الشرح الكبير لابن حجر على صحيح البخاري
مر بي وأنا أطالع فتح الباري لابن حجر يقول: وقد استوفيته في مقدمة الشرح الكبير فما هو الشرح الكبير وهل المقدمة المشار إليها هي: (هدي الساري) أم أنها أمر آخر؟
نعم أشار الحافظ في الفتح بأنّ هناك شرحًا كبيرا له على صحيح البخاري ووسم فتح الباري في أكثر من موضع بأنّه مختصر، وهو على طوله يسميه الحافظ مختصر، وأشار في مقدمة انتقاض الاعتراض قال: "أما بعد فإني شرعت في شرح صحيح البخاري في سنة ثلاث عشرة وثمانمائة بعد أن كنت خرَّجت ما فيه من الأحاديث المعلقة في كتاب سميته تغليق التعليق، وكمل في سنة أربع وثمانمائة في سفر ضخم ووقف عليه أكابر شيوخي وشهدوا بأني لم أسبق إليه" يعني به تغليق التعليق، "ثم عملت مقدمة الشرح فكملت في سنة ثلاثة عشر أو ثلاث عشرة المذكورة ومن هنا ابتدأت في الشرح فكتبت منه قطعة أطلت فيها التبيين ثم خشيت أن يعوق عن تكملته على تلك الصفة عائق فابتدأت في شرح متوسط سميته فتح الباري بشرح البخاري.
المقدم: إذن هو كتاب آخر غيره.
بدأ بشرح كبير فخشي أن تخترمه المنية أو يعوقه عوائق قبل أن يكمل شرح البخاري، ولا بد من التسديد والمقاربة، ولابد من الموازنة بين الطول وبين إنهاء الكتاب، وهذه مشكلة تعترض كثيرا من أهل العلم سواء في التدريس أو في التأليف تجده يسترسل في التدريس ويشرح الحديث أو يتكلم على الآية في دروس لكنها على حساب غيرها، فإنه لا يستطيع أن يكمل الكتب بهذه الطريقة، أو يأتي به على وجه مختصر ويكمل الكتاب، والخير في الوسط، ولا مانع أن يكمل الكتب بطريق متوسطة أو يطيل ويفيض النّفَسْ في المختصرات، ويختصر في شرح المطولات ويجمع بين الحسنيين، أما بالنسبة لهذا الشرح الذي أشار إليه في فتح الباري فكما قلنا أنه ذكر عن نفسه أنه ابتدأ في الشرح فكتب منه قطعة أطال فيها التبيين والنفس مع أنه بعد أن أنهى فتح الباري استخلص منه نكتا طبع ما وجد منها في مجلدين على أوائل الكتاب كأنها ملخص لفتح الباري، تلميذ ابن حجر السخاوي في ترجمته المسماة الجواهر والدرر، قال: وكان عقب فراغ المقدمة شرع في شرح أطال فيه النفس وكتب منه قطعة تكون قدر مجلد ثم خشي الفتور عن تكميله على تلك الصفة، فابتدأ في شرح متوسط وهو فتح الباري، وإذا كان يسمي فتح الباري مختصرا فماذا عن المختصرات الأخرى، شُرح البخاري كاملاً في مجلد واحد كما فعل السيوطي في التوشيح، ثم اختصر هذا المختصر للمغربي الذي سموه روح التوشيح، وللسيوطي شروح على الكتب السبعة كلها على مجلد واحد، واختصر هذا المغربي بمختصرات على جزء بسيط يشرح البخاري ويشرح مسلم، وهذه الشروح في الحقيقة لا تسمن ولا تغني، فمثل هذه الكتب حقيقة معتصرات، وكذلك شرح الزركشي مطبوع في ثلاثة أجزاء صغار، وللحافظ ابن حجر نكت على هذا الشرح، وعلى كل حال الفائدة في الاستيفاء والتوضيح والبيان لكن لا يكون على حساب الأبواب المتأخرة، ونحن نجد كثيرًا من الشراح سواء في كتب الحديث أو التفاسير أو غيرها يطيل النفس في أول الأمر ثم يختصر في النهاية اختصارًا مخلًا، وإذا قارنت بين فتح الباري وعمدة القاري من حيث الحجم تجدها متقاربة، لكن شرح العيني في نصف الكتاب أو في ثلثي الكتاب أقل من ربع الكتاب الأول، ثم اختصر اختصارًا شديدًا في ثلاثة أرباع، بينما تجد الشرح في فتح الباري موزعا بالتساوي، فتجده يشرح أول حديث بالنفس الذي شرح فيه آخر حديث، وهذه ميزة لابن حجر، تجد الفائدة لكل باب في موضعه بينما يتكلم عليها كثير من الشراح في الموضع الأول ثم يجملون في المواضع الأخرى نظرًا للملل الذي يدب إلى البشر عمومًا، وهذا موجود من سماتهم أو يخشى من اخترام المنية فتجده يختصر اختصارا مخلاًّ في آخر الأمر، بخلاف فتح الباري فإنه وزع الشرح على جميع الأحاديث في جميع الأبواب بطريقة مناسبة متساوية فهذه ميزة لهذا الشرح العظيم.
المقدم: سؤاله هنا يقول هل هذه المقدمة المشار إليها هي: «هدي الساري»؟
نعم الذي أشار إليها هي: «هدي الساري» فيما استفاض على ألسنة الكثير وطبعت بهذا الاسم، مقدمة فتح الباري، وهي في الأصل مقدمة للشرح الكبير لكن لما ألغي الشرح الكبير صارت مقدمة لفتح الباري وَوُجِد في بعض النسخ الخطية بضبط المؤلف: «هُدَى» بضم الهاء ولاشك أن الهَدْي والهُدَى معناهما واحد أو متقارب وروي حديث: «خير الهدي هدي محمد» و«هُدَى محمد» -عليه الصلاة والسلام- المقصود أن هذه المقدمة من أنفع ما ألِّف فيما يخدم صحيح البخاري وكأنها شرح مختصر يحل إشكالات كثيرة جدًا في المتون والأسانيد، وفي المعاني والألفاظ، يستصحبها طالب العلم في الأسفار مع متن الصحيح فتحل له كثيرًا من الإشكالات، ووفق الحافظ ابن حجر في هذه المقدمة أيما توفيق -رحمه الله رحمة واسعة-.
عبد الكريم بن عبد الله الخضير
عضو هيئة التدريس في قسم السنة وعلومها في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض وحاليا عضو هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
- التصنيف:
- المصدر: