتى أطعمك سويقاً وتمراً فذهبنا فأطعمنا سويقاً وتمراً، ثم قال: إنك بأرض الربا فيها فاشٍ -منتشر- فإذا كان لك على رجلٍ دينٌ فأهدى إليك حِمل تبنٍ أو حمل شعيرٍ أو حمل قَتٍ فلا تقبله فإن ذلك من الربا).
سابعاً: تقبل هدايا الكفار ويجوز الإهداء لهم، قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب قبول الهدية من المشركين. . . وأُهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاةٌ فيها سمٌّ. وقال أبو حميد: أهدى ملكُ أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بغلةً بيضاء، فكساه بُرداً].
ثم روى البخاري بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: « ». وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: « » .
وقال الإمام البخاري: [باب الهدية للمشركين وقوله الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
ذكر الحافظ ابن حجر أن المراد من سياق الآية التي ذكرها البخاري، بيان من يجوز برهُ منهم، وأن الهدية للمشرك إثباتاً ونفياً ليست على الإطلاق. . . ثم البرُ والصلةُ والإحسانُ لا يستلزم التحابب والتوادد المنهي عنه في قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فتح الباري6/160.
ثامناً: من ضوابط قَبول هدايا الكفار أن لا يترتب عليها إخلالٌ بعقيدة الولاء والبراء، قال الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة المجادلة الآية22].
وبالتالي تحرم الهدايا للكفار إذا كانت مرتبطةً بعقائدهم الباطلة، كالهدايا المرتبطة بأعيادهم الدينية تعظيماً لها، فيُخشى على من فعل ذلك الكفر، فيحرمُ على المسلم أن يعظم شعائر الكافرين.
قال الحصكفي الحنفي: [والاعطاء باسم النيروز والمهرجان لا يجوز، أي الهدايا باسم هذين اليومين حرامٌ. وإن قصد تعظيمه كما يعظمهُ المشركون يكفر. قال أبو حفص الكبير: لو أن رجلاً عَبَدَ اللهَ خمسين سنةً، ثم أهدى لمشركٍ يوم النيروز بيضةً، يريدُ تعظيم اليوم فقد كفر وحبط عمله] الدر المختار 7/345-346.
وقال المواق المالكي: [وكره ابن القاسم أن يُهدي للنصراني في عيده مكافأةً له، ونحوه إعطاءُ اليهودي ورقَ النخيل لعيده] التاج والإكليل4/256،
وقال موسى الحجاوي الحنبلي: [ويحرمُ شهود عيد اليهود والنصارى وبيعه لهم فيه ومهاداتهم لعيدهم] الإقناع2/49.
تاسعاً: يجوز قبول هدايا الكفار بمناسبة أعيادهم الدينية على الراجح من أقوال أهل العلم ما لم يكن في ذلك محظورٌ شرعي،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر بعض الآثار عن الصحابة تفيدُ قَبولهم لهدايا الكفار في أعيادهم: [فهذا كله يدل على أنه لا تأثير للعيد في المنع من قبول هديتهم، بل حكمها في العيد وغيره سواء، لأنه ليس في ذلك إعانة لهم على شعائر كفرهم، لكن قبول هدية الكفار من أهل الحرب وأهل الذمة مستقلةً بنفسها فيها خلاف وتفصيل ليس هذا موضعه، وإنما يجوز أن يُؤكل من طعام أهل الكتاب في عيدهم بابتياع أو هدية أو غير ذلك مما لم يذبحوه للعيد] اقتضاء الصراط المستقيم2/52.
وقال الشيخ محمد العثيمين: [واختلف العلماء فيما إذا أهدى إليك أحدٌ من غير المسلمين هدية بمناسبة أعيادهم هل يجوز لك قبولها أو لا يجوز؟فمن العلماء من قال: لا يجوز أن يقبل هديتهم في أعيادهم، لأن ذلك عنوان الرضا بها، ومنهم من يقول: لا بأس به، وعلى كل حالٍ إذا لم يكن في ذلك محظورٌ شرعي وهو أن يعتقد المهدي إليك أنك راضٍ بما هم عليه، فإنه لا بأس بالقبول، وإلا فعدم القبول أولى] إعلام المسافرين ص70-71.
وخلاصة الأمر أن التهادي بين الناس أمرٌ مرغبٌ فيه شرعاً وعادةً،
وأن المسلم ملتزمٌ بأحكام الشرع في كل مجالات حياته، ومنها تبادل الهدايا، وأن الهدية قد تكون حلالاً وقد تكون حراماً باعتبار المُهدِي والمُهدَى إليه،
وأنه يحرم قبول أو إهداء ما كان حراماً في ذاته.
وأنه تحرم الهدية للموظف، وأنه تحرم الهدية من المقترض للمقرض،
وأنه تقبل هدايا الكفار ويجوز الإهداء لهم بشرط أن لا يترتب عليها إخلالٌ بعقيدة الولاء والبراء،
وأنه يجوز قبول هدايا الكفار بمناسبة أعيادهم الدينية على الراجح من أقوال أهل العلم ما لم يكن في ذلك محظور شرعي.
والله الهادي إلى سواء السبيل.