التحوَّل عن موضع الفريضة، وتكثير مواضع السجود
السَّلام عليْكم ورحْمة الله وبركاتُه،
السَّادة المشايخ، حفِظكم الله من كل سوء وأدامكم نفعًا للأمَّة.
أرى بعض المصلِّين يقومون بتبادُل الأماكن بعد انتِهاء صلاة الفريضة لأداء صلاة النَّافلة؛ بل ويتكلَّف أحدُهم انتِظار غيرِه ليحلَّ مكانَه، وكأنَّه يوجد نصٌّ شرْعي في ذلك، فما حُكم تغْيير الأماكن للصَّلاة؟ وما حكم دعوى أنَّ هذِه الأماكن سوف تشْهد لك يوم القيامة وما إلى ذلك من الأقاويل؟
جزاكم الله عنّي وعن المسلمين كلَّ خير، والسَّلام عليْكم ورحمة الله وبركاته.
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقدِ استحبَّ أهل العِلْم التحوُّل من موضِع لموضع آخَر بعد الصَّلاة - إن أمكن - لما روى مسلمٌ عن عمر بن عطاء بن أبي الخوار: أنَّ نافع بن جبير أرْسله إلى السَّائب بن أخت نمر، يسألُه عن شيءٍ رآه منه معاوية في الصَّلاة.
فقالَ: نَعَمْ، صَلَّيْتُ مَعَهُ الجُمُعَةَ في المَقْصورةِ، فلمَّا سلَّمَ الإمَامُ، قُمْتُ في مَقامِي فصَلَّيْتُ، فلَمَّا دَخَلَ، أرْسَلَ إلَيَّ فقَالَ: لا تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ، إذا صَلَّيْتَ الجُمُعَةَ، فَلا تَصِلْها بِصَلاَةٍ حتَّىَ تَكَلَّمَ أوْ تَخْرُجَ؛ فإنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أمَرَنا بِذَلِك؛ ألاَّ تُوصَلَ صَلاةٌ بِصَلاةٍ حَتَّىَ نَتَكَلّمَ أوْ نَخْرُجَ".
قال الإمام النَّووي - رحِمه الله -: "فيه دليلٌ لِما قاله أصحابُنا: أنَّ النَّافلة الرَّاتبة وغيرها يستحبُّ أن يتحوَّل لها عن موضع الفريضة إلى موضع آخَر، وأفضلُه التحوُّل إلى البيْت، وإلاَّ فموضع آخَر من المسجد أو غيره؛ ليكثر مواضع سجودِه، ولتنفصِل صورة النَّافلة عن صورة الفريضة، وقوله: "حتَّى نتكلَّم" دليلٌ على أنَّ الفصْل بينهما يَحصل بالكلام أيضًا؛ ولكن بالانتِقال أفضل؛ لما ذكرناه، والله أعلم". اهـ.
وقال الرملي في "نهاية المحتاج": "ويسنُّ أن ينتقل للنَّفل أو الفرْض من موضع فرضه أو نفله إلى غيره؛ تكثيرًا لمواضع السّجود؛ فإنَّها تشهد له، ولما فيه من إحياء البقاع بالعبادة، فإن لم ينتقِل إلى موضع آخَر، فصل بكلام إنسان".
واستدلوا أيضًا على استحباب التحوّل بحديثين فيهما ضعف، الأول: ما رواه أبو داود ابن ماجه عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: « »؛
والثاني حديث أبي هُريرة عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: « »؛ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، يعني من أجل أن يصلي النافلة.
قال الشَّوكاني في "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار": "والحديثان يدلاَّن على مشروعيَّة انتِقال المصلِّي عن مصلاَّه الَّذي صلَّى فيه لكلّ صلاة يفتتِحها من أفراد النَّوافل، أمَّا الإمام، فبنصِّ الحديث الأوَّل، وبعموم الثَّاني، وأمَّا المؤتمُّ والمنفرِد، فبعموم الحديث الثَّاني، وبالقياس على الإمام".
ثم بيّن - رحمه الله - سبب المشروعية فقال: "والعلَّة في ذلك: تكثير مواضع العِبادة؛ كما قال البُخاري والبغوي؛ لأنَّ مواضع السّجود تشْهد له؛ كما في قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4]؛ أيْ: تُخبر بما عُمِل عليها، وورد في تفْسير قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29]: أنَّ المؤمنَ إذا مات بكى عليه مصلاَّه من الأرض، ومصعد عملِه من السَّماء، وهذه العلَّة تقتضي أيضًا أن ينتقِل إلى الفرْض من موضع نفلِه، وأن ينتقل لكلِّ صلاة يفتتِحها من أفراد النَّوافل، فإن لم ينتقل، فينبغي أن يفصل بالكلام؛ لحديث النَّهي عن أن تُوصل صلاة بصلاة حتَّى يتكلَّم المصلِّي أو يخرج". اهـ،،
والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: