فصـــل في أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه
منذ 2006-12-01
السؤال: فصـــل في أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه
الإجابة: وأما في طرق الإثبات، فمعلوم أيضًا أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد
نفي التشبيه، إذ لو كفي في إثباته مجرد نفي التشبيه لجاز أن يوصف
سبحانه من الأعضاء والأفعال، بما لا يكاد يحصى مما هو ممتنع عليه مع
نفي التشبيه، وأن يوصف بالنقائص التي لا تجوز عليه مع نفي
التشبيه.
كما لو وصفه مفتر عليه بالبكاء والحزن، والجوع والعطش، مع نفي التشبيه.
وكما لو قال المفترى: يأكل لا كأكل العباد، ويشرب لا كشربهم، ويبكي ويحزن لا كبكائهم ولاحزنهم،كما يقال: يضحك لا كضحكهم، ويفرح لا كفرحهم، ويتكلم لا ككلامهم، ولجاز أن يقال: له أعضاء كثيرة لا كأعضائهم، كما قيل: له وجه لا كوجوههم، ويدان لا كأيديهم.
حتى يذكر المعدة والأمعاء والذكر، وغير ذلك مما يتعالى الله عز وجل عنه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
فإنه يقال لمن نفي ذلك مع إثبات الصفات الخبرية وغيرها من الصفات: ما الفرق بين هذا وما أثبته إذا نفيت التشبيه وجعلت مجرد نفي التشبيه كافيًا في الإثبات، فلا بد من إثبات فرق في نفس الأمر.
فإن قال: العمدة في الفرق هو السمع، فما جاء به السمع أثبته دون ما لم يجئ به السمع.
قيل له أولا: السمع هو خبر الصادق عما هو الأمر عليه في نفسه، فما أخبر به الصادق فهو حق من نفي أو إثبات، والخبر دليل على المخبر عنه، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه، فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتًا في نفس الأمر، وإن لم يرد به السمع، إذا لم يكن نفاه.
ومعلوم أن السمع لم ينف هذه الأمور بأسمائها الخاصة، فلابد من ذكر ما ينفيها من السمع، وإلا فلا يجوز حينئذ نفيها كما لا يجوز إثباتها.
وأيضًا، فلابد في نفس الأمر من فرق بين ما يثبت له وينفي، فإن الأمور المتماثلة في الجواز، والوجوب، والامتناع يمتنع اختصاص بعضها دون بعض، في الجواز والوجوب والامتناع، فلابد من اختصاص المنفي عن المثبت بما يخصه بالنفي، ولابد من اختصاص الثابت عن المنفي بما يخصه بالثبوت.
وقد يعبر عن ذلك بأن يقال: لابد من أمر يوجب نفي ما يجب نفيه عن الله، كما أنه لابد من أمر يثبت له ما هو ثابت، وإن كان السمع كافيًا كان مخبرًا عما هو الأمر عليه في نفسه، فما الفرق في نفس الأمر بين هذا وهذا؟
فيقال: كلما نفي صفات الكمال الثابتة للّه فهو منزه عنه، فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر، فإذا علم أنه موجود واجب الوجود بنفسه، وأنه قديم واجب القدم، علم امتناع العدم والحدوث عليه، وعلم أنه غني عما سواه.
فالمفتقر إلى ما سواه في بعض ما يحتاج إليه لنفسه، ليس هو موجودًا بنفسه، بل بنفسه وبذلك الآخر الذي أعطاه ما تحتاج إليه نفسه فلا يوجد إلا به.
وهو سبحانه غني عن كل ما سواه، فكل ما نافي غناه فهو منزه عنه، وهو سبحانه قدير قوي، فكل ما نافي قدرته وقوته فهو منزه عنه، وهو سبحانه حي قيوم، فكل ما نافي حياته وقيوميته فهو منزه عنه.
وبالجملة، فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد، فكل ما ضاد ذلك فالسمع ينفيه، كما ينفي عنه المثل والكفؤ، فإن إثبات الشيء نفي لضده، ولما يستلزم ضده، والعقل يعرف نفي ذلك كما يعرف إثبات ضده، فإثبات أحد الضدين نفي للآخر ولما يستلزمه.
فطرق العلم بنفي ما ينزه عنه الرب متسعة، لا يحتاج فيها إلى الاقتصار على مجرد نفي التشبيه والتجسيم، كما فعله أهل القصور والتقصير، الذين تناقضوا في ذلك، وفرقوا بين المتماثلين، حتى إن كل من أثبت شيئًا احتج عليه من نفاه بأنه يستلزم التشبيه.
وكذلك احتج القرامطة على نفي جميع الأمور، حتى نفوا النفي، فقالوا: لا يقال: لا موجود ولا ليس بموجود، ولا حي ولا ليس بحي؛ لأن ذلك تشبيه بالموجود أو المعدوم فلزم نفي النقيضين، وهو أظهر الأشياء امتناعًا.
ثم إن هؤلاء يلزمهم من تشبيهه بالمعدومات، والممتنعات، والجمادات، أعظم مما فروا منه من التشبيه بالأحياء الكاملين، فطرق تنزيهه وتقديسه عما هو منزه عنه متسعة لا تحتاج إلى هذا.
وقد تقدم أن ما ينفي عنه سبحانه النفي المتضمن للإثبات، إذ مجرد النفي لا مدح فيه ولا كمال، فإن المعدوم يوصف بالنفي، والمعدوم لا يشبه الموجودًات، وليس هذا مدحًا له؛ لأن مشابهة الناقص في صفات النقص نقص مطلقًا، كما أن مماثلة المخلوق في شيء من الصفات تمثيل وتشبيه، ينزه عنه الرب تبارك وتعالى.
والنقص ضد الكمال، وذلك مثل أنه قد علم أنه حي والموت ضد ذلك، فهو منزه عنه، وكذلك النوم والسِّنَةُ ضد كمال الحياة، فإن النوم أخو الموت، كذلك اللُّغُوب نقص في القدرة والقوة، والأكل والشرب ونحو ذلك من الأمور فيه افتقار إلى موجود غيره، كما أن الاستعانة بالغير والاعتضاد به، ونحو ذلك تتضمن الافتقار إليه والاحتياج إليه.
وكل من يحتاج إلى من يحمله أو يعينه على قيام ذاته وأفعاله فهو مفتقر إليه، ليس مستغنيًا عنه بنفسه، فكيف من يأكل ويشرب، والآكل والشارب أجوف، والمصمت الصمد أكمل من الآكل والشارب.
ولهذا كانت الملائكة صمدًا لا تأكل ولا تشرب، وقد تقدم أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به، وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك، والسمع قد نفي ذلك في غير موضع، كقوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2].
والصمد الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وهذه السورة هي نسب الرحمن، أو هي الأصل في هذا الباب.
وقال في حق المسيح وأمه: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75].
فجعل ذلك دليلًا على نفي الإلوهية، فدل ذلك على تنزيهه عن ذلك بطريق الأولى والأحرى.
والكبد والطحال، ونحو ذلك، هي أعضاء الأكل والشرب، فالغني المنزه عن ذلك منزه عن آلات ذلك، بخلاف اليد فإنها للعمل والفعل، وهو سبحانه موصوف بالعمل والفعل؛ إذ ذاك من صفات الكمال، فمن يقدر أن يفعل أكمل ممن لا يقدر علي الفعل.
وهو سبحانه منزه عن الصاحبة والولد، وعن آلات ذلك وأسبابه، وكذلك البكاء والحزن، هو مستلزم الضعف والعجز، الذي ينزه عنه سبحانه، بخلاف الفرح والغضب فإنه من صفات الكمال، فكما يوصف بالقدرة دون العجز، وبالعلم دون الجهل، وبالحياة دون الموت، وبالسمع دون الصمم، وبالبصر دون العمى، وبالكلام دون البكم، فكذلك يوصف بالفرح دون الحزن، وبالضحك دون البكاء، ونحو ذلك.
وأيضًا، فقد ثبت بالعقل ما أثبته السمع، من أنه سبحانه لا كفؤ له، ولا سمي له وليس كمثله شيء، فلا يجوز أن تكون حقيقته كحقيقة شيء من المخلوقات، ولا حقيقة شيء من صفاته كحقيقة شيء من صفات المخلوقات، فيعلم قطعًا أنه ليس من جنس المخلوقات، لا الملائكة ولا السموات، ولا الكواكب ولا الهواء، ولا الماء ولا الأرض، ولا الآدميين، ولا أبدانهم، ولا أنفسهم، ولا غير ذلك، بل يعلم أن حقيقته عن مماثلات شيء من الموجودًات أبعد من سائر الحقائق، وأن مماثلته لشيء منها أبعد من مماثلة حقيقة شيء من المخلوقات لحقيقة مخلوق آخر.
فإن الحقيقتين إذا تماثلتا، جاز على كل واحدة ما يجوز على الأخرى، ووجب لها ما وجب لها، فيلزم أن يجوز على الخالق القديم الواجب بنفسه ما يجوز على المحدث المخلوق، من العدم والحاجة، وأن يثبت لهذا ما يثبت لذلك من الوجوب والفناء، فيكون الشيء الواحد واجبًا بنفسه غير واجب بنفسه، موجودًا معدومًا، وذلك جمع بين النقيضين.
وهذا مما يعلم به بطلان قول المشبهة الذين يقولون: بصر كبصري، أو يد كيدي ونحو ذلك، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا.
وليس المقصود هنا استيفاء ما يثبت له ولا ما ينزه عنه، واستيفاء طرق ذلك؛ لأن هذا مبسوط في غير هذا الموضع، وإنما المقصود هنا التنبيه على جوامع ذلك وطرقه.
وما سكت عنه السمع نفيًا وإثباتًا، ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه سكتنا عنه، فلا نثبته ولا ننفيه.
فنثبت ما علمنا ثبوته، وننفي ما علمنا نفيه، ونسكت عما لا نعلم نفيه ولا إثباته.
القاعدة السابعة: أن يقال: إن كثيرا مما دل عليه [السمع] يعلم [بالعقل] أيضًا والقرآن يبين ما يستدل به العقل ويرشد إليه وينبه عليه; كما ذكر الله ذلك في غير موضع.
فإنه سبحانه وتعالى: بين من الآيات الدالة عليه وعلى وحدانيته وقدرته وعلمه وغير ذلك: ما أرشد العباد إليه ودلهم عليه; كما بين أيضًا ما دل على نبوة أنبيائه; وما دل على المعاد وإمكانه.
فهذه المطالب هي شرعية من جهتين: من جهة أن الشارع أخبر بها.
ومن جهة أنه بين الأدلة العقلية التي يستدل بها عليها والأمثال المضروبة في القرآن هي [أقيسة عقلية] وقد بسط في غير هذا الموضع وهي أيضًا عقلية من جهة أنها تعلم بالعقل أيضًا وكثير من أهل الكلام يسمي هذه [الأصول العقلية] لاعتقاده أنها لا تعلم إلا بالعقل فقط فإن السمع هو مجرد إخبار الصادق وخبر الصادق الذي هو النبي لا يعلم صدقه إلا بعد العلم بهذه الأصول بالعقل ثم إنهم قد يتنازعون في الأصول التي تتوقف إثبات النبوة عليها.
[فطائفة] تزعم: أن تحسين العقل وتقبيحه داخل في هذه الأصول وأنه لا يمكن إثبات النبوة بدون ذلك ويجعلون التكذيب بالقدر مما ينفيه العقل و[طائفة] تزعم أن حدوث العالم من هذه الأصول, وأن العلم بالصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوثه وإثبات حدوثه لا يمكن إلا بحدوث الأجسام, وحدوثها يعلم إما بحدوث الصفات, وإما بحدوث الأفعال القائمة بها, فيجعلون نفي أفعال الرب, ونفي صفاته من الأصول التي لا يمكن إثبات النبوة إلا بها.
ثم هؤلاء لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على نقيض قولهم؛ لظنهم أن العقل عارض السمع وهو أصله فيجب تقديمه عليه والسمع, إما أن يؤول, وإما أن يفوض, وهم أيضًا عند التحقيق لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على وفق قولهم؛ لما تقدم وهؤلاء يضلون من وجوه:
[منها]: ظنهم أن السمع بطريق الخبر, تارة وليس الأمر كذلك؛ بل القرآن بين من الدلائل العقلية التي تعلم بها المطالب الدينية ما لا يوجد مثله في كلام أئمة النظر, فتكون هذه المطالب: شرعية عقلية.
[ومنها]: ظنهم أن الرسول لا يعلم صدقه إلا بالطريق المعينة التي سلكوها, وهم مخطئون قطعًا في انحصار طريق تصديقه فيما ذكروه فإن طرق العلم بصدق الرسول كثيرة, كما قد بسط في غير هذا الموضع.
[ومنها]: ظنهم أن تلك الطريق التي سلكوها صحيحة وقد تكون باطلة.
[ومنها]: ظنهم أن ما عارضوا به السمع معلوم بالعقل, ويكونون غالطين في ذلك؛ فإنه إذا وزن بالميزان الصحيح وجد ما يعارض الكتاب والسنة من المجهولات؛ لا من المعقولات, وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع والمقصود هنا: أن من [صفات الله تعالى] ما قد يعلم بالعقل كما يعلم أنه عالم وأنه قادر وأنه حي؛ كما أرشد إلى ذلك قوله: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } [الملك: 14].
وقد اتفق النظار من مثبتة الصفات: على أنه يعلم بالعقل عند المحققين أنه حي؛ عليم؛ قدير؛ مريد؛ وكذلك السمع؛ والبصر والكلام.
يثبت بالعقل عند المحققين بل وكذلك الحب والرضا والغضب.
يمكن إثباته بالعقل وكذلك علوه على المخلوقات ومباينته لها مما يعلم بالعقل كما أثبتته بذلك الأئمة: مثل أحمد بن حنبل وغيره.
ومثل: عبد العالي المكي وعبد الله بن سعيد بن كلاب؛ بل وكذلك إمكان الرؤية: يثبت بالعقل, لكن منهم من أثبتها بأن كل موجود تصح رؤيته ومنهم من أثبتها بأن كل قائم بنفسه يمكن رؤيته.
وهذه الطريق أصح من تلك, وقد يمكن إثبات الرؤية بغير هذين الطريقين بتقسيم دائر بين النفي والإثبات, كما يقال: إن الرؤية لا تتوقف إلا على أمور وجودية؛ فإن ما لا يتوقف إلا على أمور وجودية يكون الموجود الواجب القديم أحق به من الممكن المحدث, والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن من الطرق التي يسلكها الأئمة ومن اتبعهم من نظار السنة في هذا الباب, أنه لو لم يكن موصوفا بإحدى الصفتين المتقابلتين للزم اتصافه بالأخرى؛ فلو لم يوصف بالحياة لوصف بالموت؛ ولو لم يوصف بالقدرة لوصف بالعجز؛ ولو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام؛ لوصف بالصمم والخرس والبكم, وطرد ذلك أنه لو لم يوصف بأنه مباين للعالم لكان داخلا فيه.
فسلب إحدى الصفتين المتقابلتين عنه يستلزم ثبوت الأخرى, وتلك صفة نقص ينزه عنها الكامل من المخلوقات, فتنزيه الخالق عنها أولى.
وهذه الطريق غير قولنا إن هذه صفات كمال يتصف بها المخلوق؛ فالخالق أولى فإن طريق إثبات صفات الكمال بأنفسها, مغاير لطريق إثباتها بنفي ما يناقضها, وقد اعترض طائفة من النفاة على هذه الطريقة باعتراض مشهور لبسوا به على الناس، حتى صار كثير من أهل الإثبات يظن صحته, ويضعف الإثبات به مثل ما فعل من فعل ذلك من النظار حتى الأمادي أمسى مع أنه أصل قول القرامطة الباطنية وأمثالهم من الجهمية.
فقالوا: القول بأنه لو لم يكن متصفًا بهذه الصفات, كالسمع والبصر والكلام مع كونه حيًا: لكان متصفًا بما يقابلها فالتحقيق فيه متوقف على بيان حقيقة [المتقابلين, وبيان أقسامهما].
فنقول:
وأما المتقابلان فلا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة, وهو إما ألا يصح اجتماعهما في الصدق, ولا في الكذب, أو يصح ذلك في أحد الطرفين؛ ولأنهما متقابلان بالسلب والإيجاب وهو تقابل التناقض؛ والتناقض هو اختلاف القضيتين بالسلب والإيجاب, على وجه لا يجتمعان في الصدق ولا في الكذب لذاتيهما؛ كقولنا: زيد حيوان زيد ليس بحيوان.
ومن خاصة استحالة اجتماع طرفيه في الصدق والكذب: أنه لا واسطة بين الطرفين ولا استحالة لأحد الطرفين من جهة واحدة ولا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب؛ إذ كون الموجود واجبا بنفسه وممكنا بنفسه.
لا يجتمعان ولا يرتفعان فإذا جعلتم هذا التقسيم: وهما [النقيضان ما لا يجتمعان ولا يرتفعان].
فهذان لا يجتمعان, ولا يرتفعان, وليس هما السلب والإيجاب, فلا يصح حصر النقيضين اللذين لا يجتمعان ولا يرتفعان في السلب والإيجاب وحينئذ فقد ثبت وصفان شيئان لا يجتمعان ولا يرتفعان؛ وهو خارج عن الأقسام الأربعة على هذا فمن جعل الموت معنى وجوديا: فقد يقول إن كون الشيء لا يخلو من الحياة والموت هو من هذا الباب؛ وكذلك العلم والجهل والصمم والبكم ونحو ذلك.
[الوجه الثاني]:
أن يقال: هذا القسيم يتداخل؛ فإن العدم والملكة: يدخل في السلب والإيجاب وغايته أنه نوع منه والمتضايفان يدخلان في المتضادين إنما هما نوع منه فإن قال: أعني بالسلب والإيجاب: فلا يدخل في العدم والملكة وهو أن يسلب عن الشيء ما ليس بقابل له ولهذا جعل من خواصه أنه لا استحالة لأحد طرفيه.
إلى آخره قيل له: عن هذا جوابان: أحدهما: أن غاية هذا أن السلب ينقسم إلى نوعين: أحدهما: سلب ما يمكن اتصاف الشيء به والثاني: سلب ما لا يمكن اتصافه به.
فيقال: الأول إثبات ما يمكن اتصافه ولا يجب والثاني: إثبات ما يجب اتصافه به؛ فيكون المراد به سلب ممتنع.
وإثبات الواجب.
كقولنا زيد حيوان فإن هذا إثبات واجب, وزيد ليس بحجر؛ فإن هذا سلب ممتنع, وعلى هذا التقدير فالممكنات التي تقبل الوجود والعدم؛ كقولنا المثلث إما موجود وإما معدوم يكون من قسم العدم والملكة؛ وليس كذلك؛ فإن ذلك القسم يخلو فيه الموصوف الواحد على المتقابلين جميعًا ولا يخلو شيء من الممكنات عن الوجود والعدم.
وأيضًا فإنه على هذا التقدير فصفات الرب كلها واجبة له فإذا قيل إما أن يكون حيًا, أو عليمًا, أو سميعًا, أو بصيرًا, أو متكلمًا؛ أو لا يكون: كان مثل قولنا: إما أن يكون موجودًا؛ وإما أن لا يكون, وهذا متقابل تقابل السلب والإيجاب, فيكون الآخر مثله, وبهذا يحصل المقصود.
فإن قيل: هذا لا يصح حتى يعلم إمكان قبوله لهذه الصفات, قيل له هذا إنما اشتركا فيما أمكن أن يثبت له ويزول كالحيوان؛ فأما الرب تعالى: فإنه بتقدير ثبوتها له فهي واجبة ضرورة; فإنه لا يمكن اتصافه بها, وبعدمها باتفاق العقلاء, فإن ذلك يوجب أن يكون تارة حيًا وتارة ميتًا وتارة أصم وتارة سميعًا وهذا يوجب اتصافه بالنقائص; وذلك منتف قطعًا؛ بخلاف من نفاها وقال: إن نفيها ليس بنقص لظنه أنه لا يقبل الاتصاف بها.
فإن من قال هذا لا يمكنه أن يقول: إنه مع إمكان الاتصاف بها لا يكون نفيها نقصًا فإن فساد هذا معلوم بالضرورة.
وقيل له أيضًا: أنت في تقابل السلب والإيجاب إن اشترطت العلم بإمكان الطرفين: لم يصح أن تقول واجب الوجود; إما موجود وإما معدوم؛ والممتنع الوجود إما موجود وإما معدوم؛ لأن أحد الطرفين هنا معلوم الوجود, والآخر معلوم الامتناع, وإن اشترطت العلم بإمكان أحدهما صح أن تقول: إما أن يكون حيًا وإما ألا يكون; وإما أن يكون سميعًا بصيرًا, وإما أن لا يكون؛ لأن النفي إن كان ممكنًا صح التقسيم وإن كان ممتنعًا كان الإثبات واجبًا وحصل المقصود؛ فإن قيل: هذا يفيد أن هذا التأويل يقابل السلب والإيجاب, ونحن نسلم ذلك, كما ذكر في الاعتراض؛ لكن غايته أنه إما سميع وإما ليس بسميع, وإما بصير وإما ليس ببصير; والمنازع يختار النفي.
فيقال له: على هذا التقدير: فالمثبت واجب؛ والمسلوب ممتنع. فإما أن تكون هذه الصفات واجبة له, وإما أن تكون ممتنعة عليه, والقول بالامتناع لا وجه له؛ إذ لا دليل عليه بوجه.
بل قد يقال: نحن نعلم بالاضطرار بطلان الامتناع؛ فإنه لا يمكن أن يستدل على امتناع ذلك إلا بما يستدل به على إبطال أصل الصفات؛ وقد علم فساد ذلك, وحينئذ فيجب القول بوجوب هذه الصفات له.
واعلم أن هذا يمكن أن يجعل طريقة مستقلة في إثبات صفات الكمال له, فإنها إما واجبة له, وإما ممتنعة عليه, والثاني باطل, فتعين الأول؛ لأن كونه قابلًا لها خاليًا عنها يقتضي أن يكون ممكنًا, وذلك ممتنع في حقه, وهذه طريقة معروفة لمن سلكها من النظار.
[الجواب الثاني]:
أن يقال: فعلى هذا إذا قلنا زيد إما عاقل, وإما غير عاقل, وإما عالم وإما ليس بعالم, وإما حي وإما غير حي, وإما ناطق وإما غير ناطق، وأمثال ذلك مما فيه سلب الصفة عن محل قابل لها لم يكن هذا داخلا في قسم تقابل السلب والإيجاب, ومعلوم أن هذا خلاف المعلوم بالضرورة وخلاف اتفاق العقلاء, وخلاف ما ذكروه في المنطق وغيره, ومعلوم أن مثل هذه القضايا تتناقض بالسلب والإيجاب على وجه يلزم منه صدق إحداهما كذب الأخرى, فلا يجتمعان في الصدق والكذب, فهذه شروط التناقض موجود فيها.
وغاية فرقهم أن يقولوا إذا قلنا: هو إما بصير وإما ليس ببصير: كان إيجابًا وسلبًا وإذا قلنا: إما بصير؛ وإما أعمى: كان ملكة وعدما وهذه منازعة لفظية, وإلا فالمعنى في الموضعين سواء.
فعلم أن ذلك نوع من تقابل السلب والإيجاب وهذا يبطل قولهم في حد ذلك التقابل, أنه لا استحالة لأحد الطرفين إلى الآخر فإن الاستحالة هنا ممكنة كإمكانها إذا عبر بلفظ العمى.
[الوجه الثالث]
أن يقال: التقسيم الحاصر أن يقال: المتقابلان إما أن يختلفا بالسلب والإيجاب, وإما أن لا يختلفا بذلك؛ بل يكونان إيجابيين أو سلبيين.
فالأول هو النقيضان.
والثاني إما أن يمكن خلو المحل عنهما وإما أن لا يمكن والأول: هما الضدان كالسواد والبياض.
والثاني: هما في معنى النقيضين, وإن كانا ثبوتيين كالوجوب والإمكان والحدوث والقدم والقيام بالنفس والقيام بالغير والمباينة والمجانبة, ونحو ذلك.
ومعلوم أن الحياة والموت والصمم والبكم والسمع: ليس مما إذا خلا الموصوف عنهما وصف بوصف ثالث بينهما, كالحمرة بين السواد والبياض, فعلم أن الموصوف لا يخلو عن أحدهما, فإذا انتفي تعين الآخر.
[الوجه الرابع]:
المحل الذي لا يقبل الاتصاف بالحياة والعلم والقدرة والكلام ونحوها, أنقص من المحل الذي يقبل ذلك ويخلو عنها؛ ولهذا كان الحجر ونحوه, أنقص من الحي الأعمى, وحينئذ فإذا كان البارئ منزها عن نفي هذه الصفات؛ مع قبوله لها فتنزيهه عن امتناع قبوله لها أولى وأحرى, إذ بتقدير قبوله لها يمتنع منع المتقابلين, واتصافه بالنقائص ممتنع, فيجب اتصافه بصفات الكمال, وبتقدير عدم قبوله لا يمكن اتصافه لا بصفات الكمال، ولا بصفات النقص, وهذا أشد امتناعًا فثبت أن اتصافه بذلك ممكن, وأنه واجب له وهو المطلوب.
وهذا في غاية الحسن.
[الوجه الخامس]:
أن يقال: أنتم جعلتم تقابل العدم والملكة فيما يمكن اتصافه بثبوت, فإذا عنيتم بالإمكان الإمكان الخارجي, هو أن يعلم ثبوت ذلك في الخارج كان هذا باطلا لوجهين: -
أحدهما: أنه يلزمكم أن تكون الجامدات لا توصف بأنها لا حية ولا ميتة ولا ناطقة ولا صامتة وهو قولكم لكن هذا اصطلاح محض وألا تصفوا هذه الجمادات بالموت والصمت وقد جاء القرآن بذلك.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}.
{أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 21].
فهذا في الأصنام وهي من الجمادات, وقد وصفت بالموت, والعرب تقسم الأرض إلى الحيوان والموتان, قال أهل اللغة: الموتان بالتحريك خلاف الحيوان يقال: اشتر الموتان, ولا تشتر الحيوان, أي اشتر الأرض والدور، ولا تشتر الرقيق والدواب.
وقالوا أيضًا: الموات ما لا روح فيه, فإن قيل: فهذا إنما يسمى مواتًا باعتبار قوله [للحياة] التي هي إحياء الأرض: قيل وهذا يقتضي أن الحياة أعم من حياة الحيوان, وأن الجماد يوصف بالحياة, إذا كان قابلا للزرع والعمارة؛ والخرس ضد النطق, والعرب تقول [لبن أخرس] أي خاثر لا صوت له في الإناء, [وسحابة خرساء] ليس فيها رعد ولا برق, [وعلم أخرس] إذا لم يسمع له في الجبل صوت صدى, ويقال: [كتيبة خرساء].
قال أبو عبيدة: هي التي صمتت من كثرة الدروع ليس له فقاقع, وأبلغ من ذلك الصمت والسكوت؛ فإنه يوصف به القادر على النطق إذا تركه؛ بخلاف الخرس, فإنه عجز عن النطق.
ومع هذا فالعرب تقول: [ما له صامت ولا ناطق] فالصامت الذهب والفضة, والناطق الإبل والغنم, فالصامت من اللبن: الخاثر, والصموت: الدرع التي صمت إذا لم يسمع له صوت.
ويقولون: دابة عجماء وخرساء, لما لا تنطق, ولا يمكن منها النطق في العادة, ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك في [العمياء] تقول العرب: عمي الموج يعمي عما إذا رمى بالقذى والزبد، و[الأعميان] السيل, والجمل الهائج.
وعمي عليه الأمر إذا التبس, ومنه قوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ} [القصص: 66].
وهذه الأمثلة قد يقال في بعضها إنه عدم ما يقبل المحل الاتصاف به كالصوت؛ ولكن فيها ما لا يقبل كموت الأصنام.
الثاني: أن الجامدات يمكن اتصافها بذلك, فإن الله سبحانه قادر أن يخلق في الجمادات حياة, كما جعل عصى موسى حية تبتلع الحبال والعصي, وإذا [كان] في إمكان العادات: كان ذلك مما قد علم بالتواتر, وأنتم أيضًا قائلون به في مواضع كثيرة, وإذا كان الجمادات يمكن اتصافها بالحياة, وتوابع الحياة, ثبت أن جميع الموجودات يمكن اتصافها بذلك, فيكون الخالق أولى بهذا الإمكان, وإن عنيتم الإمكان الذهني, وهو عدم العلم بالامتناع, فهذا حاصل في حق الله, فإنه لا يعلم امتناع اتصافه بالسمع والبصر والكلام.
[الوجه السادس]:
أن يقال: هب أنه لا بد من العلم بالإمكان الخارجي, فإمكان الوصف للشيء يعلم تارة بوجوه له, أو بوجوده لنظيره, أو بوجوده لما هو الشيء أولى بذلك منه, ومعلوم أن الحياة, والعلم, والقدرة, والسمع, والبصر, والكلام، ثابت للموجودات المخلوقة, وممكن لها، فإمكانها للخالق تعالى أولى وأحرى؛ فإنها صفات كمال.
وهو قابل للاتصاف بالصفات؛ وإذا كانت ممكنة في حقه, فلو لم يتصف بها لاتصف بأضدادها.
[الوجه السابع]:
أن يقال: مجرد سلب هذه الصفات نقص لذاته, سواء سميت عمى, وصمما, وبكما, أو لم تسم.
والعلم بذلك ضروري, فأما إذا قدرنا موجودين, أحدهما يسمع ويبصر ويتكلم, والآخر ليس كذلك: كان الأول أكمل من الثاني, ولهذا عاب الله سبحانه من عبد ما تنتفي فيه هذه الصفات؛ فقال تعالى عن إبراهيم الخليل: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} [مريم: 42].
وقال أيضًا في قصته: {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء: 63] وقال تعالى عنه: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ. قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ. قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 72-ر77] وكذلك في قصة موسى في العجل: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148].
وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 76].
فقابل بين الأبكم العاجز, وبين الآمر بالعدل الذي هو على صراط مستقيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصدر الفتوى: مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الثالث (العقيدة)
كما لو وصفه مفتر عليه بالبكاء والحزن، والجوع والعطش، مع نفي التشبيه.
وكما لو قال المفترى: يأكل لا كأكل العباد، ويشرب لا كشربهم، ويبكي ويحزن لا كبكائهم ولاحزنهم،كما يقال: يضحك لا كضحكهم، ويفرح لا كفرحهم، ويتكلم لا ككلامهم، ولجاز أن يقال: له أعضاء كثيرة لا كأعضائهم، كما قيل: له وجه لا كوجوههم، ويدان لا كأيديهم.
حتى يذكر المعدة والأمعاء والذكر، وغير ذلك مما يتعالى الله عز وجل عنه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
فإنه يقال لمن نفي ذلك مع إثبات الصفات الخبرية وغيرها من الصفات: ما الفرق بين هذا وما أثبته إذا نفيت التشبيه وجعلت مجرد نفي التشبيه كافيًا في الإثبات، فلا بد من إثبات فرق في نفس الأمر.
فإن قال: العمدة في الفرق هو السمع، فما جاء به السمع أثبته دون ما لم يجئ به السمع.
قيل له أولا: السمع هو خبر الصادق عما هو الأمر عليه في نفسه، فما أخبر به الصادق فهو حق من نفي أو إثبات، والخبر دليل على المخبر عنه، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه، فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتًا في نفس الأمر، وإن لم يرد به السمع، إذا لم يكن نفاه.
ومعلوم أن السمع لم ينف هذه الأمور بأسمائها الخاصة، فلابد من ذكر ما ينفيها من السمع، وإلا فلا يجوز حينئذ نفيها كما لا يجوز إثباتها.
وأيضًا، فلابد في نفس الأمر من فرق بين ما يثبت له وينفي، فإن الأمور المتماثلة في الجواز، والوجوب، والامتناع يمتنع اختصاص بعضها دون بعض، في الجواز والوجوب والامتناع، فلابد من اختصاص المنفي عن المثبت بما يخصه بالنفي، ولابد من اختصاص الثابت عن المنفي بما يخصه بالثبوت.
وقد يعبر عن ذلك بأن يقال: لابد من أمر يوجب نفي ما يجب نفيه عن الله، كما أنه لابد من أمر يثبت له ما هو ثابت، وإن كان السمع كافيًا كان مخبرًا عما هو الأمر عليه في نفسه، فما الفرق في نفس الأمر بين هذا وهذا؟
فيقال: كلما نفي صفات الكمال الثابتة للّه فهو منزه عنه، فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر، فإذا علم أنه موجود واجب الوجود بنفسه، وأنه قديم واجب القدم، علم امتناع العدم والحدوث عليه، وعلم أنه غني عما سواه.
فالمفتقر إلى ما سواه في بعض ما يحتاج إليه لنفسه، ليس هو موجودًا بنفسه، بل بنفسه وبذلك الآخر الذي أعطاه ما تحتاج إليه نفسه فلا يوجد إلا به.
وهو سبحانه غني عن كل ما سواه، فكل ما نافي غناه فهو منزه عنه، وهو سبحانه قدير قوي، فكل ما نافي قدرته وقوته فهو منزه عنه، وهو سبحانه حي قيوم، فكل ما نافي حياته وقيوميته فهو منزه عنه.
وبالجملة، فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد، فكل ما ضاد ذلك فالسمع ينفيه، كما ينفي عنه المثل والكفؤ، فإن إثبات الشيء نفي لضده، ولما يستلزم ضده، والعقل يعرف نفي ذلك كما يعرف إثبات ضده، فإثبات أحد الضدين نفي للآخر ولما يستلزمه.
فطرق العلم بنفي ما ينزه عنه الرب متسعة، لا يحتاج فيها إلى الاقتصار على مجرد نفي التشبيه والتجسيم، كما فعله أهل القصور والتقصير، الذين تناقضوا في ذلك، وفرقوا بين المتماثلين، حتى إن كل من أثبت شيئًا احتج عليه من نفاه بأنه يستلزم التشبيه.
وكذلك احتج القرامطة على نفي جميع الأمور، حتى نفوا النفي، فقالوا: لا يقال: لا موجود ولا ليس بموجود، ولا حي ولا ليس بحي؛ لأن ذلك تشبيه بالموجود أو المعدوم فلزم نفي النقيضين، وهو أظهر الأشياء امتناعًا.
ثم إن هؤلاء يلزمهم من تشبيهه بالمعدومات، والممتنعات، والجمادات، أعظم مما فروا منه من التشبيه بالأحياء الكاملين، فطرق تنزيهه وتقديسه عما هو منزه عنه متسعة لا تحتاج إلى هذا.
وقد تقدم أن ما ينفي عنه سبحانه النفي المتضمن للإثبات، إذ مجرد النفي لا مدح فيه ولا كمال، فإن المعدوم يوصف بالنفي، والمعدوم لا يشبه الموجودًات، وليس هذا مدحًا له؛ لأن مشابهة الناقص في صفات النقص نقص مطلقًا، كما أن مماثلة المخلوق في شيء من الصفات تمثيل وتشبيه، ينزه عنه الرب تبارك وتعالى.
والنقص ضد الكمال، وذلك مثل أنه قد علم أنه حي والموت ضد ذلك، فهو منزه عنه، وكذلك النوم والسِّنَةُ ضد كمال الحياة، فإن النوم أخو الموت، كذلك اللُّغُوب نقص في القدرة والقوة، والأكل والشرب ونحو ذلك من الأمور فيه افتقار إلى موجود غيره، كما أن الاستعانة بالغير والاعتضاد به، ونحو ذلك تتضمن الافتقار إليه والاحتياج إليه.
وكل من يحتاج إلى من يحمله أو يعينه على قيام ذاته وأفعاله فهو مفتقر إليه، ليس مستغنيًا عنه بنفسه، فكيف من يأكل ويشرب، والآكل والشارب أجوف، والمصمت الصمد أكمل من الآكل والشارب.
ولهذا كانت الملائكة صمدًا لا تأكل ولا تشرب، وقد تقدم أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به، وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك، والسمع قد نفي ذلك في غير موضع، كقوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2].
والصمد الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وهذه السورة هي نسب الرحمن، أو هي الأصل في هذا الباب.
وقال في حق المسيح وأمه: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75].
فجعل ذلك دليلًا على نفي الإلوهية، فدل ذلك على تنزيهه عن ذلك بطريق الأولى والأحرى.
والكبد والطحال، ونحو ذلك، هي أعضاء الأكل والشرب، فالغني المنزه عن ذلك منزه عن آلات ذلك، بخلاف اليد فإنها للعمل والفعل، وهو سبحانه موصوف بالعمل والفعل؛ إذ ذاك من صفات الكمال، فمن يقدر أن يفعل أكمل ممن لا يقدر علي الفعل.
وهو سبحانه منزه عن الصاحبة والولد، وعن آلات ذلك وأسبابه، وكذلك البكاء والحزن، هو مستلزم الضعف والعجز، الذي ينزه عنه سبحانه، بخلاف الفرح والغضب فإنه من صفات الكمال، فكما يوصف بالقدرة دون العجز، وبالعلم دون الجهل، وبالحياة دون الموت، وبالسمع دون الصمم، وبالبصر دون العمى، وبالكلام دون البكم، فكذلك يوصف بالفرح دون الحزن، وبالضحك دون البكاء، ونحو ذلك.
وأيضًا، فقد ثبت بالعقل ما أثبته السمع، من أنه سبحانه لا كفؤ له، ولا سمي له وليس كمثله شيء، فلا يجوز أن تكون حقيقته كحقيقة شيء من المخلوقات، ولا حقيقة شيء من صفاته كحقيقة شيء من صفات المخلوقات، فيعلم قطعًا أنه ليس من جنس المخلوقات، لا الملائكة ولا السموات، ولا الكواكب ولا الهواء، ولا الماء ولا الأرض، ولا الآدميين، ولا أبدانهم، ولا أنفسهم، ولا غير ذلك، بل يعلم أن حقيقته عن مماثلات شيء من الموجودًات أبعد من سائر الحقائق، وأن مماثلته لشيء منها أبعد من مماثلة حقيقة شيء من المخلوقات لحقيقة مخلوق آخر.
فإن الحقيقتين إذا تماثلتا، جاز على كل واحدة ما يجوز على الأخرى، ووجب لها ما وجب لها، فيلزم أن يجوز على الخالق القديم الواجب بنفسه ما يجوز على المحدث المخلوق، من العدم والحاجة، وأن يثبت لهذا ما يثبت لذلك من الوجوب والفناء، فيكون الشيء الواحد واجبًا بنفسه غير واجب بنفسه، موجودًا معدومًا، وذلك جمع بين النقيضين.
وهذا مما يعلم به بطلان قول المشبهة الذين يقولون: بصر كبصري، أو يد كيدي ونحو ذلك، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا.
وليس المقصود هنا استيفاء ما يثبت له ولا ما ينزه عنه، واستيفاء طرق ذلك؛ لأن هذا مبسوط في غير هذا الموضع، وإنما المقصود هنا التنبيه على جوامع ذلك وطرقه.
وما سكت عنه السمع نفيًا وإثباتًا، ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه سكتنا عنه، فلا نثبته ولا ننفيه.
فنثبت ما علمنا ثبوته، وننفي ما علمنا نفيه، ونسكت عما لا نعلم نفيه ولا إثباته.
القاعدة السابعة: أن يقال: إن كثيرا مما دل عليه [السمع] يعلم [بالعقل] أيضًا والقرآن يبين ما يستدل به العقل ويرشد إليه وينبه عليه; كما ذكر الله ذلك في غير موضع.
فإنه سبحانه وتعالى: بين من الآيات الدالة عليه وعلى وحدانيته وقدرته وعلمه وغير ذلك: ما أرشد العباد إليه ودلهم عليه; كما بين أيضًا ما دل على نبوة أنبيائه; وما دل على المعاد وإمكانه.
فهذه المطالب هي شرعية من جهتين: من جهة أن الشارع أخبر بها.
ومن جهة أنه بين الأدلة العقلية التي يستدل بها عليها والأمثال المضروبة في القرآن هي [أقيسة عقلية] وقد بسط في غير هذا الموضع وهي أيضًا عقلية من جهة أنها تعلم بالعقل أيضًا وكثير من أهل الكلام يسمي هذه [الأصول العقلية] لاعتقاده أنها لا تعلم إلا بالعقل فقط فإن السمع هو مجرد إخبار الصادق وخبر الصادق الذي هو النبي لا يعلم صدقه إلا بعد العلم بهذه الأصول بالعقل ثم إنهم قد يتنازعون في الأصول التي تتوقف إثبات النبوة عليها.
[فطائفة] تزعم: أن تحسين العقل وتقبيحه داخل في هذه الأصول وأنه لا يمكن إثبات النبوة بدون ذلك ويجعلون التكذيب بالقدر مما ينفيه العقل و[طائفة] تزعم أن حدوث العالم من هذه الأصول, وأن العلم بالصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوثه وإثبات حدوثه لا يمكن إلا بحدوث الأجسام, وحدوثها يعلم إما بحدوث الصفات, وإما بحدوث الأفعال القائمة بها, فيجعلون نفي أفعال الرب, ونفي صفاته من الأصول التي لا يمكن إثبات النبوة إلا بها.
ثم هؤلاء لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على نقيض قولهم؛ لظنهم أن العقل عارض السمع وهو أصله فيجب تقديمه عليه والسمع, إما أن يؤول, وإما أن يفوض, وهم أيضًا عند التحقيق لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على وفق قولهم؛ لما تقدم وهؤلاء يضلون من وجوه:
[منها]: ظنهم أن السمع بطريق الخبر, تارة وليس الأمر كذلك؛ بل القرآن بين من الدلائل العقلية التي تعلم بها المطالب الدينية ما لا يوجد مثله في كلام أئمة النظر, فتكون هذه المطالب: شرعية عقلية.
[ومنها]: ظنهم أن الرسول لا يعلم صدقه إلا بالطريق المعينة التي سلكوها, وهم مخطئون قطعًا في انحصار طريق تصديقه فيما ذكروه فإن طرق العلم بصدق الرسول كثيرة, كما قد بسط في غير هذا الموضع.
[ومنها]: ظنهم أن تلك الطريق التي سلكوها صحيحة وقد تكون باطلة.
[ومنها]: ظنهم أن ما عارضوا به السمع معلوم بالعقل, ويكونون غالطين في ذلك؛ فإنه إذا وزن بالميزان الصحيح وجد ما يعارض الكتاب والسنة من المجهولات؛ لا من المعقولات, وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع والمقصود هنا: أن من [صفات الله تعالى] ما قد يعلم بالعقل كما يعلم أنه عالم وأنه قادر وأنه حي؛ كما أرشد إلى ذلك قوله: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } [الملك: 14].
وقد اتفق النظار من مثبتة الصفات: على أنه يعلم بالعقل عند المحققين أنه حي؛ عليم؛ قدير؛ مريد؛ وكذلك السمع؛ والبصر والكلام.
يثبت بالعقل عند المحققين بل وكذلك الحب والرضا والغضب.
يمكن إثباته بالعقل وكذلك علوه على المخلوقات ومباينته لها مما يعلم بالعقل كما أثبتته بذلك الأئمة: مثل أحمد بن حنبل وغيره.
ومثل: عبد العالي المكي وعبد الله بن سعيد بن كلاب؛ بل وكذلك إمكان الرؤية: يثبت بالعقل, لكن منهم من أثبتها بأن كل موجود تصح رؤيته ومنهم من أثبتها بأن كل قائم بنفسه يمكن رؤيته.
وهذه الطريق أصح من تلك, وقد يمكن إثبات الرؤية بغير هذين الطريقين بتقسيم دائر بين النفي والإثبات, كما يقال: إن الرؤية لا تتوقف إلا على أمور وجودية؛ فإن ما لا يتوقف إلا على أمور وجودية يكون الموجود الواجب القديم أحق به من الممكن المحدث, والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن من الطرق التي يسلكها الأئمة ومن اتبعهم من نظار السنة في هذا الباب, أنه لو لم يكن موصوفا بإحدى الصفتين المتقابلتين للزم اتصافه بالأخرى؛ فلو لم يوصف بالحياة لوصف بالموت؛ ولو لم يوصف بالقدرة لوصف بالعجز؛ ولو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام؛ لوصف بالصمم والخرس والبكم, وطرد ذلك أنه لو لم يوصف بأنه مباين للعالم لكان داخلا فيه.
فسلب إحدى الصفتين المتقابلتين عنه يستلزم ثبوت الأخرى, وتلك صفة نقص ينزه عنها الكامل من المخلوقات, فتنزيه الخالق عنها أولى.
وهذه الطريق غير قولنا إن هذه صفات كمال يتصف بها المخلوق؛ فالخالق أولى فإن طريق إثبات صفات الكمال بأنفسها, مغاير لطريق إثباتها بنفي ما يناقضها, وقد اعترض طائفة من النفاة على هذه الطريقة باعتراض مشهور لبسوا به على الناس، حتى صار كثير من أهل الإثبات يظن صحته, ويضعف الإثبات به مثل ما فعل من فعل ذلك من النظار حتى الأمادي أمسى مع أنه أصل قول القرامطة الباطنية وأمثالهم من الجهمية.
فقالوا: القول بأنه لو لم يكن متصفًا بهذه الصفات, كالسمع والبصر والكلام مع كونه حيًا: لكان متصفًا بما يقابلها فالتحقيق فيه متوقف على بيان حقيقة [المتقابلين, وبيان أقسامهما].
فنقول:
وأما المتقابلان فلا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة, وهو إما ألا يصح اجتماعهما في الصدق, ولا في الكذب, أو يصح ذلك في أحد الطرفين؛ ولأنهما متقابلان بالسلب والإيجاب وهو تقابل التناقض؛ والتناقض هو اختلاف القضيتين بالسلب والإيجاب, على وجه لا يجتمعان في الصدق ولا في الكذب لذاتيهما؛ كقولنا: زيد حيوان زيد ليس بحيوان.
ومن خاصة استحالة اجتماع طرفيه في الصدق والكذب: أنه لا واسطة بين الطرفين ولا استحالة لأحد الطرفين من جهة واحدة ولا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب؛ إذ كون الموجود واجبا بنفسه وممكنا بنفسه.
لا يجتمعان ولا يرتفعان فإذا جعلتم هذا التقسيم: وهما [النقيضان ما لا يجتمعان ولا يرتفعان].
فهذان لا يجتمعان, ولا يرتفعان, وليس هما السلب والإيجاب, فلا يصح حصر النقيضين اللذين لا يجتمعان ولا يرتفعان في السلب والإيجاب وحينئذ فقد ثبت وصفان شيئان لا يجتمعان ولا يرتفعان؛ وهو خارج عن الأقسام الأربعة على هذا فمن جعل الموت معنى وجوديا: فقد يقول إن كون الشيء لا يخلو من الحياة والموت هو من هذا الباب؛ وكذلك العلم والجهل والصمم والبكم ونحو ذلك.
[الوجه الثاني]:
أن يقال: هذا القسيم يتداخل؛ فإن العدم والملكة: يدخل في السلب والإيجاب وغايته أنه نوع منه والمتضايفان يدخلان في المتضادين إنما هما نوع منه فإن قال: أعني بالسلب والإيجاب: فلا يدخل في العدم والملكة وهو أن يسلب عن الشيء ما ليس بقابل له ولهذا جعل من خواصه أنه لا استحالة لأحد طرفيه.
إلى آخره قيل له: عن هذا جوابان: أحدهما: أن غاية هذا أن السلب ينقسم إلى نوعين: أحدهما: سلب ما يمكن اتصاف الشيء به والثاني: سلب ما لا يمكن اتصافه به.
فيقال: الأول إثبات ما يمكن اتصافه ولا يجب والثاني: إثبات ما يجب اتصافه به؛ فيكون المراد به سلب ممتنع.
وإثبات الواجب.
كقولنا زيد حيوان فإن هذا إثبات واجب, وزيد ليس بحجر؛ فإن هذا سلب ممتنع, وعلى هذا التقدير فالممكنات التي تقبل الوجود والعدم؛ كقولنا المثلث إما موجود وإما معدوم يكون من قسم العدم والملكة؛ وليس كذلك؛ فإن ذلك القسم يخلو فيه الموصوف الواحد على المتقابلين جميعًا ولا يخلو شيء من الممكنات عن الوجود والعدم.
وأيضًا فإنه على هذا التقدير فصفات الرب كلها واجبة له فإذا قيل إما أن يكون حيًا, أو عليمًا, أو سميعًا, أو بصيرًا, أو متكلمًا؛ أو لا يكون: كان مثل قولنا: إما أن يكون موجودًا؛ وإما أن لا يكون, وهذا متقابل تقابل السلب والإيجاب, فيكون الآخر مثله, وبهذا يحصل المقصود.
فإن قيل: هذا لا يصح حتى يعلم إمكان قبوله لهذه الصفات, قيل له هذا إنما اشتركا فيما أمكن أن يثبت له ويزول كالحيوان؛ فأما الرب تعالى: فإنه بتقدير ثبوتها له فهي واجبة ضرورة; فإنه لا يمكن اتصافه بها, وبعدمها باتفاق العقلاء, فإن ذلك يوجب أن يكون تارة حيًا وتارة ميتًا وتارة أصم وتارة سميعًا وهذا يوجب اتصافه بالنقائص; وذلك منتف قطعًا؛ بخلاف من نفاها وقال: إن نفيها ليس بنقص لظنه أنه لا يقبل الاتصاف بها.
فإن من قال هذا لا يمكنه أن يقول: إنه مع إمكان الاتصاف بها لا يكون نفيها نقصًا فإن فساد هذا معلوم بالضرورة.
وقيل له أيضًا: أنت في تقابل السلب والإيجاب إن اشترطت العلم بإمكان الطرفين: لم يصح أن تقول واجب الوجود; إما موجود وإما معدوم؛ والممتنع الوجود إما موجود وإما معدوم؛ لأن أحد الطرفين هنا معلوم الوجود, والآخر معلوم الامتناع, وإن اشترطت العلم بإمكان أحدهما صح أن تقول: إما أن يكون حيًا وإما ألا يكون; وإما أن يكون سميعًا بصيرًا, وإما أن لا يكون؛ لأن النفي إن كان ممكنًا صح التقسيم وإن كان ممتنعًا كان الإثبات واجبًا وحصل المقصود؛ فإن قيل: هذا يفيد أن هذا التأويل يقابل السلب والإيجاب, ونحن نسلم ذلك, كما ذكر في الاعتراض؛ لكن غايته أنه إما سميع وإما ليس بسميع, وإما بصير وإما ليس ببصير; والمنازع يختار النفي.
فيقال له: على هذا التقدير: فالمثبت واجب؛ والمسلوب ممتنع. فإما أن تكون هذه الصفات واجبة له, وإما أن تكون ممتنعة عليه, والقول بالامتناع لا وجه له؛ إذ لا دليل عليه بوجه.
بل قد يقال: نحن نعلم بالاضطرار بطلان الامتناع؛ فإنه لا يمكن أن يستدل على امتناع ذلك إلا بما يستدل به على إبطال أصل الصفات؛ وقد علم فساد ذلك, وحينئذ فيجب القول بوجوب هذه الصفات له.
واعلم أن هذا يمكن أن يجعل طريقة مستقلة في إثبات صفات الكمال له, فإنها إما واجبة له, وإما ممتنعة عليه, والثاني باطل, فتعين الأول؛ لأن كونه قابلًا لها خاليًا عنها يقتضي أن يكون ممكنًا, وذلك ممتنع في حقه, وهذه طريقة معروفة لمن سلكها من النظار.
[الجواب الثاني]:
أن يقال: فعلى هذا إذا قلنا زيد إما عاقل, وإما غير عاقل, وإما عالم وإما ليس بعالم, وإما حي وإما غير حي, وإما ناطق وإما غير ناطق، وأمثال ذلك مما فيه سلب الصفة عن محل قابل لها لم يكن هذا داخلا في قسم تقابل السلب والإيجاب, ومعلوم أن هذا خلاف المعلوم بالضرورة وخلاف اتفاق العقلاء, وخلاف ما ذكروه في المنطق وغيره, ومعلوم أن مثل هذه القضايا تتناقض بالسلب والإيجاب على وجه يلزم منه صدق إحداهما كذب الأخرى, فلا يجتمعان في الصدق والكذب, فهذه شروط التناقض موجود فيها.
وغاية فرقهم أن يقولوا إذا قلنا: هو إما بصير وإما ليس ببصير: كان إيجابًا وسلبًا وإذا قلنا: إما بصير؛ وإما أعمى: كان ملكة وعدما وهذه منازعة لفظية, وإلا فالمعنى في الموضعين سواء.
فعلم أن ذلك نوع من تقابل السلب والإيجاب وهذا يبطل قولهم في حد ذلك التقابل, أنه لا استحالة لأحد الطرفين إلى الآخر فإن الاستحالة هنا ممكنة كإمكانها إذا عبر بلفظ العمى.
[الوجه الثالث]
أن يقال: التقسيم الحاصر أن يقال: المتقابلان إما أن يختلفا بالسلب والإيجاب, وإما أن لا يختلفا بذلك؛ بل يكونان إيجابيين أو سلبيين.
فالأول هو النقيضان.
والثاني إما أن يمكن خلو المحل عنهما وإما أن لا يمكن والأول: هما الضدان كالسواد والبياض.
والثاني: هما في معنى النقيضين, وإن كانا ثبوتيين كالوجوب والإمكان والحدوث والقدم والقيام بالنفس والقيام بالغير والمباينة والمجانبة, ونحو ذلك.
ومعلوم أن الحياة والموت والصمم والبكم والسمع: ليس مما إذا خلا الموصوف عنهما وصف بوصف ثالث بينهما, كالحمرة بين السواد والبياض, فعلم أن الموصوف لا يخلو عن أحدهما, فإذا انتفي تعين الآخر.
[الوجه الرابع]:
المحل الذي لا يقبل الاتصاف بالحياة والعلم والقدرة والكلام ونحوها, أنقص من المحل الذي يقبل ذلك ويخلو عنها؛ ولهذا كان الحجر ونحوه, أنقص من الحي الأعمى, وحينئذ فإذا كان البارئ منزها عن نفي هذه الصفات؛ مع قبوله لها فتنزيهه عن امتناع قبوله لها أولى وأحرى, إذ بتقدير قبوله لها يمتنع منع المتقابلين, واتصافه بالنقائص ممتنع, فيجب اتصافه بصفات الكمال, وبتقدير عدم قبوله لا يمكن اتصافه لا بصفات الكمال، ولا بصفات النقص, وهذا أشد امتناعًا فثبت أن اتصافه بذلك ممكن, وأنه واجب له وهو المطلوب.
وهذا في غاية الحسن.
[الوجه الخامس]:
أن يقال: أنتم جعلتم تقابل العدم والملكة فيما يمكن اتصافه بثبوت, فإذا عنيتم بالإمكان الإمكان الخارجي, هو أن يعلم ثبوت ذلك في الخارج كان هذا باطلا لوجهين: -
أحدهما: أنه يلزمكم أن تكون الجامدات لا توصف بأنها لا حية ولا ميتة ولا ناطقة ولا صامتة وهو قولكم لكن هذا اصطلاح محض وألا تصفوا هذه الجمادات بالموت والصمت وقد جاء القرآن بذلك.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}.
{أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 21].
فهذا في الأصنام وهي من الجمادات, وقد وصفت بالموت, والعرب تقسم الأرض إلى الحيوان والموتان, قال أهل اللغة: الموتان بالتحريك خلاف الحيوان يقال: اشتر الموتان, ولا تشتر الحيوان, أي اشتر الأرض والدور، ولا تشتر الرقيق والدواب.
وقالوا أيضًا: الموات ما لا روح فيه, فإن قيل: فهذا إنما يسمى مواتًا باعتبار قوله [للحياة] التي هي إحياء الأرض: قيل وهذا يقتضي أن الحياة أعم من حياة الحيوان, وأن الجماد يوصف بالحياة, إذا كان قابلا للزرع والعمارة؛ والخرس ضد النطق, والعرب تقول [لبن أخرس] أي خاثر لا صوت له في الإناء, [وسحابة خرساء] ليس فيها رعد ولا برق, [وعلم أخرس] إذا لم يسمع له في الجبل صوت صدى, ويقال: [كتيبة خرساء].
قال أبو عبيدة: هي التي صمتت من كثرة الدروع ليس له فقاقع, وأبلغ من ذلك الصمت والسكوت؛ فإنه يوصف به القادر على النطق إذا تركه؛ بخلاف الخرس, فإنه عجز عن النطق.
ومع هذا فالعرب تقول: [ما له صامت ولا ناطق] فالصامت الذهب والفضة, والناطق الإبل والغنم, فالصامت من اللبن: الخاثر, والصموت: الدرع التي صمت إذا لم يسمع له صوت.
ويقولون: دابة عجماء وخرساء, لما لا تنطق, ولا يمكن منها النطق في العادة, ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك في [العمياء] تقول العرب: عمي الموج يعمي عما إذا رمى بالقذى والزبد، و[الأعميان] السيل, والجمل الهائج.
وعمي عليه الأمر إذا التبس, ومنه قوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ} [القصص: 66].
وهذه الأمثلة قد يقال في بعضها إنه عدم ما يقبل المحل الاتصاف به كالصوت؛ ولكن فيها ما لا يقبل كموت الأصنام.
الثاني: أن الجامدات يمكن اتصافها بذلك, فإن الله سبحانه قادر أن يخلق في الجمادات حياة, كما جعل عصى موسى حية تبتلع الحبال والعصي, وإذا [كان] في إمكان العادات: كان ذلك مما قد علم بالتواتر, وأنتم أيضًا قائلون به في مواضع كثيرة, وإذا كان الجمادات يمكن اتصافها بالحياة, وتوابع الحياة, ثبت أن جميع الموجودات يمكن اتصافها بذلك, فيكون الخالق أولى بهذا الإمكان, وإن عنيتم الإمكان الذهني, وهو عدم العلم بالامتناع, فهذا حاصل في حق الله, فإنه لا يعلم امتناع اتصافه بالسمع والبصر والكلام.
[الوجه السادس]:
أن يقال: هب أنه لا بد من العلم بالإمكان الخارجي, فإمكان الوصف للشيء يعلم تارة بوجوه له, أو بوجوده لنظيره, أو بوجوده لما هو الشيء أولى بذلك منه, ومعلوم أن الحياة, والعلم, والقدرة, والسمع, والبصر, والكلام، ثابت للموجودات المخلوقة, وممكن لها، فإمكانها للخالق تعالى أولى وأحرى؛ فإنها صفات كمال.
وهو قابل للاتصاف بالصفات؛ وإذا كانت ممكنة في حقه, فلو لم يتصف بها لاتصف بأضدادها.
[الوجه السابع]:
أن يقال: مجرد سلب هذه الصفات نقص لذاته, سواء سميت عمى, وصمما, وبكما, أو لم تسم.
والعلم بذلك ضروري, فأما إذا قدرنا موجودين, أحدهما يسمع ويبصر ويتكلم, والآخر ليس كذلك: كان الأول أكمل من الثاني, ولهذا عاب الله سبحانه من عبد ما تنتفي فيه هذه الصفات؛ فقال تعالى عن إبراهيم الخليل: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} [مريم: 42].
وقال أيضًا في قصته: {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء: 63] وقال تعالى عنه: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ. قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ. قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 72-ر77] وكذلك في قصة موسى في العجل: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148].
وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 76].
فقابل بين الأبكم العاجز, وبين الآمر بالعدل الذي هو على صراط مستقيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصدر الفتوى: مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الثالث (العقيدة)
- التصنيف: