هل هناك تضاد في قوله تعالى {فلم يعذبكم الله بذنوبكم}؟
خالد عبد المنعم الرفاعي
قال المفسرون ان الاب لا يعذب ابنه وان الحبيب لا يعذب حبيبه ولكن لو تجادلنا مع اصحاب الملل الاخرى بهذا سيقولون نعم سيعذبنا لان الله عادل.. اليس هناك تضاد بين تفسير الاية وصفة الله العدل
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية - القرآن وعلومه -
قالت اليهود والنصارى نحن ابناء الله واحباؤة..قل فلم يعذبكم بذنوبكم...وقال المفسرون ان الاب لا يعذب ابنه وان الحبيب لا يعذب حبيبة.ولكن لو تجادلنا مع اصحاب الملل الاخرى بهذا..سيقولون نعم سيعذبنا لان الله عادل ليس عندة واسطة ولا شئ من هذا...والرسول الكريم قال لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ..اليس هناك تضاد بين تفسير الاية وصفة الله العدل
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فقوله تعالى في سورة المائدة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}، فالله تعالى جعل عقوبتهم بذنوبهم، وإحضارهم للعذاب، مبطلاً لدعواهم الكاذبة، وهذا التقدير في الآية أبلغ في إبطال قولهم من التقدير الأول فتأمله!
فإن تعذيبه لهم بذنوبهم يقتضي أنهم غير محبوبين، ولا من أهل ولايته، فالمعنى ليس كما ظنه السائل، وإنما المعنى: أن من كان الله يحبه استعمله فيما يرضيه، كما أن المحبوب لا يفعل ما يبغضه الحق سبحانه ويسخطه من الكفر والفسوق والعصيان؛ فمن بارز الله العداء، وخالف أوامره ونواهيه، فهو عدو لله وولي للشيطان؛ كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].
قال الحسن البصري: "ادعى قوم أنهم يحبون الله، فأنزل الله هذه الآية محنة لهم"، ومن اتبع الرسول فإن الله يحبه، ومن زعم محبة الله، وخالف رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس من أولياء الله، فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله وأحباؤه، وهم من يتعدون حدود الله، كمن قال الله في أشباههم: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [46/9]، وهذه كراهة شرعية ضد المحبة، ولو كانوا أحبابه لعصمهم ووفقهم.
والحاصل أن تعذيبه لهم بذنوبهم يقتضي أنهم غير محبوبين، وليسوا من أوليائه؛ فمن كان الله يحبه استعمله فيما يحبه، والعكس بالعكس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (10/ 208):
"فإن تعذيبه لهم بذنوبهم، يقتضي أنهم غير محبوبين ولا منسوبين إليه بنسبة البنوة، بل يقتضي أنهم مربوبون مخلوقون؛ فمن كان الله يحبه استعمله فيما يحبه محبوبه، لا يفعل ما يبغضه الحق ويسخطه، من الكفر والفسوق والعصيان، ومن فعل الكبائر وأصر عليها، ولم يتب منها؛ فإن الله يبغض منه ذلك؛ كما يحب منه ما يفعله من الخير؛ إذ حبه للعبد بحسب إيمانه وتقواه، ومن ظن أن الذنوب لا تضره؛ لكون الله يحبه مع إصراره عليها، كان بمنزلة من زعم أن تناول السم لا يضره، مع مداومته عليه، وعدم تداويه منه بصحة مزاجه.
ولو تدبر الأحمق ما قص الله في كتابه من قصص أنبيائه؛ وما جرى لهم من التوبة والاستغفار؛ وما أصيبوا به من أنواع البلاء الذي فيه تمحيص لهم وتطهير بحسب أحوالهم؛ علم بعض ضرر الذنوب بأصحابها ولو كان أرفع الناس مقامًا؛ فإن المحب للمخلوق إذا لم يكن عارفًا بمصلحته ولا مريدًا لها؛ بل يعمل بمقتضى الحب - وإن كان جهلاً وظلمًا - كان ذلك سببا لبغض المحبوب له ونفوره عنه؛ بل لعقوبته". اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن القيم في "بدائع الفوائد" (4/ 150)
"يعني أن الأب لا يعذب ابنه، والحبيب لا يعذب حبيبه. وههنا نكتة لطيفة جدًا قل من ينتبه لها، نحن نقررها بسؤال وجواب، فإن قيل معلوم أن الأب قد يؤدب ولده إذا أذنب، والحبيب قد يهجر حبيبه إذا رأى منه بعض ما يكره، قيل: لو تأملت أيها السائل قوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} لعلمت الفرق بين هذا التعذيب وبين الهجران والتأديب؛ فإن التعذيب بالذنب ثمرة الغضب المنافي للمحبة، فلو كانت المحبة قائمة كما زعموا، لم يكن هناك ذنوب يستوجبون عليها العذاب، من المسخ قردة وخنازير وتسلط أعدائهم عليهم، يستبيحونهم ويستعبدونهم، ويخربون متعبداتهم ويسبون ذراريهم؛ فالمحب لا يفعل هذا بحبيبه، ولا الأب بابنه، ومعلوم أن الرحمن الرحيم لا يفعل هذا بأمة إلا بعد فرط إجرامها، وعتوها على الله واستكبارها عن طاعته وعبادته، وذلك ينافى كونهم أحبابه، فلو أحبوه؛ لما ارتكبوا من غضبه وسخطه ما أوجب لهم ذلك، ولو أحبهم؛ لأدبهم ولم يعذبهم، فالتأديب شيء والتعذيب شيء، والتأديب يراد به التهذيب والرحمة والإصلاح، والتعذيب للعقوبة والجزاء على القبائح، فهذا لون وهذا لون؛ وفي ضمن هذه المناظرة معجزة باهرة للنبي: وهي أنه في مقام المناظرة مع الخصوم الذين هم أحرص الناس على عداوته وتكذيبه، وهو يخبرهم خبرًا جزمًا أنهم لن يتمنوا الموت أبدًا، ولو علموا من نفوسهم أنهم يتمونه لوجدوا طريقًا إلى الرد عليه بل ذلوا وغلبوا وعلموا صحة قوله، وإنما منعهم من تمنى الموت، معرفته بما لهم عند الله تعالى من الخزي والعذاب الأليم؛ بكفرهم بالأنبياء، وقتلهم لهم وعداوتهم لرسول الله.
فإن قيل: فهلا أظهروا التمني وإن كانوا كاذبين، فقالوا فنحن نتمناه! قيل وهذا أيضا معجزة أخرى، وهي أن الله تعالى حبس عن تمنيه قلوبهم وألسنتهم، فلم ترده قلوبهم ولم تنطق به ألسنتهم؛ تصديقًا لقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً}، ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}". اهـ.
هذا؛ والله أعلم.