من غلبته الوساوس حتى ترك الصلاة

منذ 2015-02-26
السؤال:

بسم الله الرحمن الرحيم

يا شيخ، أنا من عائلةٍ عانتْ ما عانت من التفكُّك الأسري بِشكلٍ لا يَحتمِلُه العقل، ولا تستوْعِبُه الجبال لثقَلِه، المهمُّ أني في البيت بعد قرابة التَّاسعة عشر من عمري اتَّجهت إلى الصَّلاة - والحمد لله - فالتزمتُ التزام المساجِد الرَّائعة حتَّى إني في خلال أشهر قليلة أصبحت أدعو أصدقائي إلى الخير والصَّلاة.

لكن ظروف بيتِنا التَّعيسة حالت دون إكْمال مسيرتِي، وبدأتُ بالتَّقاعُس عن المسجِد، وأنا بين رجوع إلى المسجِد وإخفاق، وصعود إيماني وانتكاسة، واستمرار وانقطاع، وهكذا.

حتَّى استفحلتِ المسألة وأصبحتُ بسبب ظرفي القاسي تاركًا للصَّلاة، وقمتُ بتأخيرها وقضائها فيما بعد؛ لكنِ استمرَّت الظُّروف المؤلمة حتَّى تركت الصَّلاة نهائيًّا، ثمَّ رجعتُ بانطلاق شديد فرجعْتُ أصلِّي، فدخلتُ الكليَّة، ومع رغْم الاختلاط الموجود في كليَّات العِراق بقيت محافظًا على ديني، واستمْتَعتُ بإيماني حتَّى تلاشتِ القوَّة الإيمانيَّة، وعُدت تاركًا للصَّلاة وجاهِزًا للمنكرات، ومن صعود إيماني والتزام إسلامي إلى هبوط ساقط وقبيح، وهكذا.

الأدْهى والأمرُّ هو أنِّي بعد فترات عند سماع القرآن أتلفَّظ في قلبي بكلِمات قبيحة جدًّا جدًّا جدًّا، حتَّى تطوَّرت المسألة وقُمْتُ أستضْعِف الآيات القُرآنيَّة وأُكَذِّبها وأكفر في قلبي فقط؛ لكن مع عدم رضاي عن هذِه القضيَّة الَّتي يندى لها الجبين، وعند قراءة القرآن أو سماعه أتكلَّم عن الله بأمور حسَّاسة.

وأصبح الشَّك بذات الله مُسَيْطرًا عليَّ حتَّى كرِهْتُ سماع القُران، ومع كل هذا ازدادت هُمومي وكثُرت دُيوني، وازددتُ بعدًا عن الله، حتَّى نفسي نسيتها، وكثرت مصائبي ومتاعبي، حتىَّ اكتشفتُ من خِلال قراءتي للقُرآن أني (أُفتن في كلِّ عامٍ مرَّة أو مرَّتين) وللأسف الشَّديد جدًّا جدًّا جدًّا جدًّا.

إن آيات المُنافِقِين تنطبِق عليَّ في كثيرٍ من الأحْوال، لكنِّي لم أستسلِم؛ بل دائمًا أدْعو الله - عزَّ وجلَّ - أن يهديَني لصِراطِه المستقيم.

فكنتُ أسعى جاهدًا في الدُّعاء، حتَّى إنِّي أظلُّ للصَّباح الباكر أدعو الله وأناجيه أن يُخَلِّصني من الشَّكِّ في جلالِه العظيم، وأن يهديني للصَّلاة؛ لكن لا أعلم هل الله - سبحانه - لا يُريد أن يهْديني، لا أعرف.

مع العلم أنا أحب أن أعمل الخير للآخَرين دائمًا، ويرتاح بالي حين أخدم كلَّ واحد يأْتي يريد المساعدة، وتذرف دموعي على أي حالة إنسانيَّة، وقلبي من النَّوع الذي يرْضى ويُسامح، حتَّى مع أعدائي وأنا أفتخِر أنِّي طيِّب القلْب؛ لكن هذا لا ينفع بدون رِضا الله - عزَّ وجلَّ.

وأنا الآن أعمل على سماع القرآن لينظُر الله لي بعيْنِ الرَّحمة، ويلتفِت بِرحْمته الواسِعة لكي أعالج عقيدتي الفاسدة للأسف، بكلامِه العظيم العظيم العظيم.

أريد تغْيير حياتي من الِجْذر أرْجوكم ساعدوني.

أريد أن أؤمن بالله على مراد الله، وعلمه، وحكمته، وليْس على هواي وعِلْمي المَحْدود والفاسد.

هل هُناك توْبة من خلال الاعتِقاد الفاسِد الَّذي رافَقني سنينَ طويلة؟

وما هو الحلُّ الشَّافي لِهذه الحالة؟

وهل أستطيع أن أصلِّي وأستمر وأستمر وأستمر؟

أريد بحقٍّ أن يلتفِت لي الله - عزَّ وجلَّ - وأن يُسامِحَني، وأريد أن أمارِس حياةً جديدةً قريبةً من الله، وبعيدة عن الكُفْر.

أريد ردًّا مُقنعًا وعلميًّا حتَّى وإن كان جارحًا، أنقذوني، أنقذوني.

أنقذوني، أنقذوني، أنقذوني قبل أن يُوافيَنِي أجلي وأنا على هذِه الحال.

والسَّلام عليْكم ورحْمة الله وبركاتُه.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإن ما ينتابُك عند سماع القُرآن، فهو وسوسة من الشَّيطان يُلقيها في قلبك ليفسد عليْك دينك، ويصْرِفَك عن الحقِّ، وقد جرى هذا للصَّحابة - رضْوان الله عليْهِم - فعن أبِي هُرَيْرة - رضِي الله عنْه - قال: جاء أُنَاس من أصْحاب رسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إلى النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم – فسألوه فقالوا: إنَّا نَجد في أنفُسِنا ما يتعاظَم أحدُنا أن يتكلَّم به، فقال: «أوقد وجدتُموه؟»، قالوا: نعم، قال: «ذاك صريح الإيمان»؛ رواه مسلم.

وفي الصَّحيحَين عنْه أيضًا: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: «يأتي الشَّيطانُ أحدَكم فيقول: مَن خلق كذا؟ مَن خلق كذا؟ حتَّى يقول: من خلق ربَّك؟! فإذا بلغه، فلْيستعِذْ بالله ولينتَهِ».

وعنِ ابن عبَّاس - رضِي الله عنْهُما -: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - جاءَه رجلٌ، فقال: إنِّي أحدِّث نفْسي بالشَّيء لأَنْ أَكونَ حُمَمةً (أي: فحمًا) أحبُّ إليَّ مِن أن أتكلَّم به، فقال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «الحمد لله الَّذِي ردَّ أمرَه إلى الوسوسة»؛ رواه أبو داود.

قال ابن الجوزي في كتاب "تلبيس إبليس": "ومن ذلك أنَّ الشَّيطان يأْتِي إلى العاميِّ، فيحمله على التفكُّر في ذات الله وصفاته فيتشكَّك، وقد أخبر رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عن ذلك فيما رواه أبو هُرَيْرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -: «تسألون حتَّى تقولوا: هذا اللهُ خلَقَنا، فمن خلق الله؟»، قال أبو هُرَيْرة: فوالله إني لجالسٌ يومًا إذْ قال رجلٌ من أهْل العِراق: هذا الله خلَقَنا، فمن خلق الله؟ قال أبو هريرة: فجعلتُ أصبعي في أُذُني، ثمَّ صِحْتُ: صدق رسولُ الله، الله الواحد الأحَد الصَّمد، لم يلد ولم يُولد ولَم يكن له كفوًا أحد". اهـ.

وحتَّى يزول ما في قلبِك من وساوس، فلابدَّ ألاَّ تستَرْسِل معها؛ بل يَجب كفُّ نفسِك عنْها، واعْلم أنَّ مدافعة هذه الخواطِر والوساوس وكراهِيَتها دليلٌ على قوَّة الإيمان؛ فالشَّيطان إذا رأى مِن الإنسان إقبالاً على الحقِّ، صرَفه عنْه بكلِّ ما يستطيع، وإذا كان مُعْرِضًا، فقد كُفِي المؤونة، فلا يأْتِي إليه، ولا تدخُل عليه الوساوس؛ ولهذا قيل لابْنِ عبَّاس: إنَّ اليهود يقولون: نحنُ لا نوسوس في صلاتِنا، والمسلِمون يوسوسون، فقال: "صدقوا، لا يُوَسْوسون في صلاتِهم؛ وما يصْنع الشَّيطان بقلبٍ خرب؟!".

قال شيخ الإسلام: "والوَسْواسُ يَعْرِضُ لِكُلِّ مَنْ تَوَجَّهَ إلى اللَّهِ - تَعالى - بِذِكْر أوْ غَيْرِه، لا بُدَّ لَهُ مِن ذلِكَ، فيَنْبَغِي للعَبْدِ أنْ يَثْبُتَ ويَصْبِرَ، ويُلازِمَ ما هُوَ فِيه مِن الذِّكْرِ والصَّلاة، وَلا يَضْجَر؛ فإنَّهُ بِمُلازَمةِ ذَلِكَ يَنْصَرِفُ عَنْهُ كَيْدُ الشَّيْطانِ؛ {إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]، وكُلَّما أرادَ العَبْدُ تَوَجُّهًا إلى اللَّه - تَعالى – بِقَلبِه، جاءَ مِن الوَسْواسِ أُمورٌ أخْرى، فإنَّ الشَّيْطانَ بِمَنْزِلَةِ قاطعِ الطَّريقِ، كُلَّما أرادَ العَبْدُ يَسِيرُ إلى اللَّهِ - تَعالى - أرادَ قَطْعَ الطَّريقِ عليْهِ؛ ولِهَذا قِيلَ لِبَعْضِ السَّلَفِ: إنَّ اليَهُودَ والنَّصارى يَقُولونَ: لا نُوَسْوَسُ، فقالَ: صَدَقُوا؛ وما يَصْنَعُ الشَّيْطانُ بِالبَيْتِ الخَراب؟!". اهـ.

وقال - رحمه الله -: "والمُؤْمِنُ يُبْتَلى بِوَساوِسِ الشَّيْطانِ، وبِوَساوِسِ الكُفْرِ الَّتِي يَضِيقُ بِها صَدْرُه؛ كَما قالَتِ الصَّحابَةُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أحَدَنا لَيَجِدُ فِي نَفْسِه ما لأَنْ يَخِرَّ مِن السَّماءِ إلى الأرْضِ أحَبُّ إلَيْهِ مِن أنْ يتَكَلَّمَ بِه، فقال: «ذاكَ صَرِيحُ الإِيمانِ»، وفي رِوايَةٍ: ما يَتَعاظَمُ أنْ يتَكَلَّمَ بِه، قال: «الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلى الوَسْوَسَةِ»؛ أيْ: حُصُول هَذا الوَسْواسِ مَع هَذِه الكَراهَةِ العَظِيمَةِ لَهُ ودَفْعه عَن القَلبِ هُوَ مِنْ صَرِيحِ الإِيمانِ؛ كالمُجاهِدِ الَّذِي جاءَهُ العَدُوُّ فدافَعَهُ حَتّى غَلبَهُ، فَهَذا أعْظَمُ الجِهادِ، و"الصَّرِيحُ" الخالِصُ كاللَّبنِ الصَّرِيحِ، وإنَّما صارَ صَرِيحًا لَمَّا كَرِهُوا تِلكَ الوَساوِسَ الشَّيْطانِيَّةَ، ودَفَعُوها، فخَلَصَ الإيمانُ فَصارَ صَرِيحًا، ولا بُدَّ لِعامَّةِ الخَلقِ مِنْ هَذِه الوَساوِسِ، فَمِن النّاسِ مَن يُجِيبُها فيَصِيرُ كافِرًا أوْ مُنافِقًا، ومِنْهُم مَن قَد غَمَرَ قَلبَهُ الشَّهَواتُ والذُّنُوبُ، فلا يُحِسُّ بِها إلاَّ إذا طَلَبَ الدِّينَ، فإمَّا أنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا، وإمّا أنْ يَصِيرَ مُنافِقًا". اهـ.

ولمزيدٍ من البيان حوْل حكم الوساوس وكيفيَّة التخلُّص منها؛ راجع الفتويين: "الوسواس القَهْري"،

 "ما ينبغي فعله حيال وساوس الشيطان في العقيدة"، لسماحة الشيخ عبدالله بن جبرين.

فالواجب عليك الآن هو اتِّباع النَّصائح المذكورة في الفتاوى المحال عليها؛ لكي تتخلَّص من الوسواس، مع كثرة تلاوة القُرآن الكريم بتدبُّر وخشوع، والاستِماع إليه، والتمعُّن في آيات الله - عزَّ وجلَّ - كما يجب عليك أن تتوبَ إلى الله توبة نصوحًا، وقد وعد الله - عزَّ وجلَّ - بقبول توبة مَن أناب إليْه؛ فقال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82].

وقال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 17].

قال ابن تيمية في "مختصر الفتاوى المصريَّة": "وأمَّا التَّوبة النَّصوح، فقد قال عمر بن الخطَّاب وغيره من السلف: هو أن يتوب ثمَّ لا يعود، ومَن تاب ثمَّ عاد، فعليه أن يتوب مرَّة ثانية، ثمَّ إن عاد فعليه أن يتوب، وكذلك كلَّما أذنب، ولا ييئس من رَوْح الله، وإن لم تكن التوبة نصوحًا، فلعلَّه إذا عاد إلى التَّوبة مرَّة بعد مرَّة، منَّ الله عليْه في آخِر الأمر بتوبة نصوح، والتَّائب إذا كانت نيَّته خالصة محْضة، لم يشُبْها قصدٌ آخَر؛ فإنَّه لا يعود إلى الذَّنب، فإنَّه إنَّما يعود لبقايا غشٍّ كانت في نفسِه.

والاستِقْراء يدلُّ على أنَّه إذا خلص الإيمان إلى القلْب لَم يرْجِع عنْه؛ ولكن قد يحصل له اضطِراب، ويلقي الشَّيطان في قلبِه وساوسَ وخطراتٍ، ويوجِد فيه همًّا، وأمثال ذلك؛ كما شكا أصحاب رسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فقالوا: إنَّ أحدنا ليجِد في نفسه ما لأَنْ يَحترِق حتَّى يصيرَ حممة، أو يخرَّ من السَّماء - أحبُّ إليْه من أن يتكلَّم به، فقال: «أو قدْ وجدتُموه؟»، فقالوا: نعم، فقال: «ذلك صريح الإيمان»، وقال: «الحمد لله الذي ردَّ كيْدَه إلى الوسوسة»؛ والحديث في مسلم.

فكراهة هذه الوساوس هي صريحُ الإيمان، والتَّائب في نفسه مع الهمِّ والوساوس والميْل مع كراهتِه لذلك، ويقول قلبُه ما لا يُخْرِجه ذلك عن كوْنِه توبةً نصوحًا، قال الإمام أحْمد: الهمُّ همَّان: همُّ خطرات وهمُّ إصْرار". اهـ. مختصرًا.

وقدْ سبقَ بيانُ حُكْم تارك الصَّلاة، في الفتويين: "حكم قضاء الصلاة التي تُركت عمدًا"، "غير منتظم في صلاتي"، فليُراجعَا.

ولِلمزيد؛ راجع الفتويين: "كيفية التوبة وشروطها"، "التوبة التي يرضاها الله"، والاستِشارتَين: "الهداية"، "التوبة"،،

والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 20
  • 22
  • 184,285

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً