كلام في لفظ الجسم من حيث [اللغة]
منذ 2006-12-01
السؤال: كلام في لفظ الجسم من حيث [اللغة]
الإجابة: وهذا الكلام في لفظ الجسم من حيث [اللغة]
وأما الشرع، فمعلوم أنه لم ينقل عن أحد من الأنبياء ولا الصحابة، ولا التابعين، ولا سلف الأمة أن اللّه جسم، أو أن اللّه ليس بجسم، بل النفي والإثبات بدعة في الشرع.
وأما من جهة العقل فبينهم نزاع فيما اتفقوا على تسميته جسمًا: كالسماء والأرض، والريح والماء، ونحو ذلك مما يشار إليه ويختص بجهة وهو متحيز، قد تنازعوا: هل هو مركب من جواهر لا تقبل القسمة، أو من مادة وصورة، أو لا من هذا ولا من هذا؟ وأكثر العقلاء على القول الثالث.
وكل من القولين الأولين قاله طائفة من النظار.
والأول: كثير في أهل الكلام، والثاني: كثير في الفلاسفة، لكن قول الطائفتين باطل، معلوم بالعقل بطلانه عند أهل القول الثالث.
وإذا كان كذلك، فإذا قال القائل: أنا أقول: إنه فوق العرش، وأنه ترفع الأيدي إليه ونحو ذلك، وليس كل ما كان كذلك كان مركبًا من أجزاء مفردة، ولا من المادة والصورة العقليين، كان الكلام مع هذا في التلازم.
فإذا قال الثاني: بل كل ما كان فوق غيره، وكل ما كان يشار إليه بالأيدي، فلا يكون إلا مركبًا إما من هذا، وإما من هذا: كان هذا بمنزلة قول الآخر: كل ما كان حيًا قادرًا عالمًا، فلا يكون إلا مركبًا هذا التركيب، أو كل ما كان له حياة وعلم وقدرة، فلا يكون إلا مركبًا هذا التركيب، أو كل ما كان سميعًا بصيرًا متكلمًا فلا يكون إلا مركبًا هذا التركيب، بناء على أن كل موجود قائم بنفسه هو جسم،وكل جسم فهو مركب هذا التركيب.
ومعلوم أن هذا باطل عند جماهير العلماء والعقلاء باتفاقهم؛ فإني لا أعلم طائفة من العقلاء المعتبرين أنهم قالوا: هو جسم، وهو مركب هذا التركيب، بل الذي أعرف أنهم قالوا: هو جسم كالهشامية والكرامية لا يفسرون كلهم الجسم بما هو مركب هذا التركيب، بل إنما نقل هذا عن بعضهم، وقد ينقل عن بعضهم مقالات ينكرها بعضهم،كما نقل عن مقاتل بن سليمان، وهشام بن الحكم مقالات ردية.
ومن الناس من رد هذا النقل عن مقاتل بن سليمان فرده كثير من الناس. وأما النقل عن هشام فرده كثير من أتباعه.
ومن قدر أنه قال ذلك من الناس، فقوله باطل كسائر من قال على اللّه الباطل، كما حكي عن بعض اليهود والرافضة والمجسمة، وإنهم يصفونه بالنقائص التي تعالى اللّه عنها، كوصفه أنه أجوف، وأنه بكى حتى رمد وعادته الملائكة، وعض أصابعه حتى خرج منها الدم، وأنه ينزل عشية عرفة على جمل أوْرَق [أي: في لونه بياض إلى سواد، وهو من أطيب الإبل لحْمًا لا سيْرًا وعملا].
وأمثال هذه الأقوال التي فيها الافتراء على اللّه تعالى ووصفه بالنقائص، ما يعلم بطلانه بصريح المعقول وصحيح المنقول.
وهكذا إذا قال القائل: إنه لو نزل إلى سماء الدنيا، للزم الحركة، والانتقال والحركة والانتقال من خصائص الأجسام، أو قال: للزم أن يخلو منه العرش وذلك محال؛ فإن للناس في هذا ثلاثة أقوال:
أحدها: قول من يقول: ينزل وليس بجسم.
وقول من يقول: ينزل وهو جسم.
وقول من لا ينفي الجسم ولا يثبته، إما إمساكًا عنهما؛ لكون ذلك بدعة وتلبيسًا كما تقدم، وإما مع تفصيل المراد، وإقرار الحق وبطلان الباطل، وبيان الصواب من المعاني العقلية التي اشتبهت في هذا؛ مثل أن يقال: النزول والصعود والمجيء والإتيان، ونحو ذلك، مما هو أنواع جنس الحركة، لا نسلم أنه مخصوص بالجسم الصناعي الذي يتكلم المتكلمون في إثباته ونفيه، بل يوصف به ما هو أعم من ذلك.
ثم هنا طريقان:
أحدهما: أن هذه الأمور توصف بها الأجسام والأعراض فيقال: جاء البرد وجاء الحر، وجاءت الحمى، ونحو ذلك من الأعراض.
وإذا كانت الأعراض توصف بالمجيء والإتيان، علم أن ذلك ليس من خصائص الأجسام، فلا يجوز أن يوصف بهذه الأفعال حقيقة مع أنه ليس بجسم، وهذه طريقة الأشعري ومن تبعه من نظار أهل الحديث وأتباع الأئمة الأربعة وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وغيره، وهذا معنى ما حكاه في [المقالات] عن أهل السنة والحديث.
ولهذا كان قول ابن كلاب والأشعري و القلانسي ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم من أصحاب أحمد وغيرهم، أن الاستواء فعل يفعله الرب في العرش.
وكذلك يقولون في النزول.
ومعني ذلك أنه يحدث في العرش قربًا فيصير مستويًا عليه من غير أن يقوم به نفسه فعل اختياري، سواء قالوا: إن الفعل هو المفعول، أو لم يقولوا بذلك، وكذلك النزول عندهم، فهم يجعلون الأفعال اللازمة بمنزلة الأفعال المتعدية؛ وذلك لأنهم اعتقدوا أنه لا يقوم به فعل اختياري؛ لأن ذلك حادث، فقيامه به يستلزم أن تقوم به الحوادث، فنفوا ذلك لهذا الأصل الذي اعتقدوه.
الطريق الثاني: أن يقال: المجيء والإتيان والصعود والنزول توصف به روح الإنسان التي تفارقه بالموت، وتسمى النفس، وتوصف به الملائكة، وليس نزول الروح وصعودها من جنس نزول البدن وصعوده؛ فإن روح المؤمن تصعد إلى فوق السموات، ثم تهبط إلى الأرض، فيما بين قبضها ووضع الميت في قبره.
وهذا زمن يسير، لا يصعد البدن إلى ما فوق السموات، ثم ينزل إلى الأرض في مثل هذا الزمان.
وكذلك صعودها ثم عودها إلى البدن في النوم واليقظة؛ ولهذا يشبه بعض الناس نزولها إلى القبر بالشعاع، لكن ليس هذا مثالا مطابقًا.
فإن نفس الشمس لا تنزل، والشعاع الذي يظهر على الأرض هو عرض من الأعراض يحدث بسبب الشمس، ليس هو الشمس ولا صفة قائمة بها، والروح نفسها تصعد وتنزل، ففي الحديث المشهور حديث البراء بن عازب رضي اللّه عنه في قبض الروح وفتنة القبر، وقد رواه الإمام أحمد وغيره، ورواه أبو داود أيضًا واختصره، وكذلك النسائي، وابن ماجه، ورواه أبو عوانة في [صحيحه] بطوله، وفي روايته عن زاذان: سمعت البراء، وذلك يبطل قول من قال: إنه لم يسمعه منه.
ورواه الحاكم في [صحيحه] من حديث أبي معاوية، قال: حدثنا الأعمش، ثنا المنهال بن عمرو، عن أبي عمرو زاذان، عن البراء بن عازب رضي اللّه عنهما قال: خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في جنازة فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، وذكر الحديث بطوله.
ورواه الحاكم أيضًا من حديث محمد بن الفضل، قال: حدثنا الأعمش، فذكره.
وقال في آخره: حدثنا فضيل، حدثني أبي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة بهذا الحديث، إلا أنه قال .
قال: وقد رواه شعبة، وزائدة، وغيرهما، عن الأعمش، ورواه مُؤَمَّل، عن الثوري عنه، قال: وهو على شرطهما قد احتجا بالمنهال بن عمرو، قال: وقد روى ابن جرير عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن والكافر، ثم ذكر طرفًا من حديث القبر، وقد رواه الإمام أحمد في [مسنده] عن عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن يونس بن خباب، عن المنهال بن عمرو، الحديث بطوله. قال: وكذلك أبوخالد الدالاني، وعمرو بن قيس الملائي، والحسن بن عبيد الله النخعي، عن المنهال، ورواه شعيب بن صفوان، عن يونس بن خباب، فقال: عن المنهال، عن زاذان، عن أبي البختري، قال، سمعت البراء قال: وهذا وَهْم من شعيب، فقد رواه معمر ومهدي بن ميمون وعباد بن عباد عن يونس التامر.
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: وأما حديث البراء رواه المنهال بن عمرو عن زاذان، عن البراء، فحديث مشهور رواه عن المنهال الجَمُّ الغَفِير [الجمّ: الكثير، والغفير: المجتمع، أي العدد الكثير بجملتهم].
ورواه عن البراء عدي بن ثابت، ومحمد بن عقبة، وغيرهما.
ورواه عن زاذان عطاء بن السائب.
قال: وهو حديث أجمع رواة الأثر على شهرته واستفاضته، وقال الحافظ أبو عبد اللّه بن منده: هذا الحديث إسناده متصل مشهور، رواه جماعة عن البراء.
وقال الإمام أحمد في [المسند]: حدثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب رضي اللّه عنه قال : {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]. .
قلت: هذا قد رواه عن البراء بن عازب غير واحد غير زاذان، منهم: عدي بن ثابت، ومحمد بن عقبة، ومجاهد.
قال الحافظ أبو عبد اللّه محمد بن إسحاق بن منده في كتاب [الروح والنفس]: حدثنا محمد بن يعقوب بن يوسف، ثنا محمد بن إسحاق الصَّغَاني، ثنا أبو النضر هاشم بن قاسم، ثنا عيسى بن المسيَّب، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب، قال [حديدة ذات شعب يشوى عليها اللحم]. .
وقال ابن منده: رواه الإمام أحمد بن حنبل، ومحمود بن غيلان، وغيرهما عن أبي النضر.
ومن ذلك حديث ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة.
وقد رواه الإمام أحمد في [مسنده] وغيره.
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: هذا حديث متفق على عدالة ناقليه.
اتفق الإمامان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج على ابن أبي ذئب ومحمد بن عمرو بن عطاء، وسعيد بن يسار، وهم من شرطهما، ورواه المتقدمون الكبار عن ابن أبي ذئب مثل ابن أبي فديك، وعنه دحيم بن إبراهيم.
قلت: وقد رواه عن ابن أبي ذئب غير واحد، ولكن هذا سياق حديث ابن أبي فديك لتقدمه.
قال ابن أبي فديك: حدثني محمد بن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال . وذكر تمام الحديث.
والمقصود أن في حديث أبي هريرة قوله كما في حديث البراء ابن عازب، وحديث أبي هريرة روي من طرق تصدق حديث البراء بن عازب، وفي بعض طرقه سياق حديث البراء بطوله، كما ذكره الحاكم، مع أن سائر الأحاديث الصحيحة المتواترة تدل على عود الروح إلى البدن؛ إذ المسألة للبدن بلا روح قول قاله طائفة من الناس وأنكره الجمهور، وكذلك السؤال للروح بلا بدن قاله ابن ميسرة وابن حزم، ولو كان كذلك لم يكن للقبر بالروح اختصاص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الخامس (العقيدة)
وأما الشرع، فمعلوم أنه لم ينقل عن أحد من الأنبياء ولا الصحابة، ولا التابعين، ولا سلف الأمة أن اللّه جسم، أو أن اللّه ليس بجسم، بل النفي والإثبات بدعة في الشرع.
وأما من جهة العقل فبينهم نزاع فيما اتفقوا على تسميته جسمًا: كالسماء والأرض، والريح والماء، ونحو ذلك مما يشار إليه ويختص بجهة وهو متحيز، قد تنازعوا: هل هو مركب من جواهر لا تقبل القسمة، أو من مادة وصورة، أو لا من هذا ولا من هذا؟ وأكثر العقلاء على القول الثالث.
وكل من القولين الأولين قاله طائفة من النظار.
والأول: كثير في أهل الكلام، والثاني: كثير في الفلاسفة، لكن قول الطائفتين باطل، معلوم بالعقل بطلانه عند أهل القول الثالث.
وإذا كان كذلك، فإذا قال القائل: أنا أقول: إنه فوق العرش، وأنه ترفع الأيدي إليه ونحو ذلك، وليس كل ما كان كذلك كان مركبًا من أجزاء مفردة، ولا من المادة والصورة العقليين، كان الكلام مع هذا في التلازم.
فإذا قال الثاني: بل كل ما كان فوق غيره، وكل ما كان يشار إليه بالأيدي، فلا يكون إلا مركبًا إما من هذا، وإما من هذا: كان هذا بمنزلة قول الآخر: كل ما كان حيًا قادرًا عالمًا، فلا يكون إلا مركبًا هذا التركيب، أو كل ما كان له حياة وعلم وقدرة، فلا يكون إلا مركبًا هذا التركيب، أو كل ما كان سميعًا بصيرًا متكلمًا فلا يكون إلا مركبًا هذا التركيب، بناء على أن كل موجود قائم بنفسه هو جسم،وكل جسم فهو مركب هذا التركيب.
ومعلوم أن هذا باطل عند جماهير العلماء والعقلاء باتفاقهم؛ فإني لا أعلم طائفة من العقلاء المعتبرين أنهم قالوا: هو جسم، وهو مركب هذا التركيب، بل الذي أعرف أنهم قالوا: هو جسم كالهشامية والكرامية لا يفسرون كلهم الجسم بما هو مركب هذا التركيب، بل إنما نقل هذا عن بعضهم، وقد ينقل عن بعضهم مقالات ينكرها بعضهم،كما نقل عن مقاتل بن سليمان، وهشام بن الحكم مقالات ردية.
ومن الناس من رد هذا النقل عن مقاتل بن سليمان فرده كثير من الناس. وأما النقل عن هشام فرده كثير من أتباعه.
ومن قدر أنه قال ذلك من الناس، فقوله باطل كسائر من قال على اللّه الباطل، كما حكي عن بعض اليهود والرافضة والمجسمة، وإنهم يصفونه بالنقائص التي تعالى اللّه عنها، كوصفه أنه أجوف، وأنه بكى حتى رمد وعادته الملائكة، وعض أصابعه حتى خرج منها الدم، وأنه ينزل عشية عرفة على جمل أوْرَق [أي: في لونه بياض إلى سواد، وهو من أطيب الإبل لحْمًا لا سيْرًا وعملا].
وأمثال هذه الأقوال التي فيها الافتراء على اللّه تعالى ووصفه بالنقائص، ما يعلم بطلانه بصريح المعقول وصحيح المنقول.
وهكذا إذا قال القائل: إنه لو نزل إلى سماء الدنيا، للزم الحركة، والانتقال والحركة والانتقال من خصائص الأجسام، أو قال: للزم أن يخلو منه العرش وذلك محال؛ فإن للناس في هذا ثلاثة أقوال:
أحدها: قول من يقول: ينزل وليس بجسم.
وقول من يقول: ينزل وهو جسم.
وقول من لا ينفي الجسم ولا يثبته، إما إمساكًا عنهما؛ لكون ذلك بدعة وتلبيسًا كما تقدم، وإما مع تفصيل المراد، وإقرار الحق وبطلان الباطل، وبيان الصواب من المعاني العقلية التي اشتبهت في هذا؛ مثل أن يقال: النزول والصعود والمجيء والإتيان، ونحو ذلك، مما هو أنواع جنس الحركة، لا نسلم أنه مخصوص بالجسم الصناعي الذي يتكلم المتكلمون في إثباته ونفيه، بل يوصف به ما هو أعم من ذلك.
ثم هنا طريقان:
أحدهما: أن هذه الأمور توصف بها الأجسام والأعراض فيقال: جاء البرد وجاء الحر، وجاءت الحمى، ونحو ذلك من الأعراض.
وإذا كانت الأعراض توصف بالمجيء والإتيان، علم أن ذلك ليس من خصائص الأجسام، فلا يجوز أن يوصف بهذه الأفعال حقيقة مع أنه ليس بجسم، وهذه طريقة الأشعري ومن تبعه من نظار أهل الحديث وأتباع الأئمة الأربعة وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وغيره، وهذا معنى ما حكاه في [المقالات] عن أهل السنة والحديث.
ولهذا كان قول ابن كلاب والأشعري و القلانسي ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم من أصحاب أحمد وغيرهم، أن الاستواء فعل يفعله الرب في العرش.
وكذلك يقولون في النزول.
ومعني ذلك أنه يحدث في العرش قربًا فيصير مستويًا عليه من غير أن يقوم به نفسه فعل اختياري، سواء قالوا: إن الفعل هو المفعول، أو لم يقولوا بذلك، وكذلك النزول عندهم، فهم يجعلون الأفعال اللازمة بمنزلة الأفعال المتعدية؛ وذلك لأنهم اعتقدوا أنه لا يقوم به فعل اختياري؛ لأن ذلك حادث، فقيامه به يستلزم أن تقوم به الحوادث، فنفوا ذلك لهذا الأصل الذي اعتقدوه.
الطريق الثاني: أن يقال: المجيء والإتيان والصعود والنزول توصف به روح الإنسان التي تفارقه بالموت، وتسمى النفس، وتوصف به الملائكة، وليس نزول الروح وصعودها من جنس نزول البدن وصعوده؛ فإن روح المؤمن تصعد إلى فوق السموات، ثم تهبط إلى الأرض، فيما بين قبضها ووضع الميت في قبره.
وهذا زمن يسير، لا يصعد البدن إلى ما فوق السموات، ثم ينزل إلى الأرض في مثل هذا الزمان.
وكذلك صعودها ثم عودها إلى البدن في النوم واليقظة؛ ولهذا يشبه بعض الناس نزولها إلى القبر بالشعاع، لكن ليس هذا مثالا مطابقًا.
فإن نفس الشمس لا تنزل، والشعاع الذي يظهر على الأرض هو عرض من الأعراض يحدث بسبب الشمس، ليس هو الشمس ولا صفة قائمة بها، والروح نفسها تصعد وتنزل، ففي الحديث المشهور حديث البراء بن عازب رضي اللّه عنه في قبض الروح وفتنة القبر، وقد رواه الإمام أحمد وغيره، ورواه أبو داود أيضًا واختصره، وكذلك النسائي، وابن ماجه، ورواه أبو عوانة في [صحيحه] بطوله، وفي روايته عن زاذان: سمعت البراء، وذلك يبطل قول من قال: إنه لم يسمعه منه.
ورواه الحاكم في [صحيحه] من حديث أبي معاوية، قال: حدثنا الأعمش، ثنا المنهال بن عمرو، عن أبي عمرو زاذان، عن البراء بن عازب رضي اللّه عنهما قال: خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في جنازة فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، وذكر الحديث بطوله.
ورواه الحاكم أيضًا من حديث محمد بن الفضل، قال: حدثنا الأعمش، فذكره.
وقال في آخره: حدثنا فضيل، حدثني أبي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة بهذا الحديث، إلا أنه قال .
قال: وقد رواه شعبة، وزائدة، وغيرهما، عن الأعمش، ورواه مُؤَمَّل، عن الثوري عنه، قال: وهو على شرطهما قد احتجا بالمنهال بن عمرو، قال: وقد روى ابن جرير عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن والكافر، ثم ذكر طرفًا من حديث القبر، وقد رواه الإمام أحمد في [مسنده] عن عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن يونس بن خباب، عن المنهال بن عمرو، الحديث بطوله. قال: وكذلك أبوخالد الدالاني، وعمرو بن قيس الملائي، والحسن بن عبيد الله النخعي، عن المنهال، ورواه شعيب بن صفوان، عن يونس بن خباب، فقال: عن المنهال، عن زاذان، عن أبي البختري، قال، سمعت البراء قال: وهذا وَهْم من شعيب، فقد رواه معمر ومهدي بن ميمون وعباد بن عباد عن يونس التامر.
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: وأما حديث البراء رواه المنهال بن عمرو عن زاذان، عن البراء، فحديث مشهور رواه عن المنهال الجَمُّ الغَفِير [الجمّ: الكثير، والغفير: المجتمع، أي العدد الكثير بجملتهم].
ورواه عن البراء عدي بن ثابت، ومحمد بن عقبة، وغيرهما.
ورواه عن زاذان عطاء بن السائب.
قال: وهو حديث أجمع رواة الأثر على شهرته واستفاضته، وقال الحافظ أبو عبد اللّه بن منده: هذا الحديث إسناده متصل مشهور، رواه جماعة عن البراء.
وقال الإمام أحمد في [المسند]: حدثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب رضي اللّه عنه قال : {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]. .
قلت: هذا قد رواه عن البراء بن عازب غير واحد غير زاذان، منهم: عدي بن ثابت، ومحمد بن عقبة، ومجاهد.
قال الحافظ أبو عبد اللّه محمد بن إسحاق بن منده في كتاب [الروح والنفس]: حدثنا محمد بن يعقوب بن يوسف، ثنا محمد بن إسحاق الصَّغَاني، ثنا أبو النضر هاشم بن قاسم، ثنا عيسى بن المسيَّب، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب، قال [حديدة ذات شعب يشوى عليها اللحم]. .
وقال ابن منده: رواه الإمام أحمد بن حنبل، ومحمود بن غيلان، وغيرهما عن أبي النضر.
ومن ذلك حديث ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة.
وقد رواه الإمام أحمد في [مسنده] وغيره.
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: هذا حديث متفق على عدالة ناقليه.
اتفق الإمامان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج على ابن أبي ذئب ومحمد بن عمرو بن عطاء، وسعيد بن يسار، وهم من شرطهما، ورواه المتقدمون الكبار عن ابن أبي ذئب مثل ابن أبي فديك، وعنه دحيم بن إبراهيم.
قلت: وقد رواه عن ابن أبي ذئب غير واحد، ولكن هذا سياق حديث ابن أبي فديك لتقدمه.
قال ابن أبي فديك: حدثني محمد بن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال . وذكر تمام الحديث.
والمقصود أن في حديث أبي هريرة قوله كما في حديث البراء ابن عازب، وحديث أبي هريرة روي من طرق تصدق حديث البراء بن عازب، وفي بعض طرقه سياق حديث البراء بطوله، كما ذكره الحاكم، مع أن سائر الأحاديث الصحيحة المتواترة تدل على عود الروح إلى البدن؛ إذ المسألة للبدن بلا روح قول قاله طائفة من الناس وأنكره الجمهور، وكذلك السؤال للروح بلا بدن قاله ابن ميسرة وابن حزم، ولو كان كذلك لم يكن للقبر بالروح اختصاص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الخامس (العقيدة)
- التصنيف: