هل ما نراه هو السماء الدنيا فحسب

منذ 2019-09-03

جوابا على السؤال عن دلالة تعبير (السماء الدنيا) في القرآن الكريم وموافقتها للواقع؛ أقول مستعينا بالله العليم القادر: تنصرف دلالة لفظ (السماء) في القرآن الكريم إلى موجودات تميزها قرائن السياق؛ لأن أصل دلالته وجود في العلو، ولذا قالوا: "السماء هي كل ما علاك فأظلك"

السؤال:

هل الكون -فلكياً- هو السماء الدنيا، بحيث يكون ما نراه هو السماء الدنيا فقط، كما يقول معظم علماء الإعجاز العلمي؟ وما الدليل على هذا من القرآن؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فكيف يقولون: كان الكون متصلاً ثم انفصل، بدليل الآية: {أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما} والآية تتكلم عن كل السماوات وليس السماء الدنيا فقط، فكيف نحل هذا الإشكال؟ وجزاكم الله خيراً.

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
جوابا على السؤال عن دلالة تعبير (السماء الدنيا) في القرآن الكريم وموافقتها للواقع؛ أقول مستعينا بالله العليم القادر:
تنصرف دلالة لفظ (السماء) في القرآن الكريم إلى موجودات تميزها قرائن السياق؛ لأن أصل دلالته وجود في العلو، ولذا قالوا: "السماء هي كل ما علاك فأظلك"، فقد يعني سقف البيت أو السحاب أو الجو أو ما يصطلح عليه باسم الفضاء، ووروده بالجمع بلفظ (السماوات) يدل لغة على طبقية التكوين، فيعني تميز الموصوف سواء الفضاء أو الجو إلى طبقات، وقد وصف الكون بدقة في قوله تعالى: {تَنزِيلاً مّمّنْ خَلَق الأرْضَ وَالسّمَاوَاتِ الْعُلَى. الرّحْمََنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىَ. لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثّرَىَ}  [طه 4-6] ، فلفظ (الْعُلَى) جمع العليا تأنيث (الأعلى)، فأفاد وجود غيرها تماثلها في طبقية التكوين، وهو ما يتفق مع تشكل الفضاء لطبقات تميزها بروج الأجرام وتشكل الجو كالأرض بالمثل طبقات، وفي قوله تعالى: {إِنّا زَيّنّا السّمَاءَ الدّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مّن كُلّ شَيْطَانٍ مّارِدٍ لاّ يَسّمّعُونَ إِلَىَ الْمَلإِ الأعْلَىَ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ إِلاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 6-10] ؛ فلفظ (الدنيا) تأنيث (الأدنى) وهو من الدنو أو الدناءة، ولذا يدل تعبير (السماء الدنيا) هنا على الطبقة الأقرب أو الأسفل من آفاق الأجرام، والمعنى أنه خلال الهروب بسرعة متزايدة نحو الفضاء الأقرب المميز بالكواكب يمر العابر بمنطقة الرجم بالشهب.

وتمييز الفضاء الأقرب للأرض بالكواكب (Planets) يتفق تماما مع المعرفة العلمية الحديثة بأنها بالفعل دون بروج النجوم (Stars) التي تتراكب في آفاق عظيمة الأبعاد تميزها عناقيد أو تجمعات (Constellation) أقربها مجموعات نجومية صغيرة ضمن حشود أكبر تشكل المجرة (Galaxy) ثم المجموعة المجرية المحلية تعلوها مجرات أعظم (Super-cluster) دون أشباه النجوم (Quasars) حيث يعجز البصر عن إدراك أي شيء يعدوها لانحساره بنفس سرعة الضوء الذي يصدره، ويفصلنا الجو عن تلك الآفاق السبعة كمنطقة بينية طبقية مثلها، وتتميز عن بقية السماء بتيارات الرياح ومسارات السحب، والشهب ظاهرة ضوئية تحدث في جو الأرض نتيجة الاحتكاك بالهواء فناسبها وصف الشهاب بالثاقب أي شديد الضوء، وبهذا يحمل تعبير (السماء الدنيا) على الجو عند الإطلاق، وعلى الأفق الأدنى من آفاق الأجرام عند التخصيص بالكواكب.
وفي قوله تعالى: {وَزَيّنّا السّمَاءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ...} [فصلت: 9-12] ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيّنّا السّمَاءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشّيَاطِينِ} [الملك: 5] ؛ ورد التشبيه بلفظ (مصابيح) في موضع (الشهب) مؤكدا على أنها ظاهرة ضوئية، ودل تعبير (السماء الدنيا) هنا بإطلاق دون تقييد بالأجرام على حدوث الشهب في الجو الأدنى تكوينا من آفاق الأجرام، وفسرت (المصابيح) في الآيتين الكريمتين بالنجوم، ولكن في العرف تسمى الشهب بالنجوم المارقة (Shooting Stars) .

وتأكيد القرآن على أن ما ترجم به الشياطين هو الشهب، وهي ظاهرة ضوئية تحدث في الجو يقطع بنفي وصف الكون الممكن الإدراك أجمعه بأنه (السماء الدنيا) ، وذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيّنّاهَا لِلنّاظِرِينَ *وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلّ شَيْطَانٍ رّجِيمٍ * إِلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مّبِينٌ} [الحجر 16-18] ، وقوله تعالى:  {وَأَنّا لَمَسْنَا السّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الاَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رّصَداً} [الجن 8-9] .

والقول إذن بأن (السماء الدنيا) تعبير عن الكون كله، وأنها الوحيدة التي يمكن للإنسان أن ينظر إليها قول يعوزه الدليل، وما بني عليه من أن السماوات الست الباقية غيبية لا ترى يخالف صريح القرآن الكريم في إمكان النظر إلى كل السماوات بأدلة لا تدفع، منها قول الله جل وعلا: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} [يونس 101] وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) [الأعراف: 185] وقوله تعالى: "أَفَلَمْ يَنظُرُوَاْ إِلَى السّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} [ق: 6] قال النحاس: "السماوات مرئية" ، وقال الألوسي: "ظواهر الآيات والأخبار ناطقة بأن السماء مرئية" ، وفي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنّ نُوراً وَجَعَلَ الشّمْسَ سِرَاجا} [نوح: 15-16] ؛ ظاهر التعبير أن أدنى سماوات الكون على حسب الترتيب في النظم هي التي تقع فيها الشمس ويقع القمر، وهو ما يتفق فلكياً مع تسمية أفق الكواكب الأدنى في آفاق الأجرام المرئية بالنظام الشمسي، حيث يتبع القمر الأرض ويتبع الكل الشمس، قال ابن جزي: "القمر.. في السماء الدنيا، وساغ أن يقول فيهن لما كان في إحداهن فهو في الجميع، كقولك: فلان في الأندلس إذا كان في بعضها" ، وقال أبو حيان: "الضمير في فيهن عائد على السماوات والقمر في السماء الدنيا (منها) ، وصح كون السموات ظرفاً للقمر لأنه لا يلزم من الظرف أن يملأه المظروف؛ تقول زيد في المدينة وهو في جزء منها".


ومرد الإشكال إلى الفهم بأن الشهب المعبر عنها في الآيتين الكريمتين تشبيها بالمصابيح لتوهجها هي النجوم الثوابت، ولكن المحققون قد دفعوا هذا الوهم، وقالوا بأن النجوم ثوابت في مواقعها لا ينقص عددها، وإنما المراد هو الشهب دونها كما هو ظاهر القرآن، وبذلك يسقط الاستدلال على أن سماوات الكون التي تميزها بروج الأجرام هي جميعا السماء الدنيا، قال الألوسي: "وإطلاق الرجوم على النجوم وقولهم رمى بالنجم يحتمل أن يكون مبنياً على الظاهر للرائي، كما في قوله تعالى في الشمس: "تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ"، وهذه الشهب ليست هي الثوابت، وإلا لظهر نقصان كثير في أعدادها، بل هي جنس آخر غيرها يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوما للشياطين، ولا يأباه قوله تعالى: "وَلَقَدْ زَيّنّا السّمَاءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشّيَاطِينِ"؛ حيث أفاد أن تلك (المصابيح) هي (الرجوم) بأعيانها؛ لأنا نقول كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض.. والشهب من هذا القسم، وحينئذ يزول الإشكال" ، وبمثله قال كثيرون، فتأمل الدقة المذهلة في تعبير القرآن الكريم، بينما في العرف تُسمي الشهب نجوماً، ولا تميز لغة التخاطب بين النجوم والكواكب، والله تعالى أعلم.

  • 42
  • 22
  • 116,911

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً