تفسير قوله تعالى: {والمتردية والنطيحة وما أكل السبع}
عبد الكريم بن عبد الله الخضير
برنامج فتاوى نور على الدرب، الحلقة الثانية والثمانون 20/5/1433 هـ
- التصنيفات: التفسير - فقه الأطعمة والأشربة - أصول الفقه وعلومه -
ما تفسير قوله تعالى: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}؟
في قول الله -جل وعلا-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: ٣] فالمنخنقة: هي التي تموت بالخنق، إما قصدًا بأن يخنقها شخص أو اتفاقًا بأن يتلوى عليها الحبل فيخنقها فتموت، وهي بهذا تكون حرامًا.
وأما الموقوذة: فهي التي تُضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت كما قال ابن عباس وغير واحد: (هي التي تُضرب بالخشبة حتى يوقذها فتموت)، وكان أهل الجاهلية يفعلون بها هذا، فإذا ماتت أكلوها.
وأما المتردية فهي التي تقع من شاهق أو من موضع عالٍ فتموت بذلك، فلا تحل، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (المتردية التي تسقط من جبل) أو تسقط من من حائط أو من سقف أو ما أشبه ذلك، يعني من علوّ، وقال قتادة: (المتردية هي التي تتردى في بئر)، والمعنى واحد، المقصود أنها تسقط من أعلى إلى أسفل.
وأما النطيحة: فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها، فهي حرام وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها؛ لأنها مقدور عليها فلا بد من تذكيتها، والنطيحة زنتها فعيلة، بمعنى مفعولة يعني منطوحة.
وما أكل السبع: أي ما عدا عليها سبع كأسد أو ذئب أو فهد أو نمر أو كلب فأكل بعضها فماتت بذلك، فهي حرام وإن كان قد سال منها الدم ولو من مذبحها -كما تقدم-، فلا تحل هذه بالإجماع؛ لأنها مقدور عليها، والواجب فيها التذكية بقطع الودجين والمريء -كما هو معلوم-، وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة ونحو ذلك، فحرم الله ذلك على المؤمنين.
ثم جاء الاستثناء متعقبًا لجميع ما ذكر {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}، يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: هو (عائد على ما يمكن عوده عليه)؛ لأن الاستثناء إذا تعقب جملًا أو ألفاظًا، فهل يعود على الجميع، أو يعود على الأخير، أو يعود على ما يمكن عوده عليه -كما قال الحافظ ابن كثير-؟ (عائد على ما يمكن عوده عليه مما انعقد سبب موته فأمكن تداركه بذكاة، وفيه حياة مستقرة، وذلك إنما يعود على قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} يقول: إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح، فكلوه فهو ذكي) يعني مذّكى... إلى آخر كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله-.
المقصود أن الاستثناء إذا تعقب جملًا فإنه على الخلاف بين أهل العلم هل يعود على الأخيرة أو على الجميع أو على ما يمكن عوده عليه مثل ما في القذف: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ . إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [النور: ٤ - ٥]، {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، التوبة لا تؤثر في الجلد، بل لا بد أن يتحتم جلده؛ لأنه حق مخلوق فهذا محل اتفاق أن الجلد لا يسقط عنه إذا تاب، {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} يختلف أهل العلم في قبول شهادة القاذف إذا تاب، وأما بالنسبة لارتفاع الوصف الذي هو الفسق فيعود إليه الاستثناء بالاتفاق، ثم بعد ذلك ما بينهما الذي هو قبول الشهادة، إذا قلنا أن الوصف المانع وهو الفسق من قبول الشهادة ارتفع فهذا مما يرجح قبول الشهادة.
ومن أهل العلم من يقول: إن الاستثناء لا يعود إلا إلى الجملة الأخيرة، بدليل اقتران عدم قبول الشهادة بالتأبيد، وعلى كل حال إذا ارتفع الوصف المانع من قبول الشهادة وهو الفسق ترتب على ذلك ثبوت قبول الشهادة، وهذا هو المرجح.