هل هناك سعادة لاتوصف مع الله في الدنيا؟!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هل هناك سعادة مع خالقنا في الدنيا وهل هناك سعادة حقيقية مع ابتلاء الله للمؤمن ولماذا الله يبتلي المؤمن أهو من حبه العظيم له واذا ابتلى الله إنسان اشد البلاء أهو تعذيب أم رحمة وهل هذا دليل على ماذا حبه العظيم لعبده وهل الله يحب عبده بقدر نواياه وأعماله أو حتى ذكاءه ووعيه بأن الله يسمعنا في كل حين ويرانا وكيف أربي نفسي على مراقبة الله لي في السراء والضراء أرجو أن تشرحلي هذي الحديث لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم 19/43- وعن أنس قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بعبْدِهِ خَيْرًا عجَّلَ لَهُ الْعُقُوبةَ في الدُّنْيَا، وإِذَا أَرَادَ اللَّه بِعبدِهِ الشَّرَّ أمسَكَ عنْهُ بذَنْبِهِ حتَّى يُوافِيَ بهِ يَومَ الْقِيامةِ. وقَالَ النبِيُّ ﷺ: إِنَّ عِظَمَ الْجزاءِ مَعَ عِظَمِ الْبلاءِ، وإِنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَومًا ابتلاهُمْ، فَمنْ رضِيَ فلَهُ الرضَا، ومَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ رواه الترمذي، وقَالَ: حديثٌ حسنٌ.
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فإن فرح المؤمن بالله أشد من أي فرح، وهو ما يعبر عنه السلف الصالح بدخول جنة الدنيا، ولكن يتفاوت هذا بتفاوت الإيمان قوة وضعفًا؛ قال ابن القيم رحمه الله كما في "المستدرك على مجموع الفتاوى" (1/ 153-154): "ورأيت شيخ الإسلام -قدس الله روحه - في المنام وكأني ذكرت له شيئًا من أعمال القلوب، وأخذت في تعظيمه ومنفعته - لا أذكره الآن - فقال: أما أنا فطريقتي: الفرح بالله والسرور به أو نحو هذا من العبارة.
وهكذا كانت حاله في الحياة يبدو ذلك على ظاهره، وينادي به عليه حاله.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهبا ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا.
وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه.
ولما أدخل إلى القلعة وصار داخل السور نظر إليه وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [13/57].
وعلم الله ما رأيت أحدا، أطيب عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيس وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرا، وأقواهم قلبًا، وأسرهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه: فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا، وقوة ويقينًا وطمأنينة.
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها". اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (28 / 31): "فإنَّ اللذَّة والفرحةَ والسرور، وطيبَ الوقت والنعيم الذي لا يمكن التعبيرُ عنه - إنما هو في معرفةِ الله سبحانه وتعالى، وتوحيدِه، والإيمان به، وانفتاح الحقائق الإيمانية والمَعارف القرآنية، كما قال بعض الشيوخ: لقد كنتُ في حالٍ أقول فيها: إن كان أهلُ الجنة في هذه الحال، إنهم لفي عيشٍ طيِّبٍ.
وقال آخر: لَتمرُّ على القلبِ أوقاتٌ يرقصُ فيها طربًا، وليس في الدنيا نعيمٌ يشبهُ نعيمَ الآخرة إلا نعيم الإيمان والمَعرفة.
ولهذا؛ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: "أَرِحْنا بالصلاة يا بلالُ"، ولا يقول: أَرِحْنا منها، كما يقولُه مَن تثقلُ عليه الصلاة؛ كما قال تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، والخُشوعُ: الخضوعُ لله تعالى، والسكونُ والطمأنينة إليه بالقلب والجوارح، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: "حُبِّب إليَّ من دنياكم: النساء والطيب"، ثم يقول: "وجُعِلَتْ قرَّةُ عيني في الصلاة". اهـ.
وقد بيّن الإمام ابنُ القيِّم أن مناط تحقيق هذه السعادة، فقال في كتابه "إغاثة اللهفان مِن مصايد الشيطان" (2 / 197): "أما محبَّة الربِّ سبحانه فشأنُها غيرُ هذا الشأن؛ فإنه لا شيءَ أحبُّ إلى القلوب مِن خالقِها وفاطرها، فهو إلَهُها ومعبودُها، ووليُّها ومولاها، وربُّها ومدبِّرُها ورازقُها، ومميتُها ومُحييها؛ فمحبةُ نعيم النفوس، وحياةُ الأرواح، وسرورُ النفوس، وقُوت القلوب، ونور العقول، وقرة العيون، وعمارة الباطن - فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة، والعقول الزاكيةِ، أحلى ولا ألذُّ، ولا أطيبُ ولا أسرُّ، ولا أنعمُ مِن محبته والأُنس به، والشوق إلى لقائه، والحلاوةُ التي يجدها المؤمنُ في قلبِه بذلك فوقَ كلِّ حلاوة، والنعيمُ الذي يحصل له بذلك أتمُّ مِن كل نعيم، واللذَّة التي تناله أعلى مِن كل لذَّة، كما أخبر بعضُ الواجدين عن حاله بقوله: "إنه ليمرُّ بالقلب أوقاتٌ أقول فيها: إن كان أهلُ الجنة في مثل هذا، إنهم لَفي عيشٍ طيب".
وقال آخر: "إنه ليمرُّ بالقلب أوقاتٌ يهتز فيها طربًا بأُنسِه بالله، وحبِّه له".
وقال آخر: "مساكينُ أهل الغفلة؛ خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيبَ ما فيها".
وقال آخر: "لو علم الملوكُ وأبناءُ الملوك ما نحن فيه، لَجالدونا عليه بالسيوف".
ووجدانُ هذه الأمور وذوقُها هو بحسب قوة المحبَّة وضعفها، وبحسب إدراكِ جمال المحبوب والقُرب منه، وكلما كانت المحبَّةُ أكملَ، وإدراكُ المَحبوب أتمَّ، والقربُ منه أوفرَ؛ كانت الحلاوةُ واللذَّة والسرور والنَّعيم أقوى.
فمَن كان بالله سبحانه وأسمائِه وصفاته أعرف، وفيه أرغب، وله أحب، وإليه أقرب؛ وجَد مِن هذه الحلاوة في قلبه ما لا يمكنُ التعبير عنه، ولا يُعرَف إلا بالذوق والوَجْد، ومتى ذاق القلبُ ذلك لم يمكِنْه أن يُقدِّمَ عليه حبًّا لغيره، ولا أنسًا به، وكلما ازداد له حبًّا ازداد له عبوديةً وذلًّا، وخضوعًا ورِقًّا له، وحرية عن رقِّ غيره.
فالقلبُ لا يفلحُ، ولا يصلح، ولا يتنعَّم، ولا يبتهِجُ، ولا يلتذُّ، ولا يطمئنُّ، ولا يسكن، إلا بعبادة ربِّه وحبِّه، والإنابة إليه، ولو حصل له جميعُ ما يلتذُّ به من المخلوقات لم يطمئنَّ إليها، ولم يسكن إليها، بل لا تزيدُه إلا فاقةً وقلقًا، حتى يظفَرَ بما خُلِق له، وهُيِّئ له؛ من كون اللهِ وحدَه نهايةَ مرادِه، وغايةَ مطلبِه، فإن فيه فقرًا ذاتيًّا إلى ربه وإلهه، مِن حيث هو معبوده ومحبوبُه، وإلهه ومطلوبه، كما أن فيه فقرًا ذاتيًّا إليه مِن حيث هو ربُّه وخالقه ورازقه ومدبِّره، وكلما تمكَّنتْ محبةُ الله من القلب، وقويت فيه، أخرجَتْ منه تألُّهَه لما سواه وعبوديته له.
فَأَصْبَحَ حُرًّا عِزَّةً وَصِيَانَةً = عَلَى وَجْهِهِ أَنْوَارُهُ وَضِيَاؤُهُ
وقال في كتاب "لداء والدواء" (1/ 186):
"فأين هذا من نعيم من يرقص قلبه طربًا وفرحًا، وأنسًا بربّه، واشتياقًا إليه، وارتياحًا بحبّه، وطمأنينةً بذكره، حتى يقول بعضهم في حال نزعه: واطرباه!
فيا من باع حظّه الغالي بأبخس الثمن، وغُبِنَ كل الغَبْن في هذا العقد، وهو يرى أنه قد غبن، إذا لم يكن لك خبرةٌ بقيمة السِّلَع فَسَلِ، المقوِّمين!
فيا عجبًا من بضاعةٍ معك، الله مشتريها، وثمنُها جنّةُ المأوى، والسفيرُ الذي جرى على يده (2) عقدُ التبايع وضمِنَ الثمنَ عن المشتري هو الرسول، وقد بعتَها بغاية الهوان!
إذا كان هذا فعلَ عبدٍ بنفسه ... فمَنْ ذاله من بعد ذلك يكرِمُ (3)
{وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الحج: 18]". اهـ.
أما الحكمة من ابتلاء الصالحين، فلا يخفى أنَّ اللهَ تعالى عليمٌ بِشؤون خلْقِه، رحيمٌ بعباده، له كمال العِلم والحِكمة واللُّطْفِ، وصلتْ حِكمتُه إلى حيثُ وصلتْ قُدرتُه، وله في كُلِّ شيءٍ حكمةٌ باهرة، كما أَنَّ له فيه قُدرةً قاهِرة، حتى قال الإمام ابن القيم في كتابه "إغاثة اللهفان" (2/ 188-190):
"أن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء ويستعد به لتمام الأجر، وعلو المنزلة، ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه، كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "والذي نفسى بيده لا يقضى الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له".
فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته، ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأقرب إليهم فالأقرب، يبتلى المرء حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشى على وجه الأرض وليس عليه خطيئة.
* أن ما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وغلبته له، وأذاه له في بعض الأحيان: أمر لازم، لابد منه، وهو كالحر الشديد، والبرد الشديد، والأمراض والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار، حتى للأطفال والبهائم، لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين، فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر، والنفع عن الضر، واللذة عن الألم، لكان ذلك عالمًا غير هذا، ونشأة أخرى غير هذه النشأة، وكانت تفوت الحكمة التي مزج لأجلها بين الخير والشر، والألم واللذة، والنافع والضار، وإنما يكون تخليص هذا من هذا، وتمييزه في دار أخرى، غير هذه الدار، كما قال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37].
* أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم، وقهرهم، وكسرهم لهم أحيانًا فيه حكمة عظيمة، لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل.
فمنها: استخراج عبوديتهم وذلهم لله، وانكسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤالهم نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائمًا منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا: ولو كانوا دائما مقهورين مغلوبين منصورًا عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة، ولا كانت للحق دولة فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غَلَبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة، فإذا غُلِبوا تضرعوا إلى ربهم، وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له وتابوا إليه، وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أو لياءه". إلى آخر ما قال.
أما شرح الأحاديث فهو موجود في ثنايا ما ذكرناه من كلام الأئمة،، والله أعلم.
- المصدر: