لا يكفي في الوجود كون الشيء عُلم وكُتب وقُدّر، حتى يفعله الفاعل
خالد عبد المنعم الرفاعي
- التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -
إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - عندما خلق الدُّنيا قال: "حرَّمتُ الظلم على نفسي وجعلتُه بين عبادي محرَّمًا، فلا تظالموا".
وقال أيضًا في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] صدق الله العظيم.
ولكن هُناك سؤال يُلاحقُني في ذهني، ليس لي الحقّ أن أسأله لأني ما أنا إلا مجرَّد عبدٍ من عباد الله خُلِق من طين:
فعندما يكون الإنسان جنينًا في بطْن أمّه يكون هناك ملَك موكَّل من ربّ العزَّة، يكتُب لهذا المولود متى سيولَد، ومتى سيُتوفَّى، ورزقه وأجله، وسيولَد شقيًّا أم سعيدًا.
فسؤالي هو: ما هو الذَّنب الَّذي ارتَكَبه هذا الموْلود لكي يولَد شقيًّا؟ ولماذا لم يُخْلَق سعيدًا ولَم تُكْتَب له السَّعادة في الدُّنيا؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فاعلم - أخي الكريم - أنَّ الواجِب على كلِّ مسلمٍ أن يعتقِد بأنَّ الله تعالى ربُّ كلّ شيء ومليكُه، له التَّصرُّف المطْلَق، وله الحكْمة البالغة، يفعل ما يشاء ويحكم بما أراد، لا يُسأَل عمَّا يفعل، ولا معقِّب لحُكْمِه، ولا رادَّ لقضائِه، وأنَّه عليم حكيم عدْل، لا يظلم أحدًا؛ بل حرَّم - سبحانه - الظلم على نفسه؛ قال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]، وقال - سبحانه وتعالى -: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، وقال تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
أمَّا الاحتجاج بأنَّ الله - سبحانه وتعالى - يخلُق الإنسانَ، ويكتُب مصيرَه من السَّعادة أو الشَّقاء - فهذا أمرٌ طبيعي للإلَه القادِر العليم، الَّذي يحيط علمُه بكل شيءٍ من مَخلوقاته؛ ولذا قال: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} [الملك: 14].
وكيف يكون ربًّا للأشياء وهو لا يعْلم مصيرَها، ولا ما تؤُول إليْه؟!
وهذا لا يُنافِي عدْله - سبحانه - لأنَّ الله - عزَّ وجلَّ - إنَّما يُحاسِب الخلق بمقتضِى عمَلِهم وسعْيِهم، واختِيارهم لأنفسهم الخيرَ أو الشَّرَّ، ولا يُحاسبهم بمقتضى ما علِمَه منهم، وجعل للعبد اختيارًا ومشيئة وإرادة، بها يَختار طريق الخير أو الشَّرِّ، وبها يَفْعل ما يريد، وعلى أساسِها يُحاسب على أفعاله التي اختارها لنفسه، فالاختِيار مع وجود العقل وعدم الإكْراه هو مناط التَّكليف، وإذا فُقِد ارتفع التَّكليف.
قال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [آل عمران: 182].
وعن عليّ بن أبي طالب - رضِي الله عنْه -: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: « »، قال رجُل: يا رسول الله، أفلا نتَّكل على كتابِنا وندع العمل؛ فمَن كان من أهل السَّعادة فسيصير إلى عمل أهل السَّعادة، ومن كان من أهل الشَّقاء فسيصير إلى أهل الشَّقاوة؟ قال: « » ثمَّ قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5-7]؛ رواه البخاري.
فالمرْء لن يعمل إلاَّ بما قدَّر الله له في كتابه، ولكنَّه لما أُتيح له من الأسباب ما يُمكنه من سلوك الطَّريق السوي، وبيَّن له ذلك، وجهل ما قدره الله له مِن السَّعادة أو الشَّقاوة يوم القيامة، كان عليه أن يعمَل ويأخذ بالأسباب الشَّرعيَّة ويدع ما سواها، ويدعو الله أن يرزُقه الثَّبات على الدين.
فإذا اطمأنَّت نفس المسلِم لذلك، فلا ينبغي له البحْثُ وكثرة السؤال، والاستِرْسال مع وساوِس الشَّيطان التي يُريد أن يفسِد بها دين المرْء ودُنياه وأخراه.
وراجع للأهميَّة فتوى: "شبهات".
وقد سُئِل شيخ الإسلام - قدَّس الله روحه - عن قومٍ قد خصُّوا بالسَّعادة، وقوم قد خصُّوا بالشَّقاوة، والسَّعيد لا يشقَى، والشَّقِي لا يسعد، وفي الأعمال لا تراد لذاتِها؛ بل لجلْب السَّعادة ودفْع الشَّقاوة، وقد سبقنا وجود الأعمال، فلا وجْه لإتْعاب النفس في عمل، ولا كفّها عن ملذوذ؛ فإن المكتوب في القِدَم واقع لا محالة، بيِّنوا ذلك.
فأجاب - رحمه الله -: "الحمد لله، هذه "المسألة" قد أجاب فيها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في غير حديث؛ ففي الصَّحيحين: عن عمران بن حصين قال: قيل: يا رسول الله، أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: « » قيل: ففيم يعمل العاملون؟ قال: « »، وفي رواية البُخاري: قُلْت: يا رسول الله، كلٌّ يَعمل لما خُلِق له أو لِما يسِّر له؟ رواه مسلم في صحيحه.
عن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عِمران بن حصين: أرأيتَ ما يعمل النَّاس اليوم ويكدحون فيه، أشيءٌ قُضِي عليهم ومضى عليْهم من قدر سابق، أو فيما يستقْبِلون به ممَّا أتاهم به نبيُّهم وثبتت الحجَّة عليهم؟ فقلت: بل شيء قُضِي عليهم ومضى عليهم، قال: فقال: أفلا يكونُ ذلك ظلمًا، قال: ففزِعْتُ من ذلك فزعًا شديدًا، وقلت: كلُّ شيء خلق الله وملك يده، فلا يُسْأل عمَّا يفعل وهم يسألون، فقال: يرحَمك الله، إنّي لم أُرِد بما سألتُك إلاَّ لأجود عقلك؛ إنَّ رجُلين من مزينة أتَيَا رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالا: يا رسول الله، أرأيتَ ما يعمل النَّاس اليوم ويكدحون فيه، أشيءٌ قُضِي عليْهِم ومضى فيهم من قدَرٍ سابق، أو فيما يستقبلون به ممَّا أتاهم به نبيُّهم وثبتت الحجَّة عليهم؟ فقال: «: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8]».
وروى مسلم في صحيحِه: عن زهيرٍ عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله، بيِّن لنا دينَنا كأنَّا خُلِقْنا الآن، فيمَ العمل اليوم؟ أفيما جفَّت به الأقْلام وجرت به المقادير؟ أم فيما يستقبل؟ قال: « » قال: ففيم العمل؟ قال زهيرٌ: ثمَّ تكلَّم أبو الزُّبير بشيءٍ لَم أفهمْه، فسألت عمَّا قال، فقال: « »، وفي لفظ آخر: فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: « ».
وفي الصَّحيحين: عن عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنْه - قال: كنَّا في جنازة في بقيع الغرْقد، فأتانا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقعد وقعدنا حوْلَه ومعه مخصرة، فنكس فجعل ينكُت بمخصرته، ثمَّ قال: « »، فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نتَّكل على كتابِنا وندَع العمل، مَن كان من أهل السَّعادة فسيصيرُ إلى عمل أهل السَّعادة، ومَن كان من أهل الشَّقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشَّقاوة؟ فقال: « » ثمَّ قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10]، وفي رواية البخاري: أفلا نتَّكل على كتابِنا وندع العمل؛ فمَن كان منَّا من أهل السَّعادة سيصير إلى عمل أهل السَّعادة، ومن كان من أهْل الشَّقاوة سيصير إلى عمل أهل الشَّقاوة؟ وقال: « »، الحديث.
وفي رواية في الصَّحيحين عن عليّ قال: كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذات يوم وفي يدِه عود ينكُت به، فرفع رأسَه فقال: « » فقالوا: يا رسول الله، فلم نعمل؟ أولا نتَّكل؟ قال: « » ثمَّ قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} إلى قوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10].
فقد أخبر النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذه الأحاديث وغيرِها بما دلَّ عليه القُرآن أيضًا، من أنَّ الله - سبحانه وتعالى - تقدَّم علمُه وكتابه وقضاؤه بِما سيصير إليه العِباد من السَّعادة والشَّقاوة، كما تقدَّم علمُه وكِتابه بغير ذلك من أحْوال العباد وغيرهم؛ كما في الصَّحيحين عن عبدالله بن مسعود قال: حدَّثنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو الصَّادق المصْدوق: « ».
وفي الصَّحيحين: عن أنسِ بن مالك ورفَع الحديث قال: « »، وهذا المعنى في صحيح مسلم من حديث حُذيفة بن أسيد الغفاري أيضًا، والنُّصوصُ والآثار في تقدُّم عِلْم الله وكتابته وقضائه، وتقْديره الأشياء قبل خلْقِها، وأنواعُها - كثيرة جدًّا، وقد بيَّن النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أنَّ ذلك لا يُنافي وجود الأعْمال التي بها تكون السَّعادة والشَّقاوة، وأنَّ مَن كان من أهْل السَّعادة فإنَّه ييسر لعمل أهل السَّعادة، ومَن كان من أهل الشَّقاوة فإنَّه ييسَّر لعمل أهل الشقاوة، وقد نهى أن يتَّكل الإنسان على القدَر السَّابق، ويدَع العمل؛ ولهذا كان من اتَّكل على القدَر السابق، وترك ما أُمِر به من الأعمال - هو من الأخْسرين أعمالاً الَّذين ضلَّ سعْيُهم في الحياة الدُّنيا، وكان ترْكهم لما يجب عليْهم من العمل من جُملة المقْدور الَّذي يسّروا به لعمل أهل الشَّقاوة؛ فإنَّ أهل السَّعادة هم الَّذين يفعلون المأْمور ويتركون المحْظور، فمَن ترك العمل الواجب الَّذي أُمِر به وفعل المحْظور متَّكلاً على القدر، كان من جملة أهل الشَّقاوة الميسَّرين لعمل أهل الشَّقاوة.
وهذا الجواب الذي أجاب به النبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في غايةِ السَّداد والاستِقامة، وهو نظيرُ ما أجابَ به في الحديث الَّذي رواه التِّرمذيُّ أنَّه قيل: يا رسولَ الله، أرأيتَ أدويةً نتداوى بِها، ورقًى نسترْقِي بها، وتقاةً نتَّقيها، هل تردُّ من قدَر الله شيئًا؟ فقال: « »؛ وذلك لأنَّ الله - سبحانه وتعالى - هو يعلَم الأشياء على ما هي عليه، وكذلك يكتُبها، فإذا كان قد علِم أنَّها تكون بأسبابٍ من عمل وغيرِه، وقضى أنَّها تكون كذلك وقدَّر ذلك - لم يَجُز أن يظنَّ أنَّ تلك الأمور تكون بدون الأسْباب التي جعلَها الله أسبابًا، وهذا عامٌّ في جَميع الحوادثِ.
مثال ذلك: إذا علم الله وكتَب أنه سيُولد لهذَين ولدٌ، وجعل الله - سبحانه - ذلِك معلَّقًا باجتِماع الأبويْن على النِّكاح، وإنزال الماء المهين الَّذي ينعقِد منه الولد - فلا يجوز أن يكون وجود الولَد بدون السَّبب الَّذي علق به وجود الولد، والأسباب وإن كانت نوعين: معتادة وغريبة.
فالمعتادة: كولادة الآدميّ من أبويْن.
والغريبة: كوِلادة الإنسان من أمّ فقطْ؛ كما وُلد عيسى، أو من أبٍ فقط؛ كما وُلِدتْ حوَّاء، أو من غير أبويْن؛ كما خُلِق آدم أبو البشر من طين.
فجميع الأسباب قد تقدَّم عِلْم الله بها وكتابتُه لها، وتقْديره إيَّاها وقضاؤُه بها، كما تقدَّم ربْط ذلك بالمسبّبات، كذلك أيْضًا الأسباب التي بها يخلق النَّبات - من إنزال المطَر وغيره - من هذا الباب؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164]، وقال: {فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57]، وقال: {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ} [الأنبياء: 30]، وأمثال ذلك.
فَجميع ذلك مقدَّر معلوم، مقْضيّ مكتوب قبل تكْوينه، فمَن ظنَّ أنَّ الشَّيء إذا عُلم وكتب أنَّه يكفي ذلك في وجودِه، ولا يحتاج إلى ما به يكونُ من الفاعل الَّذي يفعله وسائر الأسباب - فهو جاهل ضالّ ضلالاً مبينًا؛ من وجهين:
أحدهما: من جِهة كونِه جعل العِلْم جهلاً؛ فإنَّ العِلْم يُطابق المعلوم، ويتعلَّق به على ما هو عليْه، وهو - سبحانه - قد علم أنَّ المكوّنات تكون بما يخلقه من الأسباب؛ لأنَّ ذلك هو الواقع.
فمَن قال: إنَّه يعلم شيئًا بدون الأسباب فقد قال على الله الباطل، وهو بمنزلة مَن قال: إنَّ الله يعلم أنَّ هذا الولد ولد بِلا أبويْن، وأنَّ هذا النَّبات نبت بلا ماء، فإنَّ تعلُّق العلم بالماضي والمستقْبل سواء، فكما أنَّ مَن أخبر عن الماضي بعِلْم الله بوقوعه بدون الأسباب يكون مبطلاً، فكذلك مَن أخْبر عن المستقبل، كقوْل القائل: إنَّ الله علم أنَّه خلق آدم من غير طين، وعلم أنَّه يتناسل النَّاس من غير تناكُح، وأنَّه أنبت الزُّروع من غير ماء ولا تراب، فهو باطل ظاهرٌ بطلانه لكلّ أحد، وكذلك إخباره عن المستقبل.
وكذلك "الأعمال" هي سببٌ في الثَّواب والعِقاب، فلو قال قائل: إنَّ الله أخْرج آدم من الجنَّة بلا ذنب، وأنَّه قدر ذلك، أو قال: إنَّه غفر لآدم بلا توبة، وإنَّه علم ذلك - كان هذا كذبًا وبهتانًا، بخلافِ ما إذا قال: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]، {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ} [طه: 121]، فإنَّه يكون صادقًا في ذلك.
والله - سبحانه - علِم ما يكون من آدمَ قبل أن يكون، وهو عالم به بعد أن كان، وكذلك كلّ ما أخبر به من "قصص الأنبِياء"، فإنَّه علم أنَّه أهلك قوم نوح وعاد وثمود، وفرعون ولوط ومدْين وغيرهم بذنوبهم، وأنَّه نجَّى الأنبياء ومن اتَّبعهم بإيمانهم وتقْواهم؛ كما قال: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165]، وقال: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا} الآية [العنكبوت: 40]، وقال: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146]، وقال: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} [غافر: 21]، وقال: {فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} [الأنعام: 6]، وقال: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل: 52، 53]، وقال: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]، وقال: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} [يوسف: 56]، وقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء: 3]، وقال: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ} [القمر: 34، 35]، وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137]، وأمثال ذلك في القرآن كثير.
وكذلك خبره عمَّا يكون من السَّعادة والشَّقاوة بالأعمال؛ كقوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]، وقوله تعالى: {وَتِلْكَ الجَنَّةُ الَتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} [الطور: 21]، وقوله: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الفَائِزُونَ} [المؤمنون: 111]، وقوله: {وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان: 12] الآيات، وقوله: {هَلْ ثُوِّبَ الكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: 36]، وقوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا اليَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 42 - 48]، وأمثال هذا في القُرآن كثيرٌ جدًّا.
بيَّن - سبحانه - فيما يذكره من سعادة الآخِرة وشقاوتها: أنَّ ذلك كان بالأعْمال المأمور بها والمنهيّ عنْها، كما يذكر نحْو ذلك فيما يقضيه من العقوبات والمثوبات في الدُّنيا أيضًا.
والوجه الثاني: أنَّ العِلْم بأنَّ الشَّيء سيكون، والخبر عنْه بذلك، وكتابة ذلك - لا يُوجب استِغْناء ذلك عمَّا به يكون من الأسباب الَّتي لا يتمّ إلاَّ بها، كالفاعل وقدرته ومشيئته، فإنَّ اعتقاد هذا غاية في الجهل؛ إذ هذا العلم ليس موجبًا بنفسه لوجود المعلوم باتِّفاق العُلماء؛ بل هو مطابق له على ما هو عليه، لا يكسبه صفةً، ولا يكتسب منه صفة، بِمنزلة عِلْمِنا بالأمور الَّتي قبلنا، كالموجودات التي كانتْ قبل وجودِنا، مثل عِلْمنا بالله وأسمائِه وصفاته، فإنَّ هذا العِلْم ليس مؤثرًا في وجود المعلوم باتِّفاق العُلماء، وإن كان من علومِنا ما يكون له تأثير في وجود المعلوم، كعِلْمنا بما يدعونا إلى الفعل ويعرفنا صفته وقدره، فإنَّ الأفعال الاختياريَّة لا تصدر إلاَّ ممَّن له شعور وعلم؛ إذِ الإرادة مشروطة بوجود العلم، وهذا التَّفصيل الموجود في علمنا بحيث ينقسم إلى علم فعْلي له تأثير في المعلوم، وعلم انفِعالي لا تأثير له في وجود المعلوم - هو فصْل الخطاب في العلم...
وهكذا علْم الرَّبّ - تبارك وتعالى - فإنَّ علمه بنفسه - سبحانه - لا تأثير له في وجود المعلوم، وأمَّا علمه بمخلوقاته التي خلَقَها بمشيئتِه وإرادته، فهو ممَّا له تأثير في وجود معلوماتِه، والقول في الكلام والكِتاب كالقول في العلم؛ فإنَّه - سبحانه وتعالى - إذا خلق الشيءَ خلقه بعلمه وقدرته ومشيئته؛ ولذلك كان الخلق مستلزمًا للعلم ودليلاً عليه؛ كما قال تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} [الملك: 14]، وأَّما إذا أخبر بما سيكون قبل أن يكون، فعِلْمه وخبره حينئذٍ، ليس هو المؤثر في وجودِه؛ لعلمه وخبره به بعْد وجوده؛ لثلاثة أوجُه:
أحدها: أنَّ العلم والخبر عن المستقبل كالعِلم والخبر عن الماضي، الثاني: أنَّ العلم المؤثّر هو المستلزم للإرادة المستلزمة للخلْق، ليس هو ما يستلزم الخبر، وقد بيَّنَّا الفرق بين العِلْم العمَلي والعلم الخبري، الثالث: أنَّه لو قدر أنَّ العلم والخبر بما سيكون له تأثير في وجود المعْلوم المخْبر به، فلا ريْبَ أنَّه لا بدَّ مع ذلك من القُدرة والمشيئة، فلا يكون مجرَّد العلم موجبًا له بدون القُدْرة والإرادة، فتبيَّن أنَّ العلم والخبر والكِتاب لا يوجب الاكتِفاء بذلك عن الفاعل القادِر المريد؛ ممَّا يدلُّ على ذلك أنَّ الله - سبحانَه وتعالى - يعلم ويُخبر بما سيكون من مفعولات الرَّبّ، كما يعلم أنَّه سيُقيم القيامة ويخبر بذلك، ومع ذلك فمعلوم أنَّ هذا العلم والخبر لا يُوجب وقوع المعْلوم المخبر به بدون الأسْباب التي جعلها الله أسبابًا له.
إذا تبيَّن ذلك، فقول السائل: "السعيد لا يشقى، والشَّقي لا يسعد" كلامٌ صحيح؛ أي: مَن قدَّر اللهُ أن يكون سعيدًا يكون سعيدًا؛ لكن بالأعمال التي جعلَه يسعدُ بها، والشَّقيّ لا يكون شقيًّا إلاَّ بالأعمال التي جعلَه يشقى بها، التي من جُملتها الاتِّكال على القدر، وترك الأعمال الواجبة.
وأمَّا قوله: "والأعمال لا تُراد لذاتها؛ بل لجلْب السَّعادة ودفع الشَّقاوة، وقد سبقنا وجود الأعمال"، فيُقال له: السَّابق نفس السَّعادة والشَّقاوة، أم تقدير السَّعادة والشَّقاوة علمًا وقضاءً وكتابًا؟ هذا موضع يشتبِه ويغلط فيه كثيرٌ من النَّاس، حيثُ لا يميِّزون بين ثبوت الشَّيءِ في العلم والتَّقدير، وبين ثبوته في الوجود والتَّحقيق، فإنَّ الأوَّل هو العلم به والخبر عنْه وكتابته، وليس شيءٌ من ذلك داخلاً في ذاتِه ولا في صفاتِه القائِمة به؛ ولهذا يغلط كثيرٌ من النَّاس في قوْل النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث الصَّحيح الَّذي رواه ميْسرة قال: قلتُ: يا رسول الله، متى كنت نبيًّا؟ وفي رواية: متى كتبتَ نبيًّا؟ قال: « »، فيظنّون أنَّ ذاته ونبوَّته وجدت حينئذٍ، وهذا جهلٌ؛ فإنَّ الله إنَّما نبَّأه على رأْس أرْبعين من عمرِه، وقد قال له: {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ} [يوسف: 3]، وقال: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} [الضحى: 7]، وفي الصَّحيحين أنَّ الملَك قال له - حينَ جاءَه -: اقرأ، فقال: « » - ثلاث مرات.
ومَن قال: إنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - كان نبيًّا قبل أن يُوحى إليه، فهُو كافرٌ باتِّفاق المسلِمين، وإنَّما المعنى: أنَّ الله كتَب نبوَّته فأظْهرها وأعلنها بعد خلْق جسد آدَم، وقبْل نفْخ الرّوح فيه، كما أخبر أنَّه يكتب رزق المولود وأجله وعمله، وشقاوته وسعادته، بعْد خلق جسده، وقبْل نفْخ الرّوح فيه؛ كما في حديث العِرْباض بن سارية الَّذي رواه أحْمد وغيرُه عن النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: « » وفي رواية: « ».
وكثيرٌ من الجهَّال - المصنِّفين وغيرهم - يرويه: "كنتُ نبيًّا وآدم بين الماء والطين"، "وآدَم لا ماء ولا طين"، ويَجعلون ذلك وجوده بعيْنِه، وآدم لم يَكُن بين الماء والطِّين؛ بل الماء بعْضُ الطين، لا مقابله، وإذا كان كذلك، فإن قال: السَّابق نفس السَّعادة والشَّقاوة، فقد كذب؛ فإنَّ السَّعادة إنَّما تكون بعد وجود الشَّخص الَّذي هو السَّعيد، وكذلك الشَّقاوة لا تكون إلاَّ بعد وجود الشَّقيّ، كما أنَّ العمل والرِّزْق لا يكون إلاَّ بعد وجود العامل، ولا يَصير رزقًا إلاَّ بعد وجود المرتزق، وإنَّما السَّابق هو العلم بذلك وتقْديره، لا نفسه وعيْنه.
وإذا كان كذلك، فالعمل أيضًا سابقٌ كسبْق السَّعادة والشَّقاوة، وكلاهما معلوم مقدر، وهما متأخران في الوجود، والله - سبحانه - علم وقدّر: أن هذا يعمل كذا؛ فيسعد به، وهذا يعمل كذا؛ فيشقى به، وهو يعلم أن هذا العمل الصالح يجلب السعادة، كما يعلم سائر الأسباب والمسببات، كما يعلم أن هذا يأكل السم؛ فيموت، وأن هذا يأكل الطعام؛ فيشبع، ويشرب الشراب؛ فيروى، وظهر فساد قول السائل: فلا وجه لإتعاب النفس في عمل، ولا لكفها عن ملذوذات؛ والمكتوب في القدم واقع لا محالة.
وذلك أن المكتوب في القدم، هو سعادةُ السعيد؛ لما يُسّر له من العمل الصالح، وشقاوة الشقي؛ لما يُسّر له من العمل السيئ، ليس المكتوب أحدَهما دون الآخر، فما أُمر به العبد من عمل فيه تعب أو امتناع عن شهوة، هو من الأسباب التي تنال بها السعادة، والمُقدر المكتوب هو السعادة، والعمل الذي به يُنال السعادة.
وإذا تَرَك العبد ما أُمر به، متكلاً على الكتاب، كان ذلك من المكتوب المقدور الذي يصير به شقيًا، وكان قوله ذلك، بمنزلة من يقول: أنا لا آكل ولا أشرب، فإن كان الله قضى بالشبع والرِّي، حصل، وإلا لم يحصل، أو يقول لا أجامع امرأتي، فإن كان الله قضى لي بولد، فإنه يكون، وكذلك من غلط فترك الدعاء، أو ترك الاستعانة والتوكل، ظانًّا أن ذلك من مقامات الخاصة، ناظرًا إلى القدر، فكل هؤلاء جاهلون ضالون؛ ويشهد لهذا ما رواه مسلم في "صحيحه" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: « »، فأمره بالحرص على ما ينفعه، والاستعانة بالله، ونهاه عن العجز الذي هو الاتكال على القدر، ثم أمره إذا أصابه شيء، أن لا ييأس على ما فاته، بل ينظر إلى القدر، ويسلم الأمر لله، فإنه هنا لا يقدر على غير ذلك؛ كما قال بعض العقلاء: الأمور: أمران، أمر فيه حيلة، وأمر لا حيلة فيه، فما فيه حيلة، لا يعجز عنه، وما لا حيلة فيه، لا يجزع منه.
وفي"سنن أبي داود": أن رجلين اختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: « »، وفي الحديث الآخر: « »؛ رواه ابن ماجه والترمذي، وقال حديث حسن.
ثم قال: ومما يوضح ذلك، أن الله قد علم وكتب أنه يخلق الخلق، ويرزقهم ويميتهم ويحييهم، فهل يجوز أن يظن أن تقدم العلم والكتاب، مغن لهذه الكائنات عن خلقه وقدرته ومشيئته؟! فكذلك علم الله بما يكون من أفعال العباد وأنهم يسعدون بها ويشقون، كما يعلم - مثلاً - أن الرجل يمرض أو يموت بأكله السم، أو جرحه نفسه ونحو ذلك.
وهذا الذي ذكرناه، مذهب سلف الأمة وأئمتها، وجمهور الطوائف من أهل الفقه والحديث والتصوف والكلام وغيرهم، وإنما نازع في ذلك غلاة القدرية... إلى آخر ما قال وهو بحث نادر حري بأن يقرأ كاملاً.
هذا؛ والله أعلم.