لماذا لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء!
فقال (كفى بالمرء إثما أن يحبس، عمن يملك قوته)، رواه مسلم
السلام عليكم ورحمة الله
انا عندي استفسار : ابي غني ولكن فلوسه حرام ولكن هو بخيل جدااا وانا اشتغل في شركة ومصدر رزقي حلال وانا اصرف على البيت كله مع العلم اني متزوج ومرتبي الشهري متوسط مع العلم اني اساعدهم حتى في بعض المرات اروح استلف وابي غني وبخيل جدااا وعندي اخوين رجال اكبر مني لايشتغلون مع انهم بكامل الصحة والعافية ولكن أعجبهم الحال كدة لكن امي لاتقول لهم شيء وانا بتطلب مني كل شيء انا لبدفع الفواتير الانترنت والكهرباء والاكل وامي تطلب مني كل شيء وزوجتي تشتكي كثيرااا وتقول لي امك وابوك واخوتك يستغلونك مع انا ابي غني لكن فلوسه حرام عشا كدة انا بساعدهم لان بقول هو فلوس حرام انا فلوسي حلال ابي واخوتي فرحانين لاني انا المتكفل بكل شيء وباحس اخوتي وابي يستغلونني هما مرتاحين وانا شقيان في العمل باحس اني مظلوم لاني امي تاخذ مني وتساعد ابي على بخله واخوتي على راحتهم السؤال هل انا صح علشان بر الوالدين ولا اغضب الله في ابوي وهل زوجتي على حق انا حيران بين بر الوالدين وبين استغلال اخوتي وبخل ابي على امي وظلم امي لي كما تقول زوجتي والله اعلم
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فمن تأمل شريعة الإسلام وكل ما فرضه الله في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأمر بسلوكه، ونهى عنه – وجد أنه بُني على العدل، فلم يخبر إلا بالصدق والحق واليقين، ولم يأمر إلا بالخير والعدل والإحسان والبر، ولم ينه إلا عن الشر والمضار الدينية والدنيوية ، كما يشمل العدل في حقه وفي حق عباده، وأداء الحقوق كاملة، ويعامل الخلق بالعدل التام.
والذي يظهر أن الأخ السائل كما غاب عنها الحكمة من كثرة وصاية الأبناء بالآباء وليس العكس غاب عنها ما فرضه الله على الآباء تجاه أبنائهم من أمانة ثقيلة، ففي باب النفقة جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إثمه كافيًا في هلاكه عن كل إثم سواه فقال «كفى بالمرء إثما أن يحبس، عمن يملك قوته»، رواه مسلم، والذين يقوتهم هم الذين يجب عليه الإنفاق عليهم وهم أهله وأولاده، وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت»، وقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، وقال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة مشهورة.
كما يجب على الآباء تربية الأبناء وحسن تنشئتهم، وهي أمانة كبيرة في أعناقهم وهم مسؤولون عن هذه الأمانة أمام الله سبحانه، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، وقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم»؛ متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع»
ومن مسؤولية الآباء وواجباتهم تجاه أولادهم تنشئتهم على الأخلاق الحميدة والسلوك المستقيم والتربية الصحيحة، وشغلهم عن الملهيات المعاصرة والمغريات المنتشرة وصدهم عن سبيل قرناء السوء ورفقاء الشر.
ومن مسؤولية الآباء بل هو من ضروريات الحياة، الحرص على تعليمهم، ولو ذهبنا نتتبع واجبات ومسؤوليات الآباء لخرجنا عن المقصود، وإنما نشير إشارة يحصل بها الغرض، وبيان والبر والصلة الواجبة في حق الأبناء ليست بشيء مقارنة بالواجبات الملقاة على عاتق الوالدين، فبناء النفس وغرس المبادئ والتربية عمومًا من أصعب التكاليف، ولولا عون الله ما قام بها أحد! وتقصير بعض الآباء في مسؤولياتهم لا يعني عدم التكليف!
وهذه الأمثلة مهما كثرتْ، فهي قليلة نادرة عند مقارنتها بالحالات الطبيعية، والواقعُ خيرُ شاهد على ذلك، والقاعدة العقلية أنه: لا حُكم لنادر، وأن النادرَ والشاذ لا يهدم القاعدة العامة وإنما يُثبتها.
كما لا يخفى أن الأمهات أو الآباء الذين تخلوا عن واجبهم، أو قصروا فيه، قد تعرَّضوا لما أفْسَد فِطَرهم: مِن سوء التربية، أو الصدمات النفسية العنيفة التي غَطَّتْ على أصل الغريزة التي في الفطرة.
ويكفي وعيدًا وتهديدًا من تضييع هذه الأمانة، قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة»؛ متفق عليه.
أما لماذا أكثر الله في كتابه وسنة رسوله الوصايا بالوالدين، فالحكمة من هذا أن الوالدين ينطلقان بموجب الغريزة التي أودعها الله في فِطَرَنا والشريعة الإسلامية أتت مُؤكدة لما استقر في الفِطَر والعقول، ومن تأمل قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: «أو أملك لك أن نَزَع الله من قلبك الرحمة»؛ أي: لا أقدر أن أجعل في قلبك الرحمة إن كان الله تعالى قد نزَعها منه، وهو استفهام للإنكار الإبطالي الذي يقتضي نفي ما بعدها.
وتلك الغريزة ليست في عالم الإنس فقط، بل في عالم الحيوان والطير، فالله سبحانه اللطيف الخبير يزرع في قلوب الوالدين العطف والشفقة والحنان لما يُعينهما على القيام بواجبها تجاه المولود الذي لا يستقل بنفسه، ويحتاج إلى التربية والرعاية والملاطفة والرفق.
ومن تأمَّلي فراخ الحمام واليمام، كيف أعطى الله سبحانه أمهاتها تلك الرحمة التي تجعلها تمج به [تحذف] الطعم في أفواه الفراخ من حواصلها، ولم يزل به الأبوان يعالجانه أتم معالجة وألطفها، حتى يطير مِن وَكْرِه ويسترزق لنفسه.
فمَن علَّم الطير كل هذا؟ أم مَن وضع فيها الرحمة والإيثار والتعاطف والإشفاق الغريزي؟ ومن أعمل عقله أدرك أن هذا كله مِن حظها وقسمها الذي وصل اليها مِن الرحمة الواحدة من المائة رحمة؛ كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «جعَل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءًا، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمِن ذلك الجزء يتراحم الخَلْق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها، خشية أن تُصيبه».
وقد أجاب أديب الإسلام الأستاذ سيد قطب في عن هذا السؤال عند قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23، 24]، فقال في "الظلال" (4/2221)
"بهذه العبارات الندية، والصور الموحية، يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء.
ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء، توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام، إلى الذرية، إلى الناشئة الجديدة، إلى الجيل المقبل، وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء، إلى الأبوة، إلى الحياة المولية، إلى الجيل الذاهب!
ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة؛ لتنعطف إلى الخلف، وتتلفت إلى الآباء والأمهات.
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد، إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات، وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر، كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين، فإذا هما شيخوخة فانية - إن أمهلهما الأجل - وهما مع ذلك سعيدان! فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله، ويندفعون بدورهم إلى الأمام، إلى الزوجات والذرية، وهكذا تندفع الحياة.
ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء، إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف! وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد، بعد الأمر المؤكد بعبادة الله.
ثم يأخذ السياق في تظليل الجو كله بأرق الظلال، وفي استجاشة الوجدان بذكريات الطفولة ومشاعر الحب والعطف والحنان:
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما}، والكبر له جلاله، وضعف الكبر له إيحاؤه وكلمة {عِنْدَكَ} تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف، {فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما}، وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يند من الولد ما يدل على الضجر والضيق، وما يشي بالإهانة وسوء الأدب.
{وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً} وهي مرتبة أعلى إيجابية أن يكون كلامه لهما يشي بالإكرام والاحترام.
{وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}، وهنا يشف التعبير ويلطف، ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان، فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عينًا، ولا يرفض أمرًا، وكأنما للذل جناح يخفضه إيذانًا بالسلام". اهـ
هذا؛ والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: