هل تتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان؟
عبد المحسن بن عبد الله الزامل
- التصنيفات: الفقه وأصوله -
هل الفتوى تتغير باختلاف الزمان والمكان؟
الفتوى لا تتغير باختلاف الزمان والمكان، لكن الذي يتغير مسائل خاصة، أما الفتوى، بمعنى أنه يتكلم بما جاء في الكتاب والسنة، فهذا لا يتغير، لكن الفتوى في بعض المسائل مما يتغير بحسب حال الرجل في بلده، وعادته، يعني من أمور الأعراف والعادات، الذي تتغير الفتوى فيه هو ما كان من أمور الأعراف والعادات، هذا تتغير فيه الفتوى (1).
الحكم واحد لا يتغير، لكن تتغير فتوى من جهة أن هذا اصطلاحه كذا، وذاك اصطلاحه كذا، عادات الناس وأعرافهم في البيع والشراء، وأمور النكاح، هذه تختلف من بلد إلى بلد، فقد يكون هذا اللفظ عند قوم يدل على عقد النكاح، وعند قوم لا يدل على عقد النكاح، وهذا اللفظ يكون عند قوم يدل على الهبة والعطية، وعند قوم يدل على البيع.
وكذلك مما يتغير أيضا مسألة الحرز، الحرز في السرقة يختلف، كما ينص العلماء على ذلك، حد السرقة لا يتغير ثابت، فالدين قد كما قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. فتم الدين، وكملت النعمة ولله الحمد، واستقرت الشريعة، فالعام عام، والخاص خاص، والمطلق مطلق، والمقيد مقيد، والمنسوخ منسوخ، والناسخ ناسخ.
الشريعة ثابتة، وهذا بإجماع من أهل العلم، بل بإجماع المسلمين، إلا الأمور التي يختلف فيها، هذا باختلاف أهل العلم، لكن القصد أن العمومات والخصوص والإطلاق وكذلك أحكام الشريعة مستقرة، لا يمكن أن ينسخ شيء، ولا يمكن أن يخصص شيء، ولا يقيد شيء، انتهى كل شيء.
الإجماع هو كما قال أهل العلم هو دليل على الدليل، الإجماع المقطوع به، دليل على أن في المسألة دليلًا، سواء كان دليل نص، أو دليل ظاهر، أو معنى من معاني القياس صحيح، لا خلاف فيه بين أهل العلم، فهو كالنص.
أما الذي يختلف بحسب الزمان والمكان كما نبه عليه ابن القيم (2) رحمه الله، والشاطبي (3) وجماعه، وشيخ الإسلام كذلك قبل ذلك (4)، مسألة الأعراف والعادات، هذه دخلت تحت قاعدة العادة، ولهذا قال العلماء محَكمة، أو محكِمة، بمعنى أنه يرجع إلى عادات الناس.
مثل عاداتهم في العقود، والشروط التي تجري بينهم، يختلف من بلد إلى بلد، مثل السمسرة مثلا في بلد بهذا القدر، وفي بلد بقدر ثاني، وأحكام كثيرة، ولهذا يرجع إليهم في هذا، وكذلك الألفاظ، ولذا قال ابن القيم رحمه الله: “من أفتى الناس بعرفه وعادته، أفسد” وقال كلام معناه وهل يفسد الدين والدنيا، إلا نصف فقيه ونصف طبيب، هذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد الأديان (5).
والفقيه يقول ماذا أردت؟، ونصف الفقيه يقول ماذا نطقت؟، المعنى إلى المعنى، ماذا أردت؟، ماذا قصدت؟، لأن الألفاظ كما يقول علماء القواعد، الألفاظ قوالب المعاني (6)، العبرة بالمعاني تدل عليها، فإذا عرف المعنى فيؤخذ به، ولهذا جاءت الشريعة بالمعاني، عموم المعاني، فالنص يعمم، لظهور المعنى ووضوحه.
هكذا أيضا ما يجري بين الناس، هو على هذا المعنى، حينما يسأله السائل فيقول أنا قلت كذا وكذا، أنا أجريت هذا العقد على كذا وكذا، وهو المسئول عنده، هذا اللفظ له معنى، وجرى الناس عليه، فلو أفتاه بمقتضى عرفه في بلده، لكانت الفتوى على خلاف الدليل، لأن المال بالنيات، والمقاصد مراده في مثل هذا، والعبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني (7)، هكذا أيضا ألفاظ الناس.
فهذا القدر هو الذي أراد العلماء به تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، وقال عمر بن عبدالعزيز: “يجد للناس من الأحكام، بقدر ما يجد لهم من الأقضية” يعني أنه يستجد لهم من الأقضية، يجد للناس من الأحكام، بقدر ما يجد لهم من الفجور (8).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت
(1) انظر البيان والتحصيل لابن رشد 18/14، إعلام الموقعين لابن القيم 3/14. و(المادة 39) من مجلة الأحكام العدلية. وحاشية ابن عابدين 3/176. وبحث صلاحية التشريع الإسلامي للبشر كافة، للدكتور عبد الله بن محمد العجلان، مجلة البحوث الإسلامية 9/275. وجاءت بلفظ “الفتوى تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأماكن والأزمان” انظر: الفروق للقرافي 3/321 ط: دار الكتب العلمية ؛ المجموع للنووي 10/220.
(2) جاءت القاعدة في إعلام الموقعين لابن القيم 4/157- : بلفظ “الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال”.
(3) ينظر الموافقات للشاطبي 2/308.
(4) ينظر مجموع فتاوى ابن تيمية 6/225.
(5) قال في إعلام الموقعين (3/ 78): “ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم واحوالهم وقرائن احوالهم فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم”.
(6) ينظر المبسوط للسرخسي 12/79، العناية شرح الهداية للبابرتي 9/49.
(7) مجموع الفتاوى لابن تيمية 30/112 بلفظ: ”الاعتبار في العقود بالمعاني والمقاصد، لا بمجرد اللفظ”. وانظر زاد المعاد لابن القيم 5/182. ومجلة الأحكام العدلية م/3، شرح القواعد الفقهية للزرقا ص 55، قواعد الفقه للمجددي ص 91 ، المدخل الفقهي العام للزرقا 2/980 ، موسوعة القواعد والضوابط الفقهية للندوي 1/518 . ووردت في المبسوط للسرخسي 7/146، وتبيين الحقائق للزيلعي 5/102 بلفظ: ”العبرة في العقود للمعاني، دون الألفاظ”، ووردت في بدائع الصنائع للكاساني 3/152، وغمز عيون البصائر للحموي 2/268 بلفظ: “العبرة في العقود للمعاني، لا الألفاظ” ، ووردت في الدر المختار للحَصكفي مع رد المحتار لابن عابدين 4/307 بلفظ: ”العبرة للمعنى، لا للمبنى” .
(8) هذا القول “تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور” أورده العلامة الشاطبي في كتابه الاعتصام وعزاه لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى 1/ 181. وكذلك الباجي في المنتقى شرح الموطأ 6/46 وعزاه بعضهم للإمام مالك انظر فتح الباري لابن حجر 13/144. وانظر متن الرسالة لابن أبي زيد القيرواني ص 131 – الناشر دار الفكر، المنتقى شرح الموطأ للباجي 6/46 – دار الكتاب الإسلامي، البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي (1/130- 131).