خلاف الفقهاء والمحدثين في الصحابي والأخذ بآثار الصحابة

منذ 2014-12-29
السؤال:

السَّلام عليْكم ورحمة الله وبركاته،
كيف يُواجه طالب العِلْم خِلاف الفُقهاء والمحدِّثين في الصَّحابي، وكيفيَّة توجيهِه في الأخذ بأقْوال الصَّحابة كأدلَّة شرعيَّة، ومدى قوَّتِها بِجانب باقي الأدلَّة؟

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقدِ اتَّفق عُلماء المسلمين على أنَّ جَميع الصَّحابة عُدول، وأنَّ الله قد عصمَهم مِن الكذِب على رسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لأنَّ الله - تعالى - قد عدَّلهم؛ قال الغزالي في "المستصْفى":

"والَّذي عليه سلَف الأمَّة وجماهير الخلف: أنَّ عدالتهم معلومةٌ بتعْديل الله - عزَّ وجلَّ – إيَّاهم، وثنائِه عليْهِم في كتابه، فهو معتَقَدُنا فيهم؛ إلاَّ أن يثبتَ بطريقٍ قاطعٍ ارْتِكاب واحدٍ لفِسْق مع علمِه به، وذلك ممَّا لا يثبُت، فلا حاجة لهم إلى التَّعديل؛ قال الله - تعالى -: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، وهو خطاب مع الموجودين في ذلك العصر.

وقال تعالى: {
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]، وقال - عزَّ وجلَّ -: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ} [التوبة: 100]، وقد ذكر الله - تعالى - المُهاجرين والأنصارَ في عدَّة مواضعَ، وأحسنَ الثَّناء عليهم، وقال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «خيرُ النَّاس قرْنِي ثمَّ الَّذين يلونَهم»، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لو أنفق أحدُكُم مِلْءَ الأرْضِ ذهبًا، ما بلغ مُدَّ أحدِهِم ولا نَصيفَه»، وقال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -:«إنَّ الله اختارَ لي أصحابًا وأصْهارًا وأنصارًا»". اهـ.

أمَّا كون قول الصَّحابي حجَّةً في الشَّريعة، فقد ذهبَ أكثَرُ أهْل العِلْم إلى أنَّ قول الصَّحابي، الَّذي يُضاف إلى زمَن النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - مثل: "كنا نفعل كذا وكذا في حياة الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم" - إلى أنَّه حجَّة؛ لأنَّه يعْتَبر سنَّة عن الرَّسول - عليْه السَّلام - رواها عنه الصَّحابي، ولأنَّه محمولٌ على أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - رآهم وأقرَّهم.

وكذلك الحال في قوْلِ الصَّحابي، الَّذي لا مَجال للرَّأي ولِلاجتِهاد فيه، فهو حجَّة، فتكون معرفتُه عن طريق الرَّسول - عليْه السَّلام - كثواب الأعْمال، والأمور الغيبيَّة، والكلام في الجنَّة والنَّار، وعذاب القَبر ونعيمِه، والبعث والنُّشور والحشر، وصِفات الملائِكة؛ إلاَّ أن يكونَ الصَّحابي مشهورًا بالأخْذِ عن أهْل الكِتاب؛ كعبدالله بن عمرو بن العاص.

وكذلك قول الصَّحابي الَّذي اشتهر، ولَم يُعْرَف له خلاف بين الصَّحابة - حُجَّة؛ وإجْماع سكوتي؛ لأنَّ عدم مخالفة أحدٍ له، مع وجود الداعي وهو قوَّة الوازِع الدِّيني، وعدم المانع وهو أنهم لا يخشون في الله لومة لائم - دليلٌ على إقرارِهم لِهذا القول.

وقد ذهَبَ إلى حجِّيَّة قول الصَّحابي: الحنفيَّة، والمالكيَّة، والشَّافعي في القَديم، وأحْمد بن حنبل، وهو مقدَّم عندهم على القِياس، واحتجُّوا:
1- بقوله تَعالى، مخاطبًا أصْحاب النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: {
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]، وأُجيبَ بأنَّ الآية الكريمة أفادت عصْمة إجماعهم.

2- قال الله - تعالى -: {
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، فإنَّ الله - سُبحانَه وتعالى - مدح الَّذين اتَّبعوهم، فكان اتِّباعهم في هدْيِهم أمرًا يتوجَّب المدح، وليس أخْذ كلامِهِم على أنَّه حجَّة إلاَّ نوعًا من الاتِّباع.  

3- - وأما ما روى عنه - صلَّى الله عليْه وسلَّم – أنه قال:
«أصْحابي كالنُّجوم، بأيِّهِم اقتديتُم اهتديتم»، فهو حديث موضوع.

وذهب إلى عدَم حجِّيَّة قوْل الصَّحابي: الشَّافعي في الجديد، وأحمدُ بنُ حنبل في إحدى الرِّوايتَين عنه، والكرْخي، واحتجُّوا:
1- بقولِه تعالى: {
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، فقد دلَّت الآيةُ على أنَّه عند الاختِلاف في حُكْمِ الحادثة، يَجب الرُّجوع في ذلك إلى اللهِ ورسولِه، ولم تذْكُر الآية الرُّجوع إلى قوْل الصَّحابة.

2- إنَّ قول الصَّحابي يَحتمل الصَّواب والخطأ، ومَن كان هذا شأنَه، لا يكونُ حجَّة في دين الله.

3- إنَّ الثَّابت عند الصَّحابة أنَّهم اختلفوا في أحْكامٍ كثيرة، فلوْ كان الصَّحابي حجَّة، لتناقضت الحُجَج.

قال في
"المستصفى": "وقد ذهب قومٌ إلى أنَّ مذْهب الصَّحابيِّ حجَّة مطلقًا، وقومٌ إلى أنَّه حجَّة إن خالف القياس، وقومٌ إلى أنَّ الحجَّة في قول أبي بكرٍ وعُمر خاصَّة؛ لقولِه - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «اقتدُوا باللَّذينِ من بعدي»، وقوم إلى أنَّ الحجَّة في قول الخُلفاء الرَّاشدين إذا اتَّفقوا، والكلُّ باطلٌ عندنا؛ فإنَّ مَن يَجوزُ عليْه الغلط والسَّهو، ولَم تثبُتْ عِصْمَتُه عنْه، فلا حجَّة في قوله، فكيف يُحتجُّ بقولِهِم مع جواز الخطأ؟!

وكيف تُدَّعى عصمتُهم من غير حجَّة متواترة؟! وكيف يتصوَّر عصمة قوْمٍ يَجوز عليْهِم الاختِلاف؟! وكيف يَختلِف المعصومانِ؟! كيف وقد اتَّفقت الصَّحابة على جواز مُخالفة الصحابة؟! فلم يُنْكِر أبو بكر وعُمر على مَن خالَفَهما بالاجتهاد؛ بل أوْجبوا في مسائلِ الاجتِهاد على كلِّ مجتهدٍ أن يتبع اجتهاد نفسه، فانتِفاء الدَّليل على العِصْمة، ووقوع الاختِلاف بينهم، وتصريحهم بِجواز مخالفتِهم - فيه ثلاثة أدلَّة قاطعة". اهـ.

هذا؛ ولا شكَّ أنَّ قول الصَّحابيِّ واجتهادَه مقدَّم على قول غيرِه واجتهادِه، من التَّابعين فمن بعدهم؛ لقُرْبِهم وملازمتِهم للنَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ومعرِفتهم بِأَحوالِه وأخْذِهم عنْه؛ ومن ثَمَّ فقُدْرَتهم على تفْسِيرهم للنُّصوص أكبر مِنْ غيرِهم.

قال الزَّركشي في
"البحر المحيط": وإنَّما الخلاف المشهور في أنَّه هل هو حجَّة على التَّابعين ومَن بعدهم من المجتهِدين؟ وفيه أقوال:
الأوَّل: أنَّه ليس بحجَّة مطلقًا، كغيره من المجتهِدين، وهو قوْل الشَّافعي في الجديد، وإليْه ذهب جُمهور الأصوليِّين من أصحابِنا والمعتزلة، ويومئ إليه الإمام أحمد، واختاره أبو الخطَّاب من أصحابه.

وزعم عبدالوهَّاب: أنَّه الصَّحيح الذي يقتضيه مذهب مالك؛ لأنَّه نصَّ على وجوب الاجتِهاد، واتِّباع ما يؤدِّي إليه صحيحُ النَّظر، فقال: وليس في اختِلاف الصَّحابة سعة، إنَّما هو خطأ أو صواب.


الثاني: أنَّه حجَّة شرعيَّة مقدَّمة على القياس، وهو قوله في القديم.

ونُقل عن مالك وأكثر الحنفيَّة.

قال صاحب
"التقويم": "قال أبو سعيد البردعي: تقْليد الصَّحابة واجب، يترك بقوله القياس، وعليْه أدركْنا مشايخَنا".

قال الصنعاني في "بغية الآمل":
 

أَمَّا الصَّحَابِيُّ فَعِنْدَ الجِلَّهْ        مَذْهَبُهُ لَيْسَ  مِنَ  الأَدِلَّهْ
وَكالنُّجُومِ يَقْبَلُ  التَّأْوِيلا        لَوْ صَحَّ فِي إِسْنَادِهِ لَقِيلا

قال الشيخ العثيمين: "حجيَّة قول الصَّحابي، وبيان الخلاف فيه، وأنَّ القول الصحيح هو أنه حجَّة بثلاثة شروط:
1- أن يكون الصحابي من فقهاء الصحابة.
2- ألاَّ يخالف نصًّا.
3- ألاَّ يُخالف قولَ صحابيٍّ آخَر.

هذا؛ والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 0
  • 1
  • 14,035

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً