حكم من يقول: ليس في القرآن ولا السنة ما يبيح الرق
يقول بعض العلماء: إن القرآن ليس فيه ما يبيح الرِّق، والسنة النبوية لم يكن فيها ما يبيح الرِّق، وأنَّه لو استرق محمد صلى الله عليه وسلم وأنشأ رِقّاً في حرب أو غير حرب لاتُّخذ عمله سنة باقية، وما جاز لأحد أن يُلغي الرِّق مِن بعده، فهل هذا الكلام صحيح ؟ ولماذا وُجد الرِّق في عهد الصحابة، والصحابة هم الذين شاهدوا وأدركوا معاني النبوة؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد: فإنكار وجود الرق جهلٌ واضح بالكتاب والسنة، ومنشأ هذا القول هو الفرار من التهم الباطلة التي يلصقها الكفارُ وأذنابهم بالإسلام، وليس الإسلامُ موضوعاً في قفصِ الاتهام حتى ندافع عنه بإنكار الثابت ثبوتاً قطعياً، ولو تأملتَ كتاب العتق في كتب الفقه لعرفت مدى عناية الإسلام بالرقيق عنايةً يتمنى معها كثيرٌ من الأحرار في زماننا أن لو كانوا رقيقاً في عصور الإسلام الزاهرة، ولسنا بصددِ تقريرِ هذا المعنى الآن وإنما نحب أن نبين أن دلائل مشروعية الرق كثيرةٌ كتاباً وسنة، واتفق على جوازه المسلمون عبر العصور، قال تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6]، ومُلكُ اليمين هو الرقيق بلا نزاع، وأمرَ تعالى بتحريرِ الرقبة في كفارة قتل الخطأ والظهار واليمين. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92].
وقال تعالى في كفارة الظهار: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 3].
وقال في كفارة اليمين: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89].
فلو لم يكن الرق موجودا لما ساغ مثل هذا الأمر، وفي سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم- ما يفيدُ وقوع الاسترقاق منه مرات ، فقد استرقَّ النساء والذرية من بني قريظة بحكمِ الله الذي أجراه علي لسانِ سعد بن معاذ رضي الله عنه، واسترقَّ من يهودِ خيبر ومن هذا السبي كانت أم المؤمنين صفية فأعتقها النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجها، ومن سبي بني المصطلق كانت أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها، في وقائع كثيرةٍ يَصعبُ حصرها ثبت فيها وقوعِ الاسترقاق منه صلى الله عليه وسلم، وبه تعلم سبب وجود الرق في زمن الصحابة وأنه امتدادٌ طبيعيٌ لما تقررت مشروعيته في عهد النبوة.
ثم اعلم أن باب الاسترقاق هو الجهادُ في سبيل الله فإن الكفار لما أبوا أن يدخلوا في الإسلام ويقروا بالعبودية لله أذلهمُ الله بأن جعلهم عبيداً لعبيده، ثم إن الاسترقاق كان عملاً جارياً منتشرا بين جميع أمم الأرض حتى الأعصار القريبة، فلماذا يكونُ مستنكراً في حقِ دينِ الإسلام وسُبةً في جبين المسلمين دون غيرهم؟، ولا توجد أمةٌ من الأمم عرفت للرقيقِ حقهم واعتنت بآدميتهم كأمة الإسلام، وقد رغّب الشرعُ في عتق الرقاب فجعله كفارةً لكثير من الذنوب ورتب عليه أجراً عظيماً إذا تطوع العبد به، ورغب النبي صلى الله عليه وسلم في الإحسان إلى المملوكين، وأن يُطعمهم السيد من طعامه وألا يُكلفوا من العمل مالا يطيقون، فهل رأيت هذا قط لأمةٍ من الأمم أو شريعةٍ من الشرائع.
والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: