الوساوس بعد الحج، وحكم التعجل
السلام عليكم ورحمة الله و بركاته أنا الان في الحج وعندي سؤالين: ١. من شدة حرصي على تأدية فريضة الحج على الوجه الأكمل كان يراودني شك كبير في انتقاض الوضوء فيما يخص بعض الأركان. هذا الذي حصل في طواف الإفاضة حيث خرجت من الطواف حوالي ثلاث مرات إحطياطاً كوني لم أستطيع أن أبنها على اليقين، و مما أفقدني بعض السكينة وجعلني أسرع قليلاً في الأشواط الاخرى ، فاختلط علي الأمر فلا أدري أؤعيده من جديد أم لا . هل يؤثر ذلك على النية. فهل طوافي صحيح؟وهل يجب علي إعادة الطواف من دون سعي؟ ٢. نمت الليلة الحادية عشر والثانية عشر من أيام التشريق وخرجت من منى في الْيَوْمَ الثاني عشر بعد أن رجمت بعد آذان الظهر. فهل علي شيء و هل رجمي صحيح؟ ًو هل المقصود بالتعجل فقط من له عذر؟ أفتوني جزاكم الله خيراً و السلام عليكم.
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
تقبل الله منا ومنك أيها الأخ الكريم وزادك الله حرصًا ولا تعد لما فعلته؛ لأنه محض وسوسة، فالشيطان يشم قلب العبد فإن وجد فيه حرصًا وقوة، أتاه من قبل الغلو في العبادة، ومن ثمّ يوقعه في الوسوسة.
وتأمل سلمك الله الحديث المتفق على صحته عن عباد بن تميم، عن عمه، قال: شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يجد في الصلاة شيئًا أيقطع الصلاة؟ قال: (لا حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا).
فالحديث الشريف نصّ قاطع في طرح الشكوك العارضة لمن في الصلاة، وهي أعظم عبادة يشترط لها الوضوء، فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة طرح الشكوك والوسوسة التي هي من تسويل الشيطان، وأرشدنا إلى إعمال اليقين كسماع الصوت وشم الريح.
قال النووي في "شرح صحيح مسلم" (4/ 49):
"وقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا)، معناه يعلم وجود أحدهما، ولا يشترط السماع والشم بإجماع المسلمين.
وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام، وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها، فمن ذلك مسألة الباب التي ورد فيها الحديث وهي أن من تيقن الطهارة وشك في الحدث حكم ببقائه على الطهارة، ولا فرق بين حصول هذا الشك في نفس الصلاة، وحصوله خارج الصلاة هذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف". اهـ.
أيضًا فإن الوضوء للطواف مستحب فقط وليس بواجب؛ فطواف المحدث صحيح كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية فقال في "مجموع الفتاوى" (21/ 274):
"وقد ثبت عنه في الصحيح أنه لما خرج من الخلاء وأكل وهو محدث قيل له: ألا تتوضأ؟ قال: (ما أردت صلاة فأتوضأ)، يدل على أنه لم يجب عليه الوضوء إلا إذا أراد صلاة، وأن وضوءه لما سوى ذلك مستحب ليس بواجب... فبين له أنه إنما فرض الله الوضوء على من قام إلى الصلاة.
والحديث الذي يروى: (الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير)؛ قد رواه النسائي، وهو يروى موقوفًا ومرفوعًا، وأهل المعرفة بالحديث لا يصححونه إلا موقوفًا ويجعلونه من كلام ابن عباس، لا يثبتون رفعه، وبكل حال فلا حجة فيه؛ لأنه ليس المراد به أن الطواف نوع من الصلاة: كصلاة العيد والجنائز؛ ولا أنه مثل الصلاة مطلقًا؛ فإن الطواف يباح فيه الكلام بالنص والإجماع، ولا تسليم فيه، ولا يبطله الضحك والقهقهة، ولا تجب فيه القراءة باتفاق المسلمين، فليس هو مثل الجنازة؛ فإن الجنازة فيها تكبير وتسليم فتفتح بالتكبير وتختم بالتسليم، وهذا حد الصلاة التي أمر فيها بالوضوء؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم)، والطواف ليس له تحريم ولا تحليل، وإن كبر في أوله فكما يكبر على الصفا والمروة، وعند رمي الجمار من غير أن يكون ذلك تحريمًا؛ ولهذا يكبر كلما حاذى الركن، والصلاة لها تحريم؛ لأنه بتكبيرها يحرم على المصلي ما كان حلالاً له من الكلام أو الأكل أو الضحك أو الشرب أو غير ذلك، والطواف لا يحرم شيئًا، بل كل ما كان مباحًا قبل الطواف في المسجد فهو مباح في الطواف، وإن كان قد يكره ذلك؛ لأنه يشغل عن مقصود الطواف كما يكره في عرفة وعند رمي الجمار، ولا يعرف نزاع بين العلماء في أن الطواف لا يبطل بالكلام والأكل والشرب والقهقهة كما لا يبطل غيره من مناسك الحج بذلك.
والذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى الحائض عن الطواف، وبعث أبا بكر أميرًا على الموسم فأمر أن ينادي: (ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان). اهـ. مختصرًا.
أما خروجك من منى ثاني أيام التشريق بعد رمي الجمار، فتعجلك صحيحًا، لأن الله تعالى خير عباده تخفيفًا عنهم؛ فقال سبحانه ةتعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]، فأباح كلا الأمرين، ولكن من المعلوم أنه إذا أبيح كلا الأمرين، فالمتأخر أفضل، لأنه أكثر عبادة.
فالحاج يرجع مغفورًا له سواء تعجل في يومين، أو تأخر إلى الثالث، ولكن غفران ذنوبه مشروط بتقوى الله.
قال شيخ المفسرين أبو جعفر الطبري في "تفسيره" (4/ 222) بعد أن حكى أقوال أهل العلم في تفسير الآية:
"وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال: تأويل ذلك:"فمن تعجل في يومين" من أيام منى الثلاثة فنفر في اليوم الثاني"فلا إثم عليه"، لحطِّ الله ذنوبَه، إن كان قد اتقى الله في حجه، فاجتنب فيه ما أمره الله باجتنابه، وفعل فيه ما أمره الله بفعله، وأطاعه بأدائه على ما كلفه من حدوده، ومن تأخر إلى اليوم الثالث منهن فلم ينفر إلى النفر الثاني حتى نفر من غد النفر الأول،فلا إثم عليه، لتكفير الله له ما سلف من آثامه وإجرامه، وإن كان اتقى الله في حجه بأدائه بحدوده.
وإنما قلنا أن ذلك أولى تأويلاته بالصحة؛ لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(ومن حجّ هذا البيت فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ خرَج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، وأنه قال صلى الله عليه وسلم:(تابعوا بين الحجّ والعمرة، فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة)... إلى أن قال:
وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بذكر جميعها الكتاب، مما ينبئ عنه أنّ من حجّ فقضاه بحدوده على ما أمره الله، فهو خارج من ذنوبه، كما قال جل ثناؤه:" فلا إثم عليه لمن اتقى" الله في حجه. فكان في ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوضح عن أن معنى قوله جل وعزّ:" فلا إثم عليه"، أنه خارجٌ من ذنوبه، محطوطة عنه آثامه، مغفورَةٌ له أجْرامه= وأنه لا معنى لقول من تأول قوله:" فلا إثم عليه"، فلا حرج عليه في نفره في اليوم الثاني، ولا حرج عليه في مقامه إلى اليوم الثالث. لأن الحرَج إنما يوضع عن العامل فيما كان عليه ترْك عمله، فيرخّص له في عمله بوضع الحرَج عنه في عمله؛ أو فيما كان عليه عمله، فيرخَّص له في تركه بوضع الحرج عنه في تركه. فأما ما على العامل عَمله فلا وَجه لوضع الحرَج عنه فيه إن هو عَمله، وفرضُه عَملُه، لأنه محال أن يكون المؤدِّي فرضًا عليه، حرجا بأدائه، فيجوز أن يقال: قد وضعنا عنك فيه الحرَج" اهـ. مختصرًا.
هذا؛ والله أعلم.
- المصدر: