قولان ضعيفان للجهمية ونحوهم
منذ 2006-12-01
السؤال: قولان ضعيفان للجهمية ونحوهم
الإجابة: وأما من قال من الجهمية ونحوهم: إنه قد يعذب العاجزين، ومن قال من
المعتزلة ونحوهم من القدرية: إن كل مجتهد فإنه لابد أن يعرف الحق،
وإن من لم يعرفه فلتفريطه لا لعجزه، فهما قولان ضعيفان، و بسببهما
صارت الطوائف المختلفة من أهل القبلة يكفر بعضهم بعضًا، ويلعن بعضهم
بعضًا.
فيقال لأرسطو وأتباعه ممن رأى دوام الفاعلية ولوازمها: العقل الصريح لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم، لا فلك ولا غيره، وإنما يدل على أن الرب لم يزل فاعلاً.
وحينئذ فإذا قدر أنه لم يزل يخلق شيئا بعد شيء كان كل ما سواه مخلوقًا محدثا مسبوقًا بالعدم، ولم يكن من العالم شيء قديم، وهذا التقدير ليس معكم ما يبطله فلماذا تنفونه؟ ! ونفس قدر الفعل هو المسمى بالزمان، فإن الزمان إذا قيل: أنه مقدار الحركة، كان جنس الزمان مقدار جنس الحركة، لا يتعين في ذلك أن يكون مقدار حركة الشمس أو الفلك.
وأهل الملل متفقون على أن اللّه خلق السموات والأرض في ستة أيام، وخلق ذلك من مادة كانت موجودة قبل هذه السموات والأرض، وهو الدخان الذي هو البخار، كما قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، وهذا الدخان هو بخار الماء الذي كان حينئذ موجودًا، كما جاءت بذلك الآثار عن الصحابة والتابعين، وكما عليه أهل الكتاب، كما ذكر هذا كله في موضع آخر.
وتلك الأيام لم تكن مقدار حركة هذه الشمس وهذا الفلك، فإن هذا مما خلق في تلك الأيام، بل تلك الأيام مقدرة بحركة أخرى.
وكذلك إذا شق اللّه هذه السموات، وأقام القيامة، وأدخل أهل الجنة الجنة، قال تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62]، وقد جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه تبارك وتعالى يتجلى لعباده المؤمنين يوم الجمعة، وأن أعلاهم منزلة من يرى اللّه تعالى كل يوم مرتين، وليس في الجنة شمس ولا قمر، ولا هناك حركة فلك، بل ذلك الزمان مقدر بحركات، كما جاء في الآثار أنهم يعرفون ذلك بأنوار تظهر من جهة العرش.
وإذا كان مدلول الدليل العقلي أنه لا بد أنه قديم تقوم به الأفعال شيئًا بعد شيء، فهذا إنما يناقض قول المبتدعة من أهل الملل الذين ابتدعوا الكلام المحدث الذي ذمه السلف والأئمة الذين قالوا: إن الرب لم يزل معطلا عن الفعل والكلام.
فصار ما علمته العقلاء من أصناف الأمم من الفلاسفة وغيرهم بصريح المعقول، هو عاضد وناصر لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على من ابتدع في ملته ما يخالف أقواله.
وكان ما علم بالشرع مع صريح العقل أيضًا راد لما يقوله الفلاسفة الدهرية من قدم شيء من العالم مع اللّه، بل القول بقدم العالم قول اتفق جماهير العقلاء على بطلانه، فليس أهل الملة وحدهم تبطله، بل أهل الملل كلهم، وجمهور من سواهم من المجوس وأصناف المشركين، مشركي العرب، ومشركي الهند وغيرهم من الأمم.
وجماهير أساطين الفلاسفة كلهم معترفون بأن هذا العالم محدث كائن بعد أن لم يكن، بل وعامتهم معترفون بأن اللّه خالق كل شيء، والعرب المشركون كلهم كانوا يعترفون بأن اللّّه خالق كل شيء وأن هذا العالم كله مخلوق، واللّه خالقه وربه، وهذه الأمور مبسوطة في موضعها.
والمقصود هنا الكلام على ما يحتاج إليه من معرفة [حديث النزول] وأمثاله، وهما [الأصلان المتقدمان].
ومن تمام الأصل الثاني لفظ [الحركة]: هل يوصف اللّه بها أم يجب نفيه عنه؟
اختلف فيه المسلمون، وغيرهم من أهل الملل، وغير أهل الملل من أهل الحديث وأهل الكلام، وأهل الفلسفة وغيرهم على ثلاثة أقوال.
وهذه الثلاثة موجودة في أصحاب الأئمة الأربعة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم.
وقد ذكر القاضي أبو يعلى الأقوال الثلاثة عن أصحاب الإمام أحمد في [الروايتين والوجهين] وغير ذلك من الكتب.
وقبل ذلك ينبغي أن يعرف أن لفظ الحركة والانتقال والتغير والتحول، ونحو ذلك، ألفاظ مجملة؛ فإن المتكلمين إنما يطلقون لفظ الحركة على الحركة المكانية، وهو انتقال الجسم من مكان إلى مكان بحيث يكون قد فرغ الحيز الأول وشغل الثاني، كحركة أجسامنا من حيز إلى حيز، وحركة الهواء والماء، والتراب والسحاب، من حيز إلى حيز، بحيث يفرغ الأول ويشغل الثاني، فأكثر المتكلمين لا يعرفون للحركة معنى إلا هذا.
ومن هنا نفوا ما جاءت به النصوص من أنواع جنس الحركة؛ فإنهم ظنوا أن جميعها إنما تدل على هذا، وكذلك من أثبتها وفهم منها كلها هذا، كالذين فهموا من نزوله إلى السماء الدنيا أنه يبقى فوقه بعض مخلوقاته، فلا يكون هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، ولا يكون هو العلي الأعلى، ويلزمهم ألا يكون مستويا على العرش بحال، كما تقدم.
والفلاسفة يطلقون لفظ [الحركة] على كل ما فيه تحول من حال إلى حال.
ويقولون أيضا: حقيقة الحركة هي الحدوث أو الحصول، والخروج من القوة إلى الفعل يسيرًا يسيرًا بالتدريج. قالوا: وهذه العبارات دالة على معنى الحركة.
وقد يحدون بها الحركة.
وهم متنازعون في الرب تعالى: هل تقوم به جنس الحركة؟ على قولين.
وأصحاب أرسطو جعلوا الحركة مختصة بالأجسام، و يصفون النفس بنوع من الحركة، وليست عندهم جسمًا فيتناقضون.
وكانت الحركة عندهم ثلاثة أنواع، فزاد ابن سينا فيها قسمًا رابعًا فصارت أربعة.
ويجعلون الحركة جنسًا تحته أنواع: حركة في الكيف، وحركة في الكم، وحركة في الوضع، وحركة في الأين.
فالحركة في الكيف: هي تحول الشيء من صفة إلى صفة؛ مثل اسوداده واحمراره واخضراره واصفراره، ومثل مصيره حلوًا وحامضًا، ومثل تغير رائحته، وكذلك في النفوس كعلم الإنسان بعد جهله، وحبه بعد بغضه، وإيمانه بعد كفره، وفرحه بعد حزنه، ورضاه بعد غضبه، كل هذه الأحوال النفسانية حركة في الكيف، وهذا مما احتج به من جوز منهم الحركة، فإن إرادته لإحداث الشيء عندهم حركة.
والحركة في الكم: مثل امتداد الشيء، مثل كبر الحيوان بعد صغره، وطوله بعد قصره، ومثل امتداد الشجر والنبات وامتداد عروقه في الأرض وأغصانه في الهواء، فهذا حركة في المقدار والكمية، كما أن الأول حركة في الصفات والكيفية.
وأما الحركة في الوضع: فمثل دوران الشيء في موضع واحد، كدوران [الفلك] و[المنجمون] الذي يسمى الدولاب، وكحركة الرحى وغير ذلك، فإنه لا ينتقل من حيز إلى حيز، بل حيزه واحد، لكن يختلف في أوضاعه، فيكون الجزء منه تارة محاذيًا للجهة العليا فيصير محاذيًا للجهة السفلى، أو للجهة اليمنى فيصير محاذيًا للجهة اليسرى.
وهذا النوع يقولون: إن ابن سينا زاده.
والرابع: الحركة في الأين: وهي الحركة المكانية، وهو انتقاله من حيز إلى حيز.
وأما عموم أهل اللغة فيطلقون لفظ الحركة على جنس الفعل.
فكل من فعل فعلًا فقد تحرك عندهم، ويسمون أحوال النفس حركة، فيقولون: تحركت فيه المحبة، وتحركت فيه الحمية، وتحرك غضبه، وتوصف هذه الأحوال بالحركة والسكون، فيقال: سكن غضبه، قال تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ} [الأعراف:154]، فوصف الغضب بالسكوت، وفي قراءة ابن مسعود رضي اللّه عنه ومعاوية ابن قرة، وعكرمة: [ولما سكن] بالنون وعلى القراءة المشهورة [بالتاء] قال المفسرون: سكت الغضب: أي سكن.
وكذلك قال أهل اللغة؛ الزجاج وغيره.
قال الجوهري: سكت الغضب مثل سكن، فالسكون أخص، فكل ساكت ساكن، وليس كل ساكن ساكتًا، وإذا وصف بالسكون دل على أنه كان متحركا، وهذا وصف للأعراض النفسانية بالحركة والسكون.
والأشعري قد استدل على أن الحركة وأنواعها لا تختص بالأجسام بما وجد من استعمالهم ذلك في الأعراض، قال: فإنهم يقولون: جاءت الحمى، وجاء البرد، وجاءت العافية، وجاء الشتاء، وجاء الحر.
ونحو ذلك مما يوصف بالمجيء والإتيان من الأعراض.
ومجيء هذه الأعراض هو حدوث وتغير وتحول من حال إلى حال.
فإن قيل: ما وصف بالحركة والسكون من هذه الأعراض فإنما هو لتحرك المحل الحامل لذلك العرض و إلا فالعرض لا يقوم بنفسه، ولا يفارق محله، فإن الحمى والحر والبرد يقوم بالهواء الذي يحمل الحر والبرد.
وكذلك الغضب هو غليان دم القلب لطلب الانتقام، وهذا حركة الدم؛ فإذا سكن غليان الدم سكن الغضب.
قيل: ليس الأمر كذلك، بل هذا يستعمل فيما يحدث من الأعراض في المحل شيئًا فشيئًا، وإن لم يكن هناك جسم ينتقل معه، كما تقدم من الحركة في الكيفيات والصفات؛ فإن الماء إذا سخن حدثت فيه الحرارة، وسخن الوعاء الذي فيه الماء من غير انتقال جسم حار إليه، وإذا وضع الماء المسخن في المكان البارد، برد من غير انتقال جسم بارد إليه.
وكذلك الحمى حرارة أو برودة تقوم بالبدن من غير أن ينتقل إلى كل جزء من البدن جسم حار أو بارد.
والغضب وإن كان بعض الناس يقول: إنه غليان دم القلب فهو صفة تقوم بنفس الغضبان غير غليان دم القلب؛ وإنما ذلك أثره، فإن حرارة الغضب تسخن الدم حتى يغلي.
فإن مبدأ الغضب من النفس، هي التي تتصف به أولًا، ثم يسرى ذلك إلى الجسم، وكذلك الحزن والفرح وسائر الأحوال النفسانية.
والحزن يوجب دخول الدم؛ ولهذا يصفر لون الحزين، وهو من الأحوال النفسانية، لكن الحزين يستشعر العجز عن دفع المكروه الذي أصابه وييأس من ذلك؛ فيغور دمه، والغضبان يستشعر قدرته على الدفع أو المعاقبة، فينبسط دمه.
والحركة والسكون والطمأنينة التي توصف بها النفس، ليست مماثلة لما يوصف به الجسم، قال تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] والاطمئنان هو السكون، قال الجوهري: اطمأن الرجل إطمئنانًا وطمأنينة: أي سكن، قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [الفجر: 27-28] وكذلك للقلوب سكينة تناسبها، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4].
وكذلك [الريب] حركة النفس للشك، ومنه الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بظبي حاقف فقال [وقوله : أي نائم].
ويقال: رابني منه ريب، و [و (لا يريبه): أي لا يزعجه]، وقال فجعل الطمأنينة ضد الريبة وكذلك اليقين ضد الريب.
واليقين يتضمن معنى الطمأنينة والسكون، ومنه: ماء يقن، وكذلك يقال: انزعج.
وأزعجه فانزعج أي: أقلقه، ويقال ذلك لمن قلقت نفسه، ولمن قلق بنفسه وبدنه حتى فارق مكانه، وكذلك يقال: قلقت نفسه، واضطربت نفسه، ونحو ذلك من أنواع الحركة.
ويسمى ما يألفه جنس الإنسان ويحبه سكنًا؛ لأنه يسكن إليه.
ويقال: فلان يسكن إلى فلان ويطمئن إليه، ويقال: القلب يسكن إلى فلان، ويطمئن إليه، إذا كان مأمونًا معروفًا بالصدق؛ فإن الصدق يورث الطمأنينة والسكون.
وقد سميت الزوجة سكنا، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:12]، وقال: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، فيسكن الرجل إلى المرأة بقلبه وبدنه جميعًا.
وقد يكون بدن الشخص ساكنًا ونفسه متحركة حركة قوية، وبالعكس قد يسكن قلبه، وبدنه متحرك.
والمحب للشيء المشتاق إليه يوصف بأنه متحرك إليه؛ ولهذا يقال: العشق حركة نفس فارغة.
فالقلوب تتحرك إلى اللّه تعالى بالمحبة والإنابة والتوجه، وغير ذلك من أعمال القلوب، وإن كان البدن لا يتحرك إلى فوق، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم .
ومع هذا فبدنه أسفل ما يكون.
فينبغي أن يعرف أن الحركة جنس تحته أنواع مختلفة باختلاف الموصوفات بذلك.
وما يوصف به نفس الإنسان من إرادة ومحبة وكراهية وميل ونحو ذلك،كلها فيها تحول النفس من حال إلى حال وعمل للنفس، وذلك حركة لها بحسبها؛ ولهذا يعبر عن هذه المعاني بألفاظ الحركة، فيقال: فلان يهفو إلى فلان كما قيل:
يهفو إلى البان من قلبي نوازعه ** وما بي البان بل من دارة البان
وهذا اللفظ يستعمل في حركة الشيء الخفيف بسرعة، كما يقال: هفا الطائر بجناحه، أي: خفق وطار، وهفا الشيء في الهواء، إذا ذهب كالصوفة ونحوها، ومر الظبي يهفو، أي: يطفو، ومنه قيل للزلة: هفوة، كما سميت زلة، والزلة حركة خفيفة، وكذلك الهفوة.
وكذلك يسمى المحب المشتاق الذي صار حبه أقوى من العلاقة [صبًا] وحاله صبابة، وهو رقة الشوق وحرارته، والصَبُّ المحب المشتاق؛ وذلك لانصباب قلبه إلى المحبوب كما ينصب الماء الجاري، والماء ينصب من الجبل، أي: ينحدر.
فلما كان في انحداره يتحرك حركة لا يرده شيء سميت حركة الصب [صبابة]، وهذا يستعمل في المحبة المحمودة والمذمومة.
ومنه الحديث: إن أبا عبيدة رضي اللّه عنه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في سرية بكى صبابة وشوقًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والصبابة والصَبُّ متفقان في الاشتقاق الأكبر.
والعرب تعاقب بين الحرف المعتل والحرف المضعف كما يقولون: تقضى البازي وتقضض، وصبا يصبو: معناه: مال، وسمي الصبِي صَبِيًّا؛ لسرعة ميله.
قال الجوهري: والصبي أيضًا من الشوق، يقال منه: تصابي، وصبا يصبو صبوة وصبوًا، أي: مال إلى الجهل والفتوة، وأصبته الجارية.
وقد يستعمل هذا في الميل المحمود على قراءة من قرأ: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابين} بلا همزة في قراءة نافع، فإنه لا يهمز{الصابئين} في جميع القرآن.
وبعضهم قد حمده اللّه تعالى وكذلك يقال: حن إليه حنينًا، ومنه: حنه في الاشتقاق الأكبر يحنو عليه حنوًا.
قال الجوهري: حنوت عليه عطفت عليه، ويحني عليه، أي: يعطف، مثل تحنن، كما قال الشاعر:
تحنى عليك النفس من لاعج الهوى** فكيف تحنيها وأنت تهينها؟
وقال: الحنين: الشوق وتوقان النفس، ويقال: حن إليه يحن حنينًا، فهو حان والحنان الرحمة. يقال: حن عليه يحن حنانًا، ومنه قوله تعالى: {وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا} [مريم:13].
والحنان بالتشديد: ذو الرحمة، وتحنن عليه: ترحم، والعرب تقول: حنانيك يا رب، وحنانك، بمعنى واحد، أي: رحمتك، وهذا كلام الجوهري.
وفي الأثر في تفسير [الحنّان، المنّان]: أن الحنّان هو الذي يقبل على من أعرض عنه، والمنّان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال، وهذا باب واسع.
والمقصود هنا أن هذا كله من أنواع جنس الحركة العامة، والحركة العامة هي التحول من حال إلى حال، ومنه قولنا: لا حول ولا قوة إلا باللّه.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي موسي رضي اللّه عنه .
وفي صحيح مسلم وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال .
فلفظ الحول يتناول كل تحول من حال إلى حال، والقوة هي القدرة على ذلك التحول؛ فدلت هذه الكلمة العظيمة على أنه ليس للعالم العلوي والسفلي حركة وتحول من حال إلى حال، ولا قدرة على ذلك إلا باللّه.
ومن الناس من يفسر ذلك بمعنى خاص فيقول: لا حول من معصيته إلا بعصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته.
والصواب الذي عليه الجمهورهو التفسير الأول، وهو الذي يدل عليه اللفظ، فإن الحوْل لا يختص بالحول عن المعصية، وكذلك القوة لا تختص بالقوة على الطاعة، بل لفظ الحول يعم كل تحول.
ومنه لفظ [الحيلة] ووزنها فعلة بالكسر، وهي النوع المختص من الحول كما يقال: الجلسة، والقعدة، واللبسة، والأكلة، و الضجعة ونحو ذلك بالكسر هي النوع الخاص، وهو بالفتح المرة الواحدة. فالحيلة أصلها حولة، لكن لما جاءت الواو الساكنة بعد كسرة قلبت ياء، كما في لفظ ميزان وميقات، وميعاد وزنه مفعال؛ وقياسه موزان وموقات، لكن لما جاءت الواو الساكنة بعد كسرة قلبت ياء، قال تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [النساء:98] من الحيل؛ فإنها نكرة في سياق النفي فتعم جميع أنواع الحيل.
وكذلك لفظ [القوة]، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54]، ولفظ القوة قد يراد به ما كان في القدرة أكمل من غيره، فهو قدرة أرجح من غيرها، أو القدرة التامة.
ولفظ [القوة] قد يعم القوة التي في الجمادات بخلاف لفظ القدرة؛ فلهذا كان المنفي بلفظ [القوة] أشمل وأكمل.
فإذا لم تكن قوة إلا به لم تكن قدرة إلا به بطريق الأولى.
وهذا باب واسع.
والمقصود هنا أن الناس متنازعون في جنس [الحركة العامة] التي تتناول ما يقوم بذات الموصوف من الأمور الاختيارية كالغضب والرضا والفرح، وكالدنو والقرب والاستواء والنزول، بل والأفعال المتعدية كالخلق والإحسان وغير ذلك على ثلاثة أقوال:
أحدها: قول من ينفي ذلك مطلقًا وبكل معنى، فلا يجوز أن يقوم بالرب شيء من الأمور الاختيارية.
فلا يرضى على أحد بعد أن لم يكن راضيًا عنه، ولا يغضب عليه بعد أن لم يكن غضبان، ولا يفرح بالتوبة بعد التوبة، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته إذا قيل: إن ذلك قائم بذاته.
وهذا القول أول من عرف به هم [الجهمية] و[المعتزلة] وانتقل عنهم إلى الكُلابية والأشعرية والسالمية ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة، كأبي الحسن التميمي، وابنه أبى الفضل، وابن ابنه رزق اللّه، والقاضي أبى يعلى، وابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني، وأبى الفرج بن الجوزي؛ وغير هؤلاء من أصحاب أحمد وإن كان الواحد من هؤلاء قد يتناقض كلامه وكأبي المعالي الجُوَيْنِيّ وأمثاله من أصحاب الشافعي، وكأبي الوليد الباجي وطائفة من أصحاب مالك، وكأبي الحسن الكَرْخي وطائفة من أصحاب أبي حنيفة.
والقول الثاني: إثبات ذلك، وهو قول الهشامية والكرامية وغيرهم من طوائف أهل الكلام، الذين صرحوا بلفظ الحركة.
وأما الذين أثبتوها بالمعنى العام حتى يدخل في ذلك قيام الأمور والأفعال الاختيارية بذاته، فهذا قول طوائف غير هؤلاء، كأبي الحسين البصري، وهو اختيار أبى عبد اللّه بن الخطيب الرازي، وغيره من النظار، وذكر طائفة: أن هذا القول لازم لجميع الطوائف.
وذكر عثمان بن سعيد الدارمي إثبات لفظ الحركة في كتاب نقضه على بِشْر المرِّيسِي، ونصره على أنه قول أهل السنة والحديث، وذكره حرب بن إسماعيل الكرماني، لما ذكر مذهب أهل السنة والأثر عن أهل السنة والحديث قاطبة، وذكر ممن لقي منهم على ذلك: أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وعبد اللّه بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور.
وهو قول أبى عبد اللّه بن حامد وغيره.
وكثير من أهل الحديث والسنة يقول: المعنى صحيح، لكن لا يطلق هذا اللفظ لعدم مجيء الأثر به، كما ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر وغيره في كلامهم على حديث النزول.
والقول المشهور عن السلف عند أهل السنة والحديث: هو الإقرار بما ورد به الكتاب والسنة من أنه يأتي وينزل، وغير ذلك من الأفعال اللازمة.
قال أبو عمرو الطلمنكي: أجمعوا يعني أهل السنة والجماعة على أن اللّه يأتي يوم القيامة والملائكة صفّا صفّا لحساب الأمم وعرضها كما يشاء وكيف يشاء، قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة:210].
وقال تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22].
قال: وأجمعوا على أن اللّه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا على ما أتت به الآثار كيف شاء، لا يحدون في ذلك شيئًا، ثم روى بإسناده عن محمد بن وضاح قال: وسألت يحيى بن معين عن النزول فقال: نعم، أقر به، ولا أحد فيه حدًا.
والقول الثالث: الإمساك عن النفي والإثبات، وهو اختيار كثير من أهل الحديث والفقهاء والصوفية، كابن بطة وغيره.
وهؤلاء فيهم من يعرض بقلبه عن تقدير أحد الأمرين، ومنهم من يميل بقلبه إلى أحدهما، ولكن لا يتكلم لا بنفي ولا بإثبات.
والذي يجب القطع به أن اللّه ليس كمثله شيء في جميع ما يصف به نفسه.
فمن وصفه بمثل صفات المخلوقين في شيء من الأشياء فهو مخطئ قطعًا، كمن قال: إنه ينزل فيتحرك وينتقل، كما ينزل الإنسان من السطح إلى أسفل الدار، كقول من يقول: إنه يخلو منه العرش، فيكون نزوله تفريغًا لمكان وشغلا لآخر، فهذا باطل يجب تنزيه الرب، عنه كما تقدم.
وهذا هو الذي تقوم على نفيه وتنزيه الرب عنه الأدلة الشرعية والعقلية؛ فإن اللّه سبحانه وتعالى أخبر أنه الأعلى، وقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1].
فإن كان لفظ العلو لا يقتضي علو ذاته فوق العرش، لم يلزم أن يكون على العرش.
وحينئذ، فلفظ النزول ونحوه يتأول قطعًا، إذ ليس هناك شيء يتصور منه النزول.
وإن كان لفظ العلو يقتضي علو ذاته فوق العرش، فهو سبحانه الأعلى من كل شيء، كما أنه أكبر من كل شيء.
فلو صار تحت شيء من العالم لكان بعض مخلوقاته أعلى منه، ولم يكن هو الأعلى، وهذا خلاف ما وصف به نفسه.
وأيضًا، فقد أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، فإن لم يكن استواؤه على العرش يتضمن أنه فوق العرش، لم يكن الاستواء معلومًا، وجاز حينئذ ألا يكون فوق العرش شيء؛ فيلزم تأويل النزول وغيره.
وإن كان يتضمن أنه فوق العرش فيلزم استواؤه على العرش، وقد أخبر أنه استوى عليه لما خلق السموات والأرض في ستة أيام، وأخبر بذلك عند إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بألوف من السنين، ودل كلامه على أنه عند نزول القرآن مستو على عرشه، فإنه قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4].
وفي حديث الأوعال [جمع الوَعْل، وهو تَيْس الجبل] الذي رواه أهل السنن كأبي داود والترمذي وغيرهما : لما مرت سحابة قال النبي صلى الله عليه وسلم .
وكذلك في حديث جُبَيْر بن مُطْعَم الذي رواه أبو داود وغيره عن جبير بن مطعم قال .
وهذا إخبار عن أنه سبحانه فوق العرش في تلك الحال، كما دل عليه القرآن، كما أخبر أنه استوى على العرش، وأنه معنا أينما كنا، وكونه معنا أمر خاص؛ فكذلك كونه مستويًا على العرش.
وكذلك سائر النصوص تبين وصفه بالعلو على عرشه في هذا الزمان، فعلم أن الرب سبحانه لم يزل عاليًا على عرشه.
فلو كان في نصف الزمان أو كله تحت العرش أو تحت بعض المخلوقات، لكان هذا مناقضًا لذلك.
وأيضًا، فقد ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ، وهذا نص في أن اللّه ليس فوقه شيء، وكونه الظاهر صفة لازمة له مثل كونه الأول والآخر، وكذلك الباطن، فلا يزال ظاهرًا ليس فوقه شيء، ولا يزال باطنًا ليس دونه شيء.
وأيضا، فحديث أبي ذر وأبي هريرة و قتادة، المذكور في تفسير هذه [الأسماء الأربعة] الذي فيه ذكر الأدلاء، قد ذكرناه في [مسألة الإحاطة]، وهو مما يبين أن اللّه لا يزال عاليًا على المخلوقات مع ظهوره وبطونه وفي حال نزوله إلى السماء الدنيا.
وأيضًا، فقد قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].
فمن هذه عظمته يمتنع أن يحصره شيء من مخلوقاته، وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية أحاديث صحيحة اتفق أهل العلم بالحديث على صحتها، وتلقيها بالقبول والتصديق، واللّه سبحانه وتعالى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الخامس (العقيدة)
فيقال لأرسطو وأتباعه ممن رأى دوام الفاعلية ولوازمها: العقل الصريح لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم، لا فلك ولا غيره، وإنما يدل على أن الرب لم يزل فاعلاً.
وحينئذ فإذا قدر أنه لم يزل يخلق شيئا بعد شيء كان كل ما سواه مخلوقًا محدثا مسبوقًا بالعدم، ولم يكن من العالم شيء قديم، وهذا التقدير ليس معكم ما يبطله فلماذا تنفونه؟ ! ونفس قدر الفعل هو المسمى بالزمان، فإن الزمان إذا قيل: أنه مقدار الحركة، كان جنس الزمان مقدار جنس الحركة، لا يتعين في ذلك أن يكون مقدار حركة الشمس أو الفلك.
وأهل الملل متفقون على أن اللّه خلق السموات والأرض في ستة أيام، وخلق ذلك من مادة كانت موجودة قبل هذه السموات والأرض، وهو الدخان الذي هو البخار، كما قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، وهذا الدخان هو بخار الماء الذي كان حينئذ موجودًا، كما جاءت بذلك الآثار عن الصحابة والتابعين، وكما عليه أهل الكتاب، كما ذكر هذا كله في موضع آخر.
وتلك الأيام لم تكن مقدار حركة هذه الشمس وهذا الفلك، فإن هذا مما خلق في تلك الأيام، بل تلك الأيام مقدرة بحركة أخرى.
وكذلك إذا شق اللّه هذه السموات، وأقام القيامة، وأدخل أهل الجنة الجنة، قال تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62]، وقد جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه تبارك وتعالى يتجلى لعباده المؤمنين يوم الجمعة، وأن أعلاهم منزلة من يرى اللّه تعالى كل يوم مرتين، وليس في الجنة شمس ولا قمر، ولا هناك حركة فلك، بل ذلك الزمان مقدر بحركات، كما جاء في الآثار أنهم يعرفون ذلك بأنوار تظهر من جهة العرش.
وإذا كان مدلول الدليل العقلي أنه لا بد أنه قديم تقوم به الأفعال شيئًا بعد شيء، فهذا إنما يناقض قول المبتدعة من أهل الملل الذين ابتدعوا الكلام المحدث الذي ذمه السلف والأئمة الذين قالوا: إن الرب لم يزل معطلا عن الفعل والكلام.
فصار ما علمته العقلاء من أصناف الأمم من الفلاسفة وغيرهم بصريح المعقول، هو عاضد وناصر لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على من ابتدع في ملته ما يخالف أقواله.
وكان ما علم بالشرع مع صريح العقل أيضًا راد لما يقوله الفلاسفة الدهرية من قدم شيء من العالم مع اللّه، بل القول بقدم العالم قول اتفق جماهير العقلاء على بطلانه، فليس أهل الملة وحدهم تبطله، بل أهل الملل كلهم، وجمهور من سواهم من المجوس وأصناف المشركين، مشركي العرب، ومشركي الهند وغيرهم من الأمم.
وجماهير أساطين الفلاسفة كلهم معترفون بأن هذا العالم محدث كائن بعد أن لم يكن، بل وعامتهم معترفون بأن اللّه خالق كل شيء، والعرب المشركون كلهم كانوا يعترفون بأن اللّّه خالق كل شيء وأن هذا العالم كله مخلوق، واللّه خالقه وربه، وهذه الأمور مبسوطة في موضعها.
والمقصود هنا الكلام على ما يحتاج إليه من معرفة [حديث النزول] وأمثاله، وهما [الأصلان المتقدمان].
ومن تمام الأصل الثاني لفظ [الحركة]: هل يوصف اللّه بها أم يجب نفيه عنه؟
اختلف فيه المسلمون، وغيرهم من أهل الملل، وغير أهل الملل من أهل الحديث وأهل الكلام، وأهل الفلسفة وغيرهم على ثلاثة أقوال.
وهذه الثلاثة موجودة في أصحاب الأئمة الأربعة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم.
وقد ذكر القاضي أبو يعلى الأقوال الثلاثة عن أصحاب الإمام أحمد في [الروايتين والوجهين] وغير ذلك من الكتب.
وقبل ذلك ينبغي أن يعرف أن لفظ الحركة والانتقال والتغير والتحول، ونحو ذلك، ألفاظ مجملة؛ فإن المتكلمين إنما يطلقون لفظ الحركة على الحركة المكانية، وهو انتقال الجسم من مكان إلى مكان بحيث يكون قد فرغ الحيز الأول وشغل الثاني، كحركة أجسامنا من حيز إلى حيز، وحركة الهواء والماء، والتراب والسحاب، من حيز إلى حيز، بحيث يفرغ الأول ويشغل الثاني، فأكثر المتكلمين لا يعرفون للحركة معنى إلا هذا.
ومن هنا نفوا ما جاءت به النصوص من أنواع جنس الحركة؛ فإنهم ظنوا أن جميعها إنما تدل على هذا، وكذلك من أثبتها وفهم منها كلها هذا، كالذين فهموا من نزوله إلى السماء الدنيا أنه يبقى فوقه بعض مخلوقاته، فلا يكون هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، ولا يكون هو العلي الأعلى، ويلزمهم ألا يكون مستويا على العرش بحال، كما تقدم.
والفلاسفة يطلقون لفظ [الحركة] على كل ما فيه تحول من حال إلى حال.
ويقولون أيضا: حقيقة الحركة هي الحدوث أو الحصول، والخروج من القوة إلى الفعل يسيرًا يسيرًا بالتدريج. قالوا: وهذه العبارات دالة على معنى الحركة.
وقد يحدون بها الحركة.
وهم متنازعون في الرب تعالى: هل تقوم به جنس الحركة؟ على قولين.
وأصحاب أرسطو جعلوا الحركة مختصة بالأجسام، و يصفون النفس بنوع من الحركة، وليست عندهم جسمًا فيتناقضون.
وكانت الحركة عندهم ثلاثة أنواع، فزاد ابن سينا فيها قسمًا رابعًا فصارت أربعة.
ويجعلون الحركة جنسًا تحته أنواع: حركة في الكيف، وحركة في الكم، وحركة في الوضع، وحركة في الأين.
فالحركة في الكيف: هي تحول الشيء من صفة إلى صفة؛ مثل اسوداده واحمراره واخضراره واصفراره، ومثل مصيره حلوًا وحامضًا، ومثل تغير رائحته، وكذلك في النفوس كعلم الإنسان بعد جهله، وحبه بعد بغضه، وإيمانه بعد كفره، وفرحه بعد حزنه، ورضاه بعد غضبه، كل هذه الأحوال النفسانية حركة في الكيف، وهذا مما احتج به من جوز منهم الحركة، فإن إرادته لإحداث الشيء عندهم حركة.
والحركة في الكم: مثل امتداد الشيء، مثل كبر الحيوان بعد صغره، وطوله بعد قصره، ومثل امتداد الشجر والنبات وامتداد عروقه في الأرض وأغصانه في الهواء، فهذا حركة في المقدار والكمية، كما أن الأول حركة في الصفات والكيفية.
وأما الحركة في الوضع: فمثل دوران الشيء في موضع واحد، كدوران [الفلك] و[المنجمون] الذي يسمى الدولاب، وكحركة الرحى وغير ذلك، فإنه لا ينتقل من حيز إلى حيز، بل حيزه واحد، لكن يختلف في أوضاعه، فيكون الجزء منه تارة محاذيًا للجهة العليا فيصير محاذيًا للجهة السفلى، أو للجهة اليمنى فيصير محاذيًا للجهة اليسرى.
وهذا النوع يقولون: إن ابن سينا زاده.
والرابع: الحركة في الأين: وهي الحركة المكانية، وهو انتقاله من حيز إلى حيز.
وأما عموم أهل اللغة فيطلقون لفظ الحركة على جنس الفعل.
فكل من فعل فعلًا فقد تحرك عندهم، ويسمون أحوال النفس حركة، فيقولون: تحركت فيه المحبة، وتحركت فيه الحمية، وتحرك غضبه، وتوصف هذه الأحوال بالحركة والسكون، فيقال: سكن غضبه، قال تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ} [الأعراف:154]، فوصف الغضب بالسكوت، وفي قراءة ابن مسعود رضي اللّه عنه ومعاوية ابن قرة، وعكرمة: [ولما سكن] بالنون وعلى القراءة المشهورة [بالتاء] قال المفسرون: سكت الغضب: أي سكن.
وكذلك قال أهل اللغة؛ الزجاج وغيره.
قال الجوهري: سكت الغضب مثل سكن، فالسكون أخص، فكل ساكت ساكن، وليس كل ساكن ساكتًا، وإذا وصف بالسكون دل على أنه كان متحركا، وهذا وصف للأعراض النفسانية بالحركة والسكون.
والأشعري قد استدل على أن الحركة وأنواعها لا تختص بالأجسام بما وجد من استعمالهم ذلك في الأعراض، قال: فإنهم يقولون: جاءت الحمى، وجاء البرد، وجاءت العافية، وجاء الشتاء، وجاء الحر.
ونحو ذلك مما يوصف بالمجيء والإتيان من الأعراض.
ومجيء هذه الأعراض هو حدوث وتغير وتحول من حال إلى حال.
فإن قيل: ما وصف بالحركة والسكون من هذه الأعراض فإنما هو لتحرك المحل الحامل لذلك العرض و إلا فالعرض لا يقوم بنفسه، ولا يفارق محله، فإن الحمى والحر والبرد يقوم بالهواء الذي يحمل الحر والبرد.
وكذلك الغضب هو غليان دم القلب لطلب الانتقام، وهذا حركة الدم؛ فإذا سكن غليان الدم سكن الغضب.
قيل: ليس الأمر كذلك، بل هذا يستعمل فيما يحدث من الأعراض في المحل شيئًا فشيئًا، وإن لم يكن هناك جسم ينتقل معه، كما تقدم من الحركة في الكيفيات والصفات؛ فإن الماء إذا سخن حدثت فيه الحرارة، وسخن الوعاء الذي فيه الماء من غير انتقال جسم حار إليه، وإذا وضع الماء المسخن في المكان البارد، برد من غير انتقال جسم بارد إليه.
وكذلك الحمى حرارة أو برودة تقوم بالبدن من غير أن ينتقل إلى كل جزء من البدن جسم حار أو بارد.
والغضب وإن كان بعض الناس يقول: إنه غليان دم القلب فهو صفة تقوم بنفس الغضبان غير غليان دم القلب؛ وإنما ذلك أثره، فإن حرارة الغضب تسخن الدم حتى يغلي.
فإن مبدأ الغضب من النفس، هي التي تتصف به أولًا، ثم يسرى ذلك إلى الجسم، وكذلك الحزن والفرح وسائر الأحوال النفسانية.
والحزن يوجب دخول الدم؛ ولهذا يصفر لون الحزين، وهو من الأحوال النفسانية، لكن الحزين يستشعر العجز عن دفع المكروه الذي أصابه وييأس من ذلك؛ فيغور دمه، والغضبان يستشعر قدرته على الدفع أو المعاقبة، فينبسط دمه.
والحركة والسكون والطمأنينة التي توصف بها النفس، ليست مماثلة لما يوصف به الجسم، قال تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] والاطمئنان هو السكون، قال الجوهري: اطمأن الرجل إطمئنانًا وطمأنينة: أي سكن، قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [الفجر: 27-28] وكذلك للقلوب سكينة تناسبها، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4].
وكذلك [الريب] حركة النفس للشك، ومنه الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بظبي حاقف فقال [وقوله : أي نائم].
ويقال: رابني منه ريب، و [و (لا يريبه): أي لا يزعجه]، وقال فجعل الطمأنينة ضد الريبة وكذلك اليقين ضد الريب.
واليقين يتضمن معنى الطمأنينة والسكون، ومنه: ماء يقن، وكذلك يقال: انزعج.
وأزعجه فانزعج أي: أقلقه، ويقال ذلك لمن قلقت نفسه، ولمن قلق بنفسه وبدنه حتى فارق مكانه، وكذلك يقال: قلقت نفسه، واضطربت نفسه، ونحو ذلك من أنواع الحركة.
ويسمى ما يألفه جنس الإنسان ويحبه سكنًا؛ لأنه يسكن إليه.
ويقال: فلان يسكن إلى فلان ويطمئن إليه، ويقال: القلب يسكن إلى فلان، ويطمئن إليه، إذا كان مأمونًا معروفًا بالصدق؛ فإن الصدق يورث الطمأنينة والسكون.
وقد سميت الزوجة سكنا، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:12]، وقال: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، فيسكن الرجل إلى المرأة بقلبه وبدنه جميعًا.
وقد يكون بدن الشخص ساكنًا ونفسه متحركة حركة قوية، وبالعكس قد يسكن قلبه، وبدنه متحرك.
والمحب للشيء المشتاق إليه يوصف بأنه متحرك إليه؛ ولهذا يقال: العشق حركة نفس فارغة.
فالقلوب تتحرك إلى اللّه تعالى بالمحبة والإنابة والتوجه، وغير ذلك من أعمال القلوب، وإن كان البدن لا يتحرك إلى فوق، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم .
ومع هذا فبدنه أسفل ما يكون.
فينبغي أن يعرف أن الحركة جنس تحته أنواع مختلفة باختلاف الموصوفات بذلك.
وما يوصف به نفس الإنسان من إرادة ومحبة وكراهية وميل ونحو ذلك،كلها فيها تحول النفس من حال إلى حال وعمل للنفس، وذلك حركة لها بحسبها؛ ولهذا يعبر عن هذه المعاني بألفاظ الحركة، فيقال: فلان يهفو إلى فلان كما قيل:
يهفو إلى البان من قلبي نوازعه ** وما بي البان بل من دارة البان
وهذا اللفظ يستعمل في حركة الشيء الخفيف بسرعة، كما يقال: هفا الطائر بجناحه، أي: خفق وطار، وهفا الشيء في الهواء، إذا ذهب كالصوفة ونحوها، ومر الظبي يهفو، أي: يطفو، ومنه قيل للزلة: هفوة، كما سميت زلة، والزلة حركة خفيفة، وكذلك الهفوة.
وكذلك يسمى المحب المشتاق الذي صار حبه أقوى من العلاقة [صبًا] وحاله صبابة، وهو رقة الشوق وحرارته، والصَبُّ المحب المشتاق؛ وذلك لانصباب قلبه إلى المحبوب كما ينصب الماء الجاري، والماء ينصب من الجبل، أي: ينحدر.
فلما كان في انحداره يتحرك حركة لا يرده شيء سميت حركة الصب [صبابة]، وهذا يستعمل في المحبة المحمودة والمذمومة.
ومنه الحديث: إن أبا عبيدة رضي اللّه عنه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في سرية بكى صبابة وشوقًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والصبابة والصَبُّ متفقان في الاشتقاق الأكبر.
والعرب تعاقب بين الحرف المعتل والحرف المضعف كما يقولون: تقضى البازي وتقضض، وصبا يصبو: معناه: مال، وسمي الصبِي صَبِيًّا؛ لسرعة ميله.
قال الجوهري: والصبي أيضًا من الشوق، يقال منه: تصابي، وصبا يصبو صبوة وصبوًا، أي: مال إلى الجهل والفتوة، وأصبته الجارية.
وقد يستعمل هذا في الميل المحمود على قراءة من قرأ: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابين} بلا همزة في قراءة نافع، فإنه لا يهمز{الصابئين} في جميع القرآن.
وبعضهم قد حمده اللّه تعالى وكذلك يقال: حن إليه حنينًا، ومنه: حنه في الاشتقاق الأكبر يحنو عليه حنوًا.
قال الجوهري: حنوت عليه عطفت عليه، ويحني عليه، أي: يعطف، مثل تحنن، كما قال الشاعر:
تحنى عليك النفس من لاعج الهوى** فكيف تحنيها وأنت تهينها؟
وقال: الحنين: الشوق وتوقان النفس، ويقال: حن إليه يحن حنينًا، فهو حان والحنان الرحمة. يقال: حن عليه يحن حنانًا، ومنه قوله تعالى: {وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا} [مريم:13].
والحنان بالتشديد: ذو الرحمة، وتحنن عليه: ترحم، والعرب تقول: حنانيك يا رب، وحنانك، بمعنى واحد، أي: رحمتك، وهذا كلام الجوهري.
وفي الأثر في تفسير [الحنّان، المنّان]: أن الحنّان هو الذي يقبل على من أعرض عنه، والمنّان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال، وهذا باب واسع.
والمقصود هنا أن هذا كله من أنواع جنس الحركة العامة، والحركة العامة هي التحول من حال إلى حال، ومنه قولنا: لا حول ولا قوة إلا باللّه.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي موسي رضي اللّه عنه .
وفي صحيح مسلم وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال .
فلفظ الحول يتناول كل تحول من حال إلى حال، والقوة هي القدرة على ذلك التحول؛ فدلت هذه الكلمة العظيمة على أنه ليس للعالم العلوي والسفلي حركة وتحول من حال إلى حال، ولا قدرة على ذلك إلا باللّه.
ومن الناس من يفسر ذلك بمعنى خاص فيقول: لا حول من معصيته إلا بعصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته.
والصواب الذي عليه الجمهورهو التفسير الأول، وهو الذي يدل عليه اللفظ، فإن الحوْل لا يختص بالحول عن المعصية، وكذلك القوة لا تختص بالقوة على الطاعة، بل لفظ الحول يعم كل تحول.
ومنه لفظ [الحيلة] ووزنها فعلة بالكسر، وهي النوع المختص من الحول كما يقال: الجلسة، والقعدة، واللبسة، والأكلة، و الضجعة ونحو ذلك بالكسر هي النوع الخاص، وهو بالفتح المرة الواحدة. فالحيلة أصلها حولة، لكن لما جاءت الواو الساكنة بعد كسرة قلبت ياء، كما في لفظ ميزان وميقات، وميعاد وزنه مفعال؛ وقياسه موزان وموقات، لكن لما جاءت الواو الساكنة بعد كسرة قلبت ياء، قال تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [النساء:98] من الحيل؛ فإنها نكرة في سياق النفي فتعم جميع أنواع الحيل.
وكذلك لفظ [القوة]، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54]، ولفظ القوة قد يراد به ما كان في القدرة أكمل من غيره، فهو قدرة أرجح من غيرها، أو القدرة التامة.
ولفظ [القوة] قد يعم القوة التي في الجمادات بخلاف لفظ القدرة؛ فلهذا كان المنفي بلفظ [القوة] أشمل وأكمل.
فإذا لم تكن قوة إلا به لم تكن قدرة إلا به بطريق الأولى.
وهذا باب واسع.
والمقصود هنا أن الناس متنازعون في جنس [الحركة العامة] التي تتناول ما يقوم بذات الموصوف من الأمور الاختيارية كالغضب والرضا والفرح، وكالدنو والقرب والاستواء والنزول، بل والأفعال المتعدية كالخلق والإحسان وغير ذلك على ثلاثة أقوال:
أحدها: قول من ينفي ذلك مطلقًا وبكل معنى، فلا يجوز أن يقوم بالرب شيء من الأمور الاختيارية.
فلا يرضى على أحد بعد أن لم يكن راضيًا عنه، ولا يغضب عليه بعد أن لم يكن غضبان، ولا يفرح بالتوبة بعد التوبة، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته إذا قيل: إن ذلك قائم بذاته.
وهذا القول أول من عرف به هم [الجهمية] و[المعتزلة] وانتقل عنهم إلى الكُلابية والأشعرية والسالمية ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة، كأبي الحسن التميمي، وابنه أبى الفضل، وابن ابنه رزق اللّه، والقاضي أبى يعلى، وابن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني، وأبى الفرج بن الجوزي؛ وغير هؤلاء من أصحاب أحمد وإن كان الواحد من هؤلاء قد يتناقض كلامه وكأبي المعالي الجُوَيْنِيّ وأمثاله من أصحاب الشافعي، وكأبي الوليد الباجي وطائفة من أصحاب مالك، وكأبي الحسن الكَرْخي وطائفة من أصحاب أبي حنيفة.
والقول الثاني: إثبات ذلك، وهو قول الهشامية والكرامية وغيرهم من طوائف أهل الكلام، الذين صرحوا بلفظ الحركة.
وأما الذين أثبتوها بالمعنى العام حتى يدخل في ذلك قيام الأمور والأفعال الاختيارية بذاته، فهذا قول طوائف غير هؤلاء، كأبي الحسين البصري، وهو اختيار أبى عبد اللّه بن الخطيب الرازي، وغيره من النظار، وذكر طائفة: أن هذا القول لازم لجميع الطوائف.
وذكر عثمان بن سعيد الدارمي إثبات لفظ الحركة في كتاب نقضه على بِشْر المرِّيسِي، ونصره على أنه قول أهل السنة والحديث، وذكره حرب بن إسماعيل الكرماني، لما ذكر مذهب أهل السنة والأثر عن أهل السنة والحديث قاطبة، وذكر ممن لقي منهم على ذلك: أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وعبد اللّه بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور.
وهو قول أبى عبد اللّه بن حامد وغيره.
وكثير من أهل الحديث والسنة يقول: المعنى صحيح، لكن لا يطلق هذا اللفظ لعدم مجيء الأثر به، كما ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر وغيره في كلامهم على حديث النزول.
والقول المشهور عن السلف عند أهل السنة والحديث: هو الإقرار بما ورد به الكتاب والسنة من أنه يأتي وينزل، وغير ذلك من الأفعال اللازمة.
قال أبو عمرو الطلمنكي: أجمعوا يعني أهل السنة والجماعة على أن اللّه يأتي يوم القيامة والملائكة صفّا صفّا لحساب الأمم وعرضها كما يشاء وكيف يشاء، قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة:210].
وقال تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22].
قال: وأجمعوا على أن اللّه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا على ما أتت به الآثار كيف شاء، لا يحدون في ذلك شيئًا، ثم روى بإسناده عن محمد بن وضاح قال: وسألت يحيى بن معين عن النزول فقال: نعم، أقر به، ولا أحد فيه حدًا.
والقول الثالث: الإمساك عن النفي والإثبات، وهو اختيار كثير من أهل الحديث والفقهاء والصوفية، كابن بطة وغيره.
وهؤلاء فيهم من يعرض بقلبه عن تقدير أحد الأمرين، ومنهم من يميل بقلبه إلى أحدهما، ولكن لا يتكلم لا بنفي ولا بإثبات.
والذي يجب القطع به أن اللّه ليس كمثله شيء في جميع ما يصف به نفسه.
فمن وصفه بمثل صفات المخلوقين في شيء من الأشياء فهو مخطئ قطعًا، كمن قال: إنه ينزل فيتحرك وينتقل، كما ينزل الإنسان من السطح إلى أسفل الدار، كقول من يقول: إنه يخلو منه العرش، فيكون نزوله تفريغًا لمكان وشغلا لآخر، فهذا باطل يجب تنزيه الرب، عنه كما تقدم.
وهذا هو الذي تقوم على نفيه وتنزيه الرب عنه الأدلة الشرعية والعقلية؛ فإن اللّه سبحانه وتعالى أخبر أنه الأعلى، وقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1].
فإن كان لفظ العلو لا يقتضي علو ذاته فوق العرش، لم يلزم أن يكون على العرش.
وحينئذ، فلفظ النزول ونحوه يتأول قطعًا، إذ ليس هناك شيء يتصور منه النزول.
وإن كان لفظ العلو يقتضي علو ذاته فوق العرش، فهو سبحانه الأعلى من كل شيء، كما أنه أكبر من كل شيء.
فلو صار تحت شيء من العالم لكان بعض مخلوقاته أعلى منه، ولم يكن هو الأعلى، وهذا خلاف ما وصف به نفسه.
وأيضًا، فقد أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، فإن لم يكن استواؤه على العرش يتضمن أنه فوق العرش، لم يكن الاستواء معلومًا، وجاز حينئذ ألا يكون فوق العرش شيء؛ فيلزم تأويل النزول وغيره.
وإن كان يتضمن أنه فوق العرش فيلزم استواؤه على العرش، وقد أخبر أنه استوى عليه لما خلق السموات والأرض في ستة أيام، وأخبر بذلك عند إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بألوف من السنين، ودل كلامه على أنه عند نزول القرآن مستو على عرشه، فإنه قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4].
وفي حديث الأوعال [جمع الوَعْل، وهو تَيْس الجبل] الذي رواه أهل السنن كأبي داود والترمذي وغيرهما : لما مرت سحابة قال النبي صلى الله عليه وسلم .
وكذلك في حديث جُبَيْر بن مُطْعَم الذي رواه أبو داود وغيره عن جبير بن مطعم قال .
وهذا إخبار عن أنه سبحانه فوق العرش في تلك الحال، كما دل عليه القرآن، كما أخبر أنه استوى على العرش، وأنه معنا أينما كنا، وكونه معنا أمر خاص؛ فكذلك كونه مستويًا على العرش.
وكذلك سائر النصوص تبين وصفه بالعلو على عرشه في هذا الزمان، فعلم أن الرب سبحانه لم يزل عاليًا على عرشه.
فلو كان في نصف الزمان أو كله تحت العرش أو تحت بعض المخلوقات، لكان هذا مناقضًا لذلك.
وأيضًا، فقد ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ، وهذا نص في أن اللّه ليس فوقه شيء، وكونه الظاهر صفة لازمة له مثل كونه الأول والآخر، وكذلك الباطن، فلا يزال ظاهرًا ليس فوقه شيء، ولا يزال باطنًا ليس دونه شيء.
وأيضا، فحديث أبي ذر وأبي هريرة و قتادة، المذكور في تفسير هذه [الأسماء الأربعة] الذي فيه ذكر الأدلاء، قد ذكرناه في [مسألة الإحاطة]، وهو مما يبين أن اللّه لا يزال عاليًا على المخلوقات مع ظهوره وبطونه وفي حال نزوله إلى السماء الدنيا.
وأيضًا، فقد قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].
فمن هذه عظمته يمتنع أن يحصره شيء من مخلوقاته، وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية أحاديث صحيحة اتفق أهل العلم بالحديث على صحتها، وتلقيها بالقبول والتصديق، واللّه سبحانه وتعالى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الخامس (العقيدة)
- التصنيف: