ما الحكمة من إباحة طعام ونساء النصارى وهم مشركون
السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته. هل النصارى في يومنا هذا مشركون بما أنهم يعبدون غير الله ربا لهم ؟ و إذا كان الأمر كذلك فهل الإسلام عندما أحل لنا بعض الاشياء من النصارى كالأكل و الزواج، فهل المقصود بهم النصارى المشركون أم الموحدون بالله ؟ بارك الله فيكم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن الديانة النصرانية منذ دخلها التحريف إلى يوم الناس هذا تحولت من ديانة توحيد إلى ديانة شركية، فالعقيدة التي يعتنقها جميع فرق النصارى على اختلاف مذاهبهم هي القول بألوهية المسيح عليه السلام، وأنه نزل ليُصلَب تكفيراً لخطيئة آدم عليه السلام، أن الإله واحد في أقانيم ثلاثة: الأب، والابن، والروح القدس، والمسيح هو "الابن".
فالحاصل أن الديانة النصرانية لم تكن أبدًا دين توحيد منذ دخلها التحريف والتبديل.
هذا، وقد رخص الله تعالى في الزواج من النصرانية بشرط أن تكون عفيفة؛ كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5] والمُحصَنة كما ذكر أهل العلم: هي الحرة العفيفة، التي لم يدنس عرضها.
فرخص الله في التزويج بالكتابية واستثناها دون غيرها من المشركات الذين قال الله تعالى فيهن: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221]، وقوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، ولا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار في إباحة نكاح الحرائر الكتابيات، واتفق على ذلك الصحابة.
قال الإمام ابن كثير – عند قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} -: هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان، ثم إن كان عمومها مراداً وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية، فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [المائدة:5]، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - في قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221] -: استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب، وهكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومكحول والحسن والضحاك وزيد بن أسلم والربيع بن أنس وغيرهم، وقيل: "بل المراد بذلك المشركون من عبدة الأوثان، ولم يرد أهل الكتاب بالكلية، والمعنى قريب من الأول والله أعلم".
وقد أجاب على الإشكال الذي سأل عنه الأخ الكريم شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية فقال في مجموع الفتاوى (35/ 213-216): "فإن قيل: هذه الآية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [المائدة:5]، معارضة بقوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221]، وبقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، قيل: الجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: إن الشرك المطلق في القرآن لا يدخل فيه أهل الكتاب؛ وإنما يدخلون في الشرك المقيد قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة:1] فجعل المشركين قسماً غير أهل الكتاب وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج:17]، فجعلهم قسماً غيرهم.
فأما دخولهم في المقيد ففي قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]، فوصفهم بأنهم مشركون.
وسبب هذا أن أصل دينهم الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل ليس فيه شرك؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل:36]، ولكنهم بدَّلوا وغيروا فابتدعوا من الشرك ما لم ينزل به الله سلطاناً فصار فيهم شرك باعتبار ما ابتدعوا؛ لا باعتبار أصل الدين.
وقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، هو تعريف الكوافر المعروفات اللاتي كن في عصم المسلمين، وأولئك كن مشركات؛ لا كتابيات من أهل مكة ونحوها.
الوجه الثاني: إذا قدر أن لفظ " المشركات " و " الكوافر " يعم الكتابيات: فآية المائدة خاصة، وهي متأخرة، نزلت بعد سورة البقرة والممتحنة، باتفاق العلماء؛ كما في الحديث: "المائدة من آخر القرآن نزولاً؛ فأحلوا حلالها، وحرموا حرامها"، والخاص المتأخر يقضي على العام المتقدم باتفاق علماء المسلمين؛ لكن الجمهور يقولون: "إنه مفسِّر له، فتبين أن صورة التخصيص لم ترد باللفظ العام. وطائفة يقولون: إن ذلك نُسِخ بعد أن شُرِّع.
الوجه الثالث: إذا فرضنا النصين خاصين، فأحد النصين حرم ذبائحهم ونكاحهم، والآخر أحلهما، فالنص المحلل لهما هنا يجب تقديمه لوجهين:
أحدهما: أن سورة المائدة هي المتأخرة باتفاق العلماء؛ فتكون ناسخة للنص المتقدم، ولا يقال: إن هذا نسخ للحكم مرتين؛ لأن فعل ذلك قبل التحريم لم يكن بخطاب شرعي حلل ذلك؛ بل كان لعدم التحريم؛ بمنزلة شرب الخمر وأكل الخنزير ونحو ذلك، والتحريم المبتدأ لا يكون نسخاً لاستصحاب حكم الفعل؛ ولهذا لم يكن تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم – "لكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير"، ناسخًا لما دل عليه قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}[الأنعام:145]، الآيةَ - من أن الله عز وجل لم يحرم قبل نزول الآية إلا هذه الأصناف الثلاثة؛ فإن هذه الآية نفت تحريم ما سوى الثلاثة إلى حين نزول هذه الآية؛ ولم يثبت تحليل ما سوى ذلك؛ بل كان ما سوى ذلك عفواً لا تحليل فيه ولا تحريم كفعل الصبي والمجنون.
ويدل على ذلك أنه قال في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:5] فأخبر أنه أحلها ذلك اليوم، وسورة المائدة مدنية بالإجماع، وسورة الأنعام مكية بالإجماع، فعُلم أن تحليل الطيبات كان بالمدينة لا بمكة، وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:4] وقال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} إلى آخرها [المائدة:5]. فثبت نكاح الكتابيات، وقبل ذلك كان إما عفواً على الصحيح، وإما محرماً ثم نسخ، يدل عليه أن آية المائدة لم ينسخها شيء.
الوجه الثاني: أنه قد ثبت حل طعام أهل الكتاب، بالكتاب والسنة والإجماع، والكلام في نسائهم كالكلام في ذبائحهم، فإذا ثبت حِل أحدهما ثبت حِل الآخر؛ وحِل أطعمتهم ليس له معارض أصلاً.
ويدل على ذلك: أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فدل على أنهم كانوا مجتمعين على جواز ذلك".
هذا؛ والله أعلم.
- المصدر: