تهافت مقولة: هذا جناه أبي عليَّ...
خالد عبد المنعم الرفاعي
كيف اكون انا سبب و اعيش حياة بائسة بسبب شيء قام به اب الم يقل الله سبحانه وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ادا كيف اكون انا مدنب في شيء قام به هو؟؟ و سؤال اخر انا لم اطلب ان اكون في هدا عالم فا كيف اتحاسب على شيء رغم عني؟! كيف ادخل لجهنم و انا لم اطلب ان اكون موجود
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فما ذكره السائل في رسالته هو معنى ما ذكره الفلاسفة حيث يعدون اتخاذ الولد وإخراجه إلى الدنيا جناية عليه، ومعناه أن أباه بتزوجه لأمه أوقعه في هذه الدار، حتى صار بسبب ذلك إلى ما إليه صار، لأنه يتعرض للحوادث والآفات، وهذا كله كفر وإلحاد، وممن كان على هذا المذهب أَعمى البصر والبصيرة المكنى بأبي العلاءِ المعرى حيث قال:
هذا جناه أبي عليَّ. . . وما جنيت على أحد
ومن البديهيات أن الاهتمام بإيصال الخيرات ودفع الآفات، من أول دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أعظم من جميع ما يتخيل، من جهات الخيرات ودفع الآفات، من أول دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر= أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات، ويعارض ذلك التعريض للنعيم المقيم والثواب العظيم كما لا يخفى على ذي العقل السليم، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [النور: 40].
فالله تعالى هدى الفطر والعقول إلى أن للعالم ربًا قادرًا حليمًا عليمًا رحيمًا، لا يكون إلا مريدًا للخير لعباده، مجريًا لهم على الشريعة والسنة الفاضلة الموافقة لما ركَّب في عقولهم من استحسان الحسن واستقباح القبيح، وما جبل طباعهم عليه من إيثار النافع لهم المصلح لشأنهم، وترك الضار المفسد لهم؛ قال الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ* وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}[البلد:8 - 10]، وقال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى* وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:5- 11].
فإن أفعالُ الله تعالى كلها لا تَخرُج عن العدل والحكمة والمصلحة والرحمة، فلا يَجُور في حكمِه وفعله ومنعه وعطائه، وعافيته وبلائه، وتوفيقه وخذلانه، ولا يخرج شيءٌ عن موجب ما تَقْتَضيه أسماؤُه وصفاته مِن العدل والحكمة، والرحمة والإحسان والفضل، ووضع والعطاء والمنع في مَوضِعه، فلا يخاف العبدُ جورَه ولا ظُلمَه، فلا يَخُرج تصرُّفه في عبادِه عن العدل والفضل إن أعطى وأكرَم وهدَى ووفَّق، فبفضله ورحمته، وإنْ منَع وأهانَ وأضلَّ وخذَلَ وأشقى، فبعدلِه وحكمته، ومِن عدله وحكمته ألا يُسوِّي بين عبادِه في العطاء ولا بين المؤمن والكافر، ولا بين المحسن والمسيء؛ فإنَّ التَّسْويةَ بينهما منتهى الظُّلم.
وحتى تُدركَ عدل الله تذكَّر أنه سبحانه يَعلَم ما يقع مِن أعمال العباد منذ الأزل، ولكنه لا يُجازيهم على مجرد علمِه فيهم ما لم يحصلْ معلومه الذي يَترتب عليهم به الحجة، وهذا محضُ العدل والحكمة، وأنه يعلم أنَّ مِن عباده من لا يصلحه إلا الغنى، ولو افتقر لأفسد ذلك عليه دينه، ومن الناس مَن لا يُصلحه إلا الفقر، ولو استغنى لأفسَدَ ذلك عليه دينه، فاللهُ جل وعلا حكيمٌ عليمٌ، يَرزُق عباده بحسب حكمته وعلمه بما يُصلحهم، وما تنتظم به مَصالحهم.
وتدبَّر كلام شيخ الإسلام ابن القيم في "الفوائد" (ص: 93): "... سبحانه تَوَلَّى تدبيرَ أمورِهم بموجب علمِه وحكمته ورحمته أَحَبُّوا أم كرهوا، فعرف ذلك الموقنونَ بأسمائه وصفاته، فلم يتَّهموه في شيءٍ مِن أحكامه، وخفي ذلك على الجهل به وبأسمائه وصفاته، فنازعوه تدبيرَه، وقدحوا في حكمتِه، ولم يَنقادوا لحكمه، وعارضوا حكمَه بعقولهم الفاسدة، وآرائهم الباطلة، وسياساتهم الجائرة، فلا لربهم عرفوا، ولا لِمصالحهم حصلوا، والله الموفق.
ومتى ظفر العبدُ بهذه المعرفة سكَن في الدنيا قبل الآخرة في جنةٍ لا يشبه فيها إلا نعيم الآخرة، فإنه لا يزال راضيًا عن ربه، والرضا جنةُ الدنيا، ومستراحُ العارفين، فإنه طيبُ النفس بما يَجري عليه من المقادير التي هي عين اختيار الله له، وطمأنينتها إلى أحكامه الدينية، وهذا هو الرِّضا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، وما ذاق طعم الإيمان مَن لم يحصُلْ له ذلك، وهذا الرضا هو بحسب معرفته بعدل الله وحكمته ورحمته وحسنِ اختياره، فكلما كان بذلك أعرف كان به أرضى.
فقضاءُ الرب سبحانه في عبده دائرٌ بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة، لا يَخرُج عن ذلك البتة، كما قال في الدعاء المشهور: "اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك..."
والمقصود قوله "عدل في قضاؤك"، وهذا يتناول كل قضاء يقضيه على عبده من عقوبة أو ألم وسبب ذلك فهو الذي قضى بالسبب، وقضى بالمسبب، وهو عدلٌ في هذا القضاء، وهذا القضاءُ خير للمؤمن، كما قال: "والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن". اهـ.
فالله تعالى لا يُعطي ولا يمنع إلا بحكمةٍ وعدلٍ، وليس بمحضِ المشيئة المجردة عن وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها، بل بما اقتضتْ حكمتُه، ومن تلك الحِكَمِ اختبارُ العباد، كما قال سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]، والشاكرون هم الذين يَعرفون قدرَ نعمة الهداية ويَشكرونها، واللهُ سبحانه لم يعدلْ عن موجب العدل والإحسان في هداية مَن هدى، وإضلال مَن أَضَلَّ، وإعطاء مَن أعطى، ومَنْع مَن منَع، فهو لم يَطْرُدْ عن بابه، ولم يُبعدْ عن جنابه مَن يليق به التقريبُ والهدى والإكرامُ، بل طرَد مَن لا يليق به إلا الطردُ والإبعاد، وحكمتُه وحمدُه تأبَى تقريبَه وإكرامَه، وجعلَه مِن أهله وخاصته وأوليائه، قاله ابنُ القيِّم في "المدارج" (1/ 147).
وأخيرًا تتأمل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]
فالحكمة في جعل هذا الخليفة في الأرض ما لا تعلمه الملائكة، وإن وراء ما زعمتم من الفساد مصالحَ وحكمًا لا تعلمونها أنتم! فاستخرج تعالى من هذا الخليفة وذريته الأنبياء والرسل والأولياء والمؤمنين، وعمَّر بهم الجنة وميز الخبيث من ذريته من الطيب فعمَّر بهم النار.
وكان في ضمن ذلك من الحكم والمصالح ما لم يكن للملائكة تعلمه ثم إنه سبحانه أظهر فضل الخليفة عليهم بما خص به من العلم الذي لم تعلمه الملائكة، وأمرهم بالسجود له تكريمًا له وتعظيمًا له وإظهارًا لفضله.
وفي ضمن ذلك من الحكم ما لا يعلمه إلا الله، فمنها امتحانهم بالسجود لمن زعموا أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فأسجدهم له، وأظهر فضله عليهم لما أثنوا على أنفسهم وذموا الخليفة.
ومنها خبره لهذا الخليفة وابتداؤه له بالإكرام والإنعام لما علم مما يحصل له من الانكسار والمصيبة والمحنة، فابتدأه بالجبر والفضل ثم جاءت المحنة والبلية والذل وكانت عاقبتها إلى الخير والفضل والإحسان، فكانت المصيبة التي لحقته محفوفة بإنعامين إنعام قبلها وبعدها، ولذريته المؤمنين نصيب مما لأبيهم؛ فإن الله تعالى أنعم عليهم بالإيمان ابتداء وجعل العاقبة لهم فما أصابهم بين ذلك من الذنوب والمصائب فهي محفوفة بإنعام قبلها وإنعام بعدها، فتبارك الله رب العالمين.
ومنها استخراجه تعالى ما كان كامنا في نفس عدوه إبليس من الكبر والمعصية الذي ظهر عند أمره بالسجود، فاستحق اللعنة والطرد والإبعاد على ما كان كامنًا في نفسه عند إظهاره؛ والله تعالى كان يعلم منه ولم يكن ليعاقبه ويلعنه على علمه فيها بل على وقوع معلومة؛ فكان أمره بالسجود له مع الملائكة مظهرًا للخبث والكفر الذي كان كامنًا فيه، ولم تكن الملائكة تعلمه فأظهر لهم سبحانه ما كان يعلمه، وكان خافيًا عنهم من أمره، فكان في الأمر بالسجود له تكريمًا لخليفته الذي أخبرهم بجعله في الأرض وجبرًا له، وتأديبًا للملائكة، وإظهارًا لما كان مستخفيًا في نفس إبليس، وكان ذلك سببًا لتمييز الخبيث من الطيب، ثم إنه سبحانه لما علَّم أدم ما علمه ثم امتحن الملائكة بعلمه فلم يعلموه، فأنبأهم به آدم وكان في طي ذلك جوابًا لهم عن كون هذا الخليفة لا فائدة في جعله في الأرض؛ فإنه يفسد فيها ويسفك الدماء، فأراهم من فضله وعلمه خلاف ما كان في ظنهم" قاله الإمام ابن القيم في "بدائع الفوائد" (4/138- 139).
هذا؛ والله أعلم.