هل يستوي الزاني التائب مع العفيف في المنزلة؟
خالد عبد المنعم الرفاعي
هل يستوي الزاني التائب مع العفيف في المنزلة استناداً إلى قولهِ صلى الله عليه وسلم بأن الإسلام يجب ما قبله؟! إذ كيف يستويان والأول لم يعف نفسه و منحها متعتها غير حارمٍ لها، حتى وإن تاب في آخر الأمر، بينما الثاني تحمل من المغريات الشئ الكثير وجاهد نفسه أيّما جهاد حفاظاً على عفته؟!! فكيف يساوي الله بينهما بعد كل ما تحمله الثاني وقاساه ملتزماً بأمر الله عز وجل؟!!
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقد اختلف اهل العلم في تلك المسألة أعني: هل المطيع الذي لم يعص خير من العاصي الذي تاب إلى الله توبة نصوحًا، أو هذا التائب أفضل منه؟
فذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن المطيع الذي لم يعص خير من العاصي، واستدلوا بأدلة كثيرة، وخالفهم آخرون فقالوا إن التائب أفضل منه؛ واستدلوا بأدلة كثيرة أيضًا، وقد ذكر الإمام ابن القيم في كتابه "مدارج السالكين" (1/ 302-311) حجج كلا الطائفتين.
"هل المطيع الذي لم يعص خير من العاصي الذي تاب إلى الله توبة نصوحًا، أو هذا التائب أفضل منه؟ اختلف في ذلك، فطائفة رجحت من لم يعص على من عصى وتاب توبة نصوحًا، واحتجوا بوجوه:
أحدها: أن أكمل الخلق وأفضلهم أطوعهم لله، وهذا الذي لم يعص أطوع، فيكون أفضل.
الثاني: أن في زمن اشتغال العاصي بمعصيته يسبقه المطيع عدة مراحل إلى فوق، فتكون درجته أعلى من درجته، وغايته أنه إذا تاب استقبل سيره ليلحقه، وذاك في سير آخر، فأنى له بلحاقه؟!
الثالث: أن غاية التوبة أن تمحو عن هذا سيئاته، ويصير بمنزلة من لم يعملها، فيكون سعيه في مدة المعصية لا له ولا عليه. .
الرابع: أن الله يمقت على معاصيه ومخالفة أوامره، ففي مدة اشتغال هذا بالذنوب كان حظه المقت، وحظ المطيع الرضا.
الخامس: أن الذنب بمنزلة شرب السم، والتوبة ترياقه ودواؤه، والطاعة هي الصحة والعافية، وصحة وعافية مستمرة خير من صحة تخللها مرض وشرب سم أفاق منه.
السادس: أن العاصي على خطر شديد، فإنه دائر بين ثلاثة أشياء، أحدها: العطب والهلاك بشرب السم، الثاني: النقصان من القوة وضعفها إن سلم من الهلاك، والثالث: عود قوته إليه كما كانت أو خيرًا منها بعيد، والأكثر إنما هو القسمان الأولان، ولعل الثالث نادر.
السابع: أن المطيع قد أحاط على بستان طاعته حائطًا حصينًا لا يجد الأعداء إليه سبيلاً، فثمرته وزهرته وخضرته وبهجته في زيادة ونمو أبدًا، والعاصي قد فتح فيه ثغرا، وثلم فيه ثلمة، ومكن منه السُّراق والأعداء، فدخلوا فعاثوا فيه يمينًا وشمالاً.
والثامن: أن طمع العدو في هذا العاصي إنما كان لضعف علمه وضعف عزيمته، ولذلك يسمى جاهلاً، قال قتادة: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي الله به فهو جهالة، وأما من قويت عزيمته، وكمل علمه، وقوي إيمانه لم يطمع فيه عدوه، وكان أفضل.
التاسع: أن المعصية لا بد أن تؤثر أثرا سيئًا ولا بد، إما هلاكًا كليا، وإما خسرانًا وعقابًا يعقبه إما عفو ودخول الجنة، وإما نقص درجة، وإما خمود مصباح الإيمان، وعمل التائب في رفع هذه الآثار والتكفير، وعمل المطيع في الزيادة، ورفع الدرجات.
العاشر: أن المقبل على الله المطيع له يسير بجملة أعماله، وكلما زادت طاعاته وأعماله ازداد كسبه بها وعظم.
قال: وطائفة رجحت التائب، وإن لم تنكر كون الأول أكثر حسنات منه، واحتجت بوجوه:
أحدها: أن عبودية التوبة من أحب العبوديات إلى الله، وأكرمها عليه، فإنه سبحانه يحب التوابين، ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلي بالذنب أكرم الخلق عليه، فلمحبته لتوبة عبده ابتلاه بالذنب الذي يوجب وقوع محبوبه من التوبة، وزيادة محبته لعبده، فإن للتائبين عنده محبة خاصة.
الوجه الثاني: أن للتوبة عنده سبحانه منزلة ليست لغيرها من الطاعات؛ ولهذا يفرح سبحانه بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يقدر، كما مثله النبي صلى الله عليه وسلم بفرح الواجد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض الدوية المهلكة، بعد ما فقدها، وأيس من أسباب الحياة، ولم يجئ هذا الفرح في شيء من الطاعات سوى التوبة، ومعلوم أن لهذا الفرح تأثيرا عظيما في حال التائب وقلبه، ومزيده لا يعبر عنه، وهو من أسرار تقدير الذنوب على العباد، فإن العبد ينال بالتوبة درجة المحبوبية، فيصير حبيبا لله، فإن الله يحب التوابين ويحب العبد المفتن التواب.
الوجه الثالث: أن عبودية التوبة فيها من الذل والانكسار، والخضوع، والتملق لله، والتذلل له، ما هو أحب إليه من كثير من الأعمال الظاهرة، وإن زادت في القدر والكمية على عبودية التوبة، فإن الذل والانكسار روح العبودية، ومخها ولبها.
الوجه الرابع: أن حصول مراتب الذل والانكسار للتائب أكمل منها لغيره، فإنه قد شارك من لم يذنب في ذل الفقر، والعبودية، والمحبة، وامتاز عنه بانكسار قلبه؛ ولأجل هذا كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد لأنه مقام ذل وانكسار بين يدي ربه، والقصد: أن شمعة الجبر والفضل والعطايا، إنما تنزل في شمعدان الانكسار، وللعاصي التائب من ذلك أوفر نصيب.
الوجه الخامس: أن الذنب قد يكون أنفع للعبد إذا اقترنت به التوبة من كثير من الطاعات، وهذا معنى قول بعض السلف: قد يعمل العبد الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الطاعة فيدخل بها النار، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه، إن قام وإن قعد وإن مشى ذكر ذنبه، فيحدث له انكسارا، وتوبة، واستغفارًا، وندمًا، فيكون ذلك سبب نجاته، ويعمل الحسنة، فلا تزال نصب عينيه، إن قام وإن قعد وإن مشى، كلما ذكرها أورثته عجبًا وكبرًا ومِنَّة، فتكون سبب هلاكه، فيكون الذنب موجبا لترتب طاعات وحسنات، ومعاملات قلبية، من خوف الله والحياء منه، والإطراق بين يديه منكسا رأسه خجلا، باكيا نادما، مستقيلا ربه، وكل واحد من هذه الآثار أنفع للعبد من طاعة توجب له صولة، وكبرا، وازدراء بالناس، ورؤيتهم بعين الاحتقار.
الوجه السادس: وهو قوله تعالى {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70]، وهذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح، وهو حقيقة التوبة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فرح بشيء قط فرحه بهذه الآية لما أنزلت، وفرحه بنزول: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1، 2].
الوجه التاسع: وهو أن التائب قد بُدل كل سيئة بندمه عليها حسنة، إذ هو توبة تلك السيئة، والندم توبة، والتوبة من كل ذنب حسنة، فصار كل ذنب عمله زائلاً بالتوبة التي حلت محله وهي حسنة، فصار له مكان كل سيئة حسنة بهذا الاعتبار، فتأمله فإنه من ألطف الوجوه!
وعلى هذا فقد تكون هذه الحسنة مساوية في القدر لتلك السيئة، وقد تكون دونها، وقد تكون فوقها، وهذا بحسب نصح هذه التوبة، وصدق التائب فيها، وما يقترن بها من عمل القلب الذي تزيد مصلحته ونفعه على مفسدة تلك السيئة، وهذا من أسرار مسائل التوبة ولطائفها.
الوجه العاشر: أن ذنب العارف بالله وبأمره قد يترتب عليه حسنات أكبر منه وأكثر، وأعظم نفعًا، وأحب إلى الله من عصمته من ذلك الذنب، من ذل وانكسار وخشية، وإنابة وندم، وتدارك بمراغمة العدو بحسنة أو حسنات أعظم منه، حتى يقول الشيطان: يا ليتني لم أوقعه فيما أوقعته فيه، ويندم الشيطان على إيقاعه في الذنب، كندامة فاعله على ارتكابه، لكن شتان ما بين الندمين، والله تعالى يحب من عبده مراغمة عدوه وغيظه، كما تقدم أن هذا من العبودية من أسرار التوبة، فيحصل من العبد مراغمة العدو بالتوبة والتدارك، وحصول محبوب الله من التوبة، وما يتبعها من زيادة الأعمال هنا، ما يوجب جعل مكان السيئة حسنة بل حسنات.
وتأمل قوله: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]، ولم يقل مكان كل واحدة واحدة، فهذا يجوز أن يبدل السيئة الواحدة بعدة حسنات بحسب حال المبدل".اهـ. مختصرًا.
وقال أيضًأ في "شفاء العليل"(ص: 118):
"وكثير من الناس ينظر إلى نفس ما يتاب منه، فيراه نقصًا، ولا ينظر إلى كمال الغاية الحاصلة بالتوبة، وأن العبد بعد التوبة النصوح خير منه قبل الذنب، ولا ينظر إلى كمال الربوبية وتفرد الرب بالكمال وحده وأن لوازم البشرية لا ينفك منها البشر، وأن التوبة غاية كل أحد من ولد آدم وكماله، كما كانت هي غايته وكماله؛ فليس للعبد كمال بدون التوبة البتة، كما أنه ليس له انفكاك عن سببها، فإنه سبحانه هو المتفرد المستأثر بالغنى والحمد من كل وجه وبكل اعتبار، والعبد هو الفقير المحتاج إليه المضطر إليه بكل وجه وبكل اعتبار، فرحمته للعبد خير له من عمله؛ فإن عمله لا يستقل بنجاته ولا سعادته، ولو وكل إلى عمله لم ينج به البتة؛ فهذا بعض ما يتعلق بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم" ومما يوضحه أن شكره سبحانه مستحق عليهم بجهة ربوبيته لهم، وكونهم عبيده ومماليكه، وذلك يوجب عليهم أن يعرفوه ويعظموه ويوحدوه ويتقربوا إليه تقرب العبد المحب الذي يتقلب في نعمه، ولا غناء به عنه طرفة عين، فهو يدأب في التقرب إليه بجهده ويستفرغ في ذلك وسعه وطاقته ولا يعدل به سواه في شيء من الأشياء، ويؤثر رضا سيده على إرادته وهواه، بل لا هوى له ولا إرادة إلا فيما يريد سيده ويحبه، وهذا يستلزم علومًا وأعمالاً، وإرادات وغرائم لا يعارضها غيرها ولا يبقى له معها التفات إلى غيره بوجه ومعلوم".
إذا تقرر هذا؛ ظهر أن المسألة فيها تفصيل فهناك من التائبين من هم أفضل بكثير منهم قبل الذنب، وممن لم يذنب، وهناك من المذنبين من يعود بعد التوبة أقل من حاله قبل الذنب،، والله أعلم.